الصراع الجيوسياسي بين أمريكا والصين مفتوح على مصراعيه، وبعد أن سعت إدارة جو بايدن إلى الإضرار بالنمو الصيني من خلال "حظر" أشباه الموصلات المتقدمة، رصدت بكين تريليون يوان (143 مليار دولار) للرد بعنف، فما القصة؟
الصين وأمريكا هما الآن القوتان الأعظم على المسرح الدولي، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وكانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن اندلاع حرب بين القوتين، بسبب أزمة تايوان بالأساس، قد أصبح احتمالاً حقيقياً، مما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.
كيف شن بايدن حرباً تكنولوجية ضد الصين؟
كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين قد بدأت في التوتر خلال أغلب فترات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شن حرباً تجارية شرسة ضد بكين، لكن ذلك لم يمنع التنين من أن يصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، بينما يعاني الاقتصاد الأمريكي بشدة من التضخم، بفعل تداعيات جائحة كورونا، ثم حرب روسيا في أوكرانيا، وهو ما يحدّ من قدرة واشنطن على استخدام المساعدات الاقتصادية كورقة ضغط كما كان الحال سابقاً، عكس بكين.
ومع تولّي جو بايدن المسؤولية، وحديثه المتكرر بأن "أمريكا عادت لقيادة العالم"، أصبحت "المنافسة" علنيةً بين بكين وواشنطن، وأصبحت الحرب الباردة بينهما أمراً واقعاً، ليعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد، ليحل محل النظام القديم أحادي القطبية، أو بمعنى آخَر النظام الذي تقوده أمريكا وتهيمن عليه.
سعى ترامب إلى أن يُلحق بالصين جروحاً غائرةً من خلال حربه التجارية، لكن تلك الحرب لم تكن فعالة، وبعد نحو عامين من دخوله البيت الأبيض بدا أن جو بايدن قد وجد السلاح الذي قد يكون فتاكاً ويعيق بكين بالفعل، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، عنوانه "بايدن يعزل الصين عن الرقائق الإلكترونية".
وتسعى واشنطن بشتى الطرق الآن إلى تحقيق هدفها الرئيسي وهو عرقلة الصين، التي تسير في مسار ثابت نحو إزاحة أمريكا عن مركز القيادة العالمي. وأخيراً وجدت إدارة بايدن سلاحاً أكثر حدة، ويمكنه أن يعيق طموحات الصين التكنولوجية لما يصل إلى عقد من الزمان. ويتمثل الهدف في رقائق أشباه الموصلات، خاصةً الصنف المتطور المستخدم في الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي.
ولا تحظر ضوابط التصدير الجديدة التي أعلنتها إدارة بايدن هذا الشهر، بيع هذه الرقائق إلى الصين فحسب، بل تحظر أيضاً بيع المعدات المتطورة اللازمة لصنعها، وكذلك المعرفة من أي مواطن أمريكي أو مقيم أو حاملي البطاقة الخضراء.
وتدعم رقائق أشباه الموصلات، التي لها عرض بسكويت الرقاقة وحجم الظفر، كل شيء من هواتفنا الذكية إلى أنظمة الأسلحة المتقدمة التي خصّتها الولايات المتحدة بالذكر في ملفها للإعلان عن قيود التصدير.
والأهم من ذلك أنه لا غنى عنها لتقنيات المستقبل؛ مثل الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة، إضافة إلى كل صناعة تقريباً من الأدوية إلى الدفاع، وهذه هي أكثر نقطة تستطيع القيود الأمريكية أن تؤذي من خلالها الصين.
كيف ردت الصين في "حرب" أشباه الموصلات؟
الرد الصيني لن يتأخر كثيراً على ما يبدو، إذ قالت ثلاثة مصادر لـ"رويترز"، الأربعاء 14 ديسمبر/كانون الأول، إن بكين تعمل على إعداد حزمة دعم تزيد قيمتها على تريليون يوان (143 مليار دولار) لصناعة أشباه الموصلات لديها، في خطوة كبيرة نحو تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من الرقائق ومواجهة التحركات الأمريكية التي تهدف إلى إبطاء تقدمها التكنولوجي.
وأضافت المصادر أن بكين تخطط لطرح واحدة من أكبر حزم الحوافز المالية على مدى خمس سنوات، والتي ستكون بشكل أساسي في صورة إعانات وائتمانات ضريبية لتعزيز إنتاج أشباه الموصلات وأنشطة البحث في الداخل.
ويشير ذلك، كما توقع محللون، إلى نهج مباشر بصورة أكبر، من جانب الصين في تشكيل مستقبل صناعة أصبحت قضية جيوسياسية ساخنة، بسبب الطلب المتزايد على الرقائق التي تعتبرها بكين حجر الزاوية في قوتها التكنولوجية.
ويقول محللون إنه من المرجح أيضاً أن يثير ذلك مزيداً من المخاوف في الولايات المتحدة وحلفائها بشأن منافسة الصين في صناعة أشباه الموصلات. ويشعر بعض المشرعين الأمريكيين بالقلق بالفعل إزاء زيادة قدرة الصين على إنتاج الرقائق.
وقال مصدران رفضا الكشف عن هويتهما لأنهما غير مصرح لهما بالحديث لوسائل الإعلام، إن الخطة قد تنفذ في الربع الأول من العام الجديد. وأضاف المصدران أن غالبية المساعدة المالية ستستخدم في دعم مشتريات معدات أشباه الموصلات المحلية من قبل الشركات الصينية. وقالت المصادر الثلاثة إن مثل هذه الشركات ستحصل على دعم بنسبة 20% على تكلفة المشتريات.
كانت الصين قد وضعت طموحات محددة لقطاعها التكنولوجي، مع العديد من الخطط الحكومية على مدى العقد الماضي، والتي حددت أهدافاً مثل الاكتفاء الذاتي في التصنيع عالي التقنية بحلول عام 2025، والقيادة العالمية في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وهيمنة معايير الصناعة العالمية بحلول عام 2035. وتستهدف أحدث وسائل الهجوم الأمريكية مباشرةً علامة "صنع في الصين".
راج فاراداراجان، العضو المنتدب والشريك الأول في مجموعة بوسطن الاستشارية التي ركزت أبحاثها على صناعة أشباه الموصلات، قال لمجلة فورين بوليسي: "يتحدث الناس عنها على أنها النفط الجديد، أو يمكنك اختيار أية عبارة مُستهلَكة أخرى؛ لكنها موجودة ومنتشرة في كل شيء، وهذا أحد الأسباب التي تجعلها نقطة ساخنة".
ماذا تعني هذه الحرب التكنولوجية؟
تشير القرارات التي اتخذتها إدارة بايدن ضد بكين لحرمانها من أشباه الموصلات المتقدمة، والرد الصيني السريع من جانب نظام الرئيس شي جين بينغ، إلى مدى خطورة هذه الحلقة في سلسلة الصراع الجيوسياسي بينهما.
وهذا ما عبّر عنه دانييل غيرستين، باحث السياسات البارز بمؤسسة راند، الذي عمل سابقاً في مديرية العلوم والتكنولوجيا بوزارة الأمن الداخلي الأمريكية، بقوله لمجلة فورين بوليسي: "أعتقد أنَّ هذا يمثل أيضاً جزءاً من الإشارة إلى الصين، أننا لن نُسلِّم لمنحها القيادة العالمية في بعض هذه المجالات الحيوية، نحن لا نريد أن نخسر ونصبح مدينين بالفضل، إذا صح التعبير، للنُّهج الصينية".
وتمثل صناعة أشباه الموصلات حجر الزاوية في تلك الاستراتيجية، إذ كانت بكين قد قطعت خطوات كبيرة في الماضي القريب. فوفقاً لجمعية صناعة أشباه الموصلات، تسهم الصين الآن بنسبة 35% من السوق العالمية، لكن هذا الرقم يعكس المبيعات النهائية للرقائق الجاهزة لشركات الإلكترونيات، التي لدى العديد منها عمليات تصنيع كبيرة تتركز في الصين، لكن لا تزال الولايات المتحدة تهيمن على الأجزاء الأهم، والأعلى تقنية في العملية؛ مثل تصميم الرقائق والإنتاج الأوّلي.
وبينما يمكن للصين الاحتفاظ بمكانتها عند الطرف الأدنى من نطاق الصناعة وإنتاج رقائق الجيل الأقدم، تظل متخلفة في أحدث الأبحاث والتصميم والتكنولوجيا المتقدمة، التي تستهدفها قيود التصدير التي تفرضها إدارة بايدن. وكان من المحتمل أنَّ الصين ستجد نفسها مضطرة إلى تأجيل أهدافها في تلك المراحل لعدة سنوات، قبل الكشف عن حزمة التريليون يوان.
فأحد الأسباب المهمة لهشاشة الصين في تلك النقطة، فضلاً عن جهودها المضنية لتحقيق الاستقلال فيها، هو مدى ترابط سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات. فغالباً ما تُصمَّم الرقائق في بلد وتُصنَّع في آخر، باستخدام آلات من إنتاج بلد ثالث، وتختبرها دولة رابعة. وأخيراً تُجمَّع وتُوضَع في أجهزة إلكترونية في بلد خامس، وحتى أحياناً يزيد عدد الدول والخطوات بينها قليلاً عن ذلك.
وتحاول الولايات المتحدة التحوط من رهاناتها على تلك الجبهة أيضاً، بتمرير قانون الرقائق والعلوم هذا العام، الذي يوفر حوافز بقيمة 52 مليار دولار- معظمها للشركات التي أقامت مصانع للرقائق على أراضي الولايات المتحدة- ومئات المليارات من الدولارات لتعزيز قدراتها البحثية والتطويرية. وأجرى بايدن جولات في شمال ولاية نيويورك، للترويج لتأثير القانون، بما في ذلك بمصنع IBM قبل يوم واحد من الإعلان عن ضوابط التصدير، ومنشأة Micron يوم الخميس، 27 أكتوبر/تشرين الأول.
وبالنسبة للولايات المتحدة، يُعتبَر بناء نظام التصنيع البيئي الخاص بها آمناً من زاوية احتمالات الفشل. أما بالنسبة للصين فالأمر الآن أصبح ضرورة مطلقة.
جوردان شنايدر، كبير المحللين في مجموعة Rhodium Group، قال لـ"فورين بوليسي": "هذا جهد سيستغرق مئات المليارات من الدولارات، وكمية لا تُصدَّق من المواهب الهندسية والطاقة لإعادة إنشاء سلسلة توريد لأشباه الموصلات لا تتضمن التكنولوجيا الأمريكية… وسلسلة التوريد هذه معولمة للغاية، لكنها أيضاً متخصصة جداً، بحيث لا يوجد في أية خطوة فيها سوى عدد قليل من الشركات في العالم التي يمكنها تنفيذها، وإذا كنت محجوباً نوعاً ما من أية خطوة من هذه الخطوات فلا يمكنك صنع رقائق".
لكن لا تزال هناك بعض الأسئلة دون إجابة، منها كيفية تطبيق القيود الأمريكية في الممارسة العملية، ففي كثير من الحالات تمنح القيود الشركات خيار التقدم للحصول على تراخيص لاستخدام التكنولوجيا الأمريكية وبيعها. قال فاراداراجان: "ليس من الواضح ما إذا كانت التراخيص ستُرفَض، بل من المحتمل جداً منحها، وبالتالي سيؤدي ذلك فقط إلى تأخير وإبطاء بعض الأشياء".
وكان السؤال الكبير هو ما إذا كانت الصين ستردّ وكيف ستفعل ذلك، حيث انتقدت بكين ما وصفته بـ"إساءة استخدام" ضوابط التصدير، وحذرت من أنَّ القيود قد "تأتي بنتائج عكسية" في نهاية المطاف على واشنطن، لكن ردها حتى الآن كان مجرد تنديد، بعيداً عن التعريفات المتبادلة التي كانت سمة مميزة لحرب ترامب التجارية، ومع إعلان حزمة الدعم الضخمة من جانب بكين يبدو واضحاً أن حرب أشباه الموصلات في طريقها للاشتعال.
فاستخدام أشباه الموصلات على وجه التحديد كسلاح يعني أن الفجوة الهائلة بين القدرات التكنولوجية الأمريكية والصينية ستتسع، وفي حين أنَّ الصين تمثل جزءاً كبيراً من سوق رقائق العُقدة الكاملة- أقدم وأكبر أشباه موصلات ليست متطورة لكنها تُستخدَم في منتجات مثل السيارات– لكنها ليست ضرورية، ومن المحتمل أن ينتقل الإنتاج إلى مكان آخر دون الكثير من الاضطراب.
وكانت الحكومة الصينية قد عقدت اجتماعات طارئة مع أكبر شركات أشباه الموصلات في البلاد لتقييم تأثير القيود الأمريكية، وذكرت صحيفة The Financial Times البريطانية أنَّ إحدى الشركات الرائدة الصينية Yangtze Memory Technologies طلبت بالفعل من العديد من الموظفين الأمريكيين المغادرة.
وستضطر الصين إلى مضاعفة جهودها المستمرة منذ سنوات، لبناء نظام أشباه موصلات خاص بها، وقد تنجح في تحقيق هدفها المتمثل في الاكتفاء الذاتي على المدى الطويل، لكن على المدى القصير من المحتمل أن تشعر بألم هذه القيود.
وفي هذا السياق، قالت المصادر لـ"رويترز"، إن بكين تهدف من خلال حزمة الحوافز إلى تكثيف الدعم لشركات الرقائق الصينية من أجل بناء أو توسعة أو تحديث المرافق المحلية للتصنيع والتجميع والتعبئة والبحث والتطوير. وأضافوا أن أحدث خطط بكين تتضمن أيضاً سياسات ضريبية تفضيلية لصناعة أشباه الموصلات في البلاد.