تتحول الصين في عهد رئيسها الحالي شي جين بينغ، إلى دولة شديدة المركزية تتبع سياسات حازمة في الداخل وهجومية في الخارج، مسلحة باقتصاد شديد القوة وسلطة شديدة المركزية وإمكانيات تكنولوجية هائلة، بشكل قد يمنحها نفوذاً في الداخل والخارج، لم يعرفه التاريخ من قبل.
عندما تولى شي جين بينغ زمام الأمور أشاد به كثيرون في الغرب ووصفوه بأنه النسخة الصينية عن آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وتصور بعضهم أنه سيتبنى إصلاحات جذرية ويلغي قبضة الدولة المُحكمة على الاقتصاد ويضفي الطابع الديمقراطي أو شبه الديمقراطي على النظام السياسي، لكن بالطبع تبين أن ذلك لم يكن سوى محض خيال.
وعوضاً عن ذلك عمل شي، وهو تلميذ مخلص لماو تسي تونغ ومتشوق بالقدر نفسه إلى ترك بصماته في التاريخ، على ترسيخ سلطته المطلقة، ليصبح الزعيم الأقوى في تاريخ البلاد بعد ماو تسي تونغ، بينما يتوسع نفوذ البلاد الاقتصادي والسياسي والعسكري خارجياً بشكل يقلق الغرب والعديد من جيران البلاد الآسيويين.
وبينما كان الغرب يراهن على أن الانفتاح والنمو الاقتصاديين الهائلين للصين، كانا سيؤديان إلى انفتاح سياسي ولو جزئي، ولكن البلاد تحت حكم الرئيس الصيني الحالي تتجه لتحقيق معادلة لم يكن يتصورها الغرب: نظام اقتصادي شديد التطور وشديد الرقمية، ونظام سياسي شديد الصرامة بشكل يفوق حتى أكثر عهود حكم الحزب الشيوعي انغلاقاً، حيث يلعب تقدم الصين الاقتصادي التكنولوجي دوراً كبيراً في تقوية الحكم الاستبدادي.
والأهم أن الصين تتحول من حكم الحزب الشيوعي كمؤسسةٍ اتخاذ القرار فيها له شكل جماعي، إلى حكم استبدادي فردي، وهو ما ظهر في تعديل الدستور للسماح للرئيس الصيني بالترشح لولاية رئاسية ثالثة، وتوليه قيادة الحزب الشيوعي للمرة الثالثة، خلافاً للأعراف السابقة، مع استبعاد مراكز قوة تقليدية مثل رئيس الوزراء السابق رئيس الوزراء لي كه تشيانغ.
ويمثل المؤتمر الوطني العشرون للحزب الشيوعي الصيني والذي عقد في مئوية تأسيس الحزب في الفترة من 16 إلى 22 أكتوبر/تشرين الأول 2022، نقطة مفصلية في تاريخ البلاد.
فبالإضافة إلى تم تمديد ولاية الرئيس الصيني أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني، لمرة ثالثة، شهد المؤتمر اعتماد مشروع تعديل دستور الحزب، والإعلان عن "تقرير العمل"، وهو خطاب يلقيه زعيم الحزب الشيوعي الصيني في كل مؤتمر يحدد من خلاله السياسات الرئيسية التي ستُعتمد خلال السنوات الخمس المقبلة.
من خلال مطالعة "تقرير العمل" وإجراءات المؤتمر الوطني، يظهر أن شي جين بينغ سيواصل سياسة داخلية تعتمد على تدخل أكبر للدولة في الاقتصاد والمجتمع، فضلاً عن تعزيز سلطته الشخصية على الحزب الشيوعي والنظام السياسي بصورة عامة، حسبما ورد في تقرير لمركز أسباب.
ويظهر التقرير أن بكين ستنتهج سياسة خارجية ترتكز على فرض حضور الصين كمنافس جيوسياسي دولي في مواجهة الجهود الأمريكية الدولية التي تستهدف كبح صعود الصين.
في الداخل تهميش الشركات لصالح الدولة ومزيد من القيود على التعبير
تبنى "شي" بعض السياسات الانفتاحية خلال السنوات العشر الماضية، مثل فتح الأسواق الصينية أمام الشركات الأجنبية، لكنّه تمسك بسياسات أخرى داعمة لدور أكبر للدولة في الأسواق، وهو ما تسبب في تقليل جاذبية الصـين للاستثمارات الأجنبية.
ورغم عدم تخلي الصين عن رأسماليتها، يُظهر حكم الرئيس الصيني، ميلاً إلى تعزيز دور الدولة وشركاتها في الاقتصاد، وتهميش دور القطاع الخاص الصيني النامي.
وتوترت العلاقة بين أثرياء البلاد والحزب الشيوعي الحاكم، جراء حملة "الرخاء المشترك"، التي تصفها المصادر الغربية بالشعبوية.
فعلى سبيل المثال، أدت السياسة المتشددة تجاه عمالقة التكنولوجيا الآخذين في التوسع بسرعة مثل "علي بابا" (Alibaba) و"تينسنت" (Tencent)، من خلال فرض غرامات بمليارات الدولارات، إلى كبح جماح المستثمرين الأجانب من التعرض بشكل أكبر للسوق الصينية.
وكان أبرز ضحايا هذه الحملة الملياردير الصيني وأغنى رجل بالبلاد جاك ما مؤسس مجموعة علي بابا الذي أوقفت الحكومة خطته لتنظيم أكبر اكتتاب في العالم لطرح أسهم مجموعته المالية العملاقة، ويُعتقد أنه مُنع من السفر، ووُضع لفترةٍ قيد الإقامة الجبرية، كما قُيد نشاطه الإعلامي، بعد أن كان رمزاً للنخبة الصينية الثرية الجديدة.
كانت أزمة جاك ما مؤشراً على نهاية العصر الذهبي لرجال الأعمال وغيرهم من أثرياء الصين، فبعد أن وجّه انتقادات عنيفة للقواعد التنظيمية المالية التي وضعتها الصين، واتّهمها بأنها تخنق الابتكار عام 2019، اختفى جاك ما تماماً، عن الأنظار، وسط اتخاذ بكين جملة من الإجراءات وضعت إمبراطوريته المالية في حالة من الفوضى.
نلاحظ في "تقرير العمل" الجديد أن "شي" سيواصل جهوده لإخضاع الاقتصاد الصيني إلى سيطرة الدولة؛ إذ يشير التقرير إلى أن بكين ستنظر إلى الاقتصاد من منظور الأمن القومي وستقوم بدور أكبر في توجيه الأسواق، لا سيما في ظل توقعات باستمرار الاضطرابات التجارية العالمية التي أثرت على الأسواق الصينية خلال السنوات القليلة الماضية، ويؤكد التقرير أن الحكومة ستكون هي المحرك الرئيسي في توجيه الاستثمار في قطاعات معينة، مثل الاستثمار التكنولوجي بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي في العلوم والتكنولوجيا، وكذلك دور أكبر للدولة في تحقيق المرونة لسلاسل التوريد، خاصة في مجالات الطاقة والغذاء والموارد الحيوية الأخرى.
بالإضافة إلي ذلك، سيواصل "شي" سياساته الاقتصادية المفضلة، بما في ذلك النهج الصارم لتقليص حجم الديون، خاصة في قطاع العقارات -المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي- الذي يشهد أزمة بسبب الانهيار المالي لمستثمري العقارات الرئيسيين في الصـين خلال العام الماضي، بالإضافة إلى استمرار سياسة "شي" في محاربة عدم المساواة في توزيع الثروة، من خلال إيجاد طرق لتنظيم آليات تراكم الثروة، وكذلك الضبط المتدرج لتوزيع الدخل وحظر الدخل غير المشروع.
كيف استطاع شي جين بينغ تركيز السلطة في يديه؟
ساهمت الحملة الضخمة لمكافحة الفساد التي أسسها الرئيس شي جين بينغ في بداية حكمه في الحد من إساءة استخدام السلطة العامة داخل الحزب الشيوعي الصيني، حيث بلغ عدد أعضاء الحزب الذين تم التحقيق معهم خلال عقد من حكم "شي" ما يقرب من 5 ملايين عضو، بالإضافة إلى محاكمة أعضاء من المكتب السياسي وطرد 63 قائداً عسكرياً، ولا تزال الحملة مستمرة بشكل نشط، حيث جرى معاقبة 627 ألفاً من كوادر الحزب في عام 2021 وحده.
ولكن في الوقت نفسه؛ منحت حملة مكافحة الفساد "شي" أداة قمع للتخلص من خصومه ومنافسيه السياسيين داخل الحزب، كما أنها دفعت غالبية كوادر الحزب لتتوافق ضمنياً مع سياسات وأيديولوجية "شي"، خوفاً من أن يقعوا في دائرة تحقيقات الكسب غير المشروع بسبب آرائهم المخالفة، ويشير إدراج حملة مكافحة الفساد في مشروع تعديل دستور الحزب إلى إمكانية مواصلة "شي" استخدام الحملة على نطاق واسع لتعزيز سلطته داخل الحزب وإحكام قبضته على الوزارات والمحليات الصينية.
على الجانب الآخر؛ شهد تشكيل المكتب السياسي الجديد للحزب الصيني تغييرات تساهم في مزيد من سيطرة "شي" على الحزب؛ حيث يتشكل المكتب السياسي من لجنة دائمة تمثل أعلى هيئة سياسية في الصين، تضم 7 أعضاء من ضمنهم "شي"، بالإضافة إلى باقي أعضاء المكتب البالغ عددهم 17 عضواً، وفي التشكيل الجديد جرى تعيين عدد كبير من أعضاء الحزب في المكتب السياسي لديهم علاقات وثيقة مع "شي" أو تتوافق توجهاتهم مع أجندته السياسية، واستبعاد العديد من مسؤولي الحزب بسبب توجهاتهم المؤيدة للسوق الحرة أو بسبب اختلافهم مع "شي" في بعض المواقف، وتمهد التعديلات الواسعة التي شهدها المكتب السياسي الطريق أمام "شي" لتمديد ولايته إلى فترة رابعة بحلول عام 2027، في ظل عدم وجود احتمالات واضحة لخلافته داخل اللجنة الدائمة للمكتب السياسي.
وأعلن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم أن الفلسفة السياسية للرئيس شي جين بينغ قد أضيفت إلى دستور الحزب تحت اسم "فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد"، في خطوة رمزية تضع رجل الصين القوي بمرتبة مؤسس النظام ماو تسي تونغ.
ورحبت مجموعة من المحافظين في الصين تتوق إلى ما كانت عليه الأمور في عهد مؤسس الصين الشيوعية ماو تسي تونغ، بما وصفوه بأنه "عهد جديد" من الاشتراكية وتأكيد المساواة مع الرئيس شي جين بينغ.
سور الصين الناري العظيم يفرض رقابة على الإنترنت ويمنع التأثيرات الغربية
يشير تقرير العمل إلى مواصلة شي جين بينغ جهوده الساعية لفرض سيطرة أكبر على المجتمع الصيني، وذلك من خلال غرس الأعراف الثقافية المحافظة، والتركيز على تعزيز الأيديولوجية الماركسية والقيم الاشتراكية والقومية في جميع جوانب المجتمع، بما في ذلك الفنون والتعليم وشؤون الأسرة والأنشطة الاجتماعية والترفيه والفضاء الإلكتروني والأوساط الأكاديمية والعسكرية.
في الوقت عينه؛ وبجانب إعادة تشكيل القيم والثقافة الصينية بما يتماشى مع المعايير الخاصة بالحزب الشيوعي الصيني، سيستمر "شي" في سياساته الصارمة لتضييق مساحة الحريات الشخصية، ووضع المجتمع الصيني تحت الرقابة، الأمر الذي يبدو بوضوح من خلال إصراره على الاستمرار في استراتيجية "صفر كوفيد" (zero-COVID) المتمثلة في عمليات الإغلاق المشددة والقيود المفروضة على السفر، وكذلك في التعامل مع المعارضة السياسية في هونغ كونغ، والقمع الصادم للإيغور الذي يوصف بالإبادة الثقافية، إضافة لمراقبة واسعة لوسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك على المستوى الشخصي، بشكل ضيّق الحريات الشخصية، وخلق نمطاً من تقييم إلكتروني للمواطنين بناءً على التزامهم بمعايير الدولة التي تزداد صرامة، وأصبح لكل مواطن نصيب من النقاط يتحدد حسب انصياعه لتعليمات الدولة، وقد يؤدي عدم التزامه لحرمانه من السفر أو مميزات أخرى.
يشكل سور الصين الناري العظيم الذي يفرض رقابة صارمة على الإنترنت ويمنع أغلب مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث الغربية أداة فاعلة في يد الحكومة الصينية للسيطرة على عقول مواطنيها، وضمان منع تسرب أفكار تعتبرها ضارة بما في ذلك التوجهات الديمقراطية.
الأولوية في الخارج لم تعد للسلام والتنمية بل تحدي الغرب والاستعداد لعقوباته
في عهد الرئيس شي جين بينغ، استطاعت الصين تحقيق نهضة اقتصادية سريعة جداً، الأمر الذي وفر لها تراكمات وفوائض مالية تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، فتحت لها مسالك إلى العالم الخارجي عبر الاستثمار السريع المعتمد على الأموال الساخنة، الأمر الذي اختصم كثيراً جداً من النفوذ الأمريكي والأوروبي.
واعتادت التقارير السابقة لمؤتمرات الحزب الصيني على استخدام مصطلح "السلام والتنمية" باعتباره الموجه الرئيسي للسياسة الصينية الخارجية، ومع ذلك لم يتضمن تقرير 2022 أي إشارة لهذا المصطلح، فعلى العكس من ذلك؛ أشار التقرير إلى الأوضاع الدولية المعقدة التي يجب أن تستعد الصين لتداعياتها مستخدماً مصطلح "العاصفة الخطرة"، وكذلك تكرار الإشارة إلى مصطلح "الأمن القومي".
وتشير تلك التغيرات إلى هيمنة منظور الأمن القومي على أولويات شي، والتي تشمل تحقيق الأمن الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي والاستراتيجي، وتؤكد أيضاً نية شي مواصلة سياسته الخارجية الأكثر جرأة واستعداداً للمواجهة، الأمر الذي نرجح معه المزيد من تصعيد التنافس والتوتر الجيوسياسي مع الولايات المتحدة والغرب في السنوات المقبلة.
يؤكد تقرير العمل على مواصلة الحزب الشيوعي الصيني كفاحه ضد الهيمنة الغربية الساعية إلى منع صعود الصين، ويحث التقرير كلاً من مسؤولي الحزب والمواطنين الصينيين على الاستعداد لـ"أسوأ السيناريوهات المتعلقة بالعقوبات الاقتصادية"، مثل سن مزيد من القيود الأمريكية على تجارة التكنولوجيا المتطورة، لذلك؛ من المرجح أن "شي" سيعمل على تعبئة الموارد المحلية لدعم خطط تحقيق الصين الاكتفاء الذاتي في التقنيات الرئيسية، من خلال الاستثمار على نطاق واسع في البحث والتطوير الصناعي والتكنولوجي.
هل تصبح الشركات الصينية بالخارج أداة استخباراتية؟
في الملف الخارجي، يعتقد أن الحكومة الصينية عززت قبضتها على الشركات العاملة في الخارج، بما في ذلك استخدام شركات التكنولوجيا لصالح الأهداف السياسية، كما ظهر في فضيحة التجسس المنسوبة لشركة هواوي على مقر الاتحاد الإفريقي الذي بنته الصين في أديس أبابا.
وأدت هذه السياسات لتشجيع حملة الولايات المتحدة الأمريكية على شركات التكنولوجيا الصينية، لا سيما هواوي.
كما يتعرض تطبيق تيك توك لحملة كبيرة في الغرب، قد تعرضه لمصير مشابه.
ورغم أن الشركات الأمريكية قد تخترق خصوصيات العالم بقدر أكبر بمراحل من نظيراتها الصينية، إلا أن واشنطن نجحت في إثارة القلق من شركات التكنولوجيا الأمريكية، وبدأت العديد من الدول الغربية وتلك الدائرة في فلكها بفرض رقابة أو قيود عليها.
هل حان الوقت لاستعادة تايوان؟
لم يلتزم الحزب الشيوعي سابقاً بتحديد موعد نهائي لاستعادة تايوان، بينما أشار شي، للمرة الأولى، إلى الأهمية البالغة لاستعادة تايوان بالنسبة إلى خطة "التجديد الوطني" للصين وإلى عزمه استكمال هذه الخطة بحلول عام 2049، كما لم يكشف تقرير العمل عن أي تغييرات رئيسية في سياسة بكين نحو تايوان والمتمثلة في اعتبار أن مجموعة صغيرة من "الانفصاليين التايوانيين" والقوى الأجنبية تحاول التدخل في الشؤون السيادية للصين، وأن بكين ستحاول حل المشكلة سلمياً، في حين سيظل استخدام القوة العسكرية خياراً متاحاً.
من ناحية تطوير القدرات العسكرية الصينية، لم يكتفِ شي بالدعوة إلى مزيد من التحديث العسكري والتدريب القتالي الفعلي، ولكن الأهم من ذلك؛ أنه أكد أهمية تركيز انتباه الجيش بأكمله على الاستعداد للحرب، الأمر الذي يشير إلى مواصلة بكين تدريباتها العسكرية بشكل متزايد حول تايوان وينذر بمشاركة عسكرية صينية أكبر في الخارج.
دور الغرب في دفع الرئيس الصيني للتشدد
يبدو التغير في سياسات الصين في عهد الرئيس الحالي، مثيراً للاستغراب على الأقل من وجهة نظر غربية، لماذا يغير الرجل سياسة الصين الحكيمة التي نهضت باقتصاد البلاد وكفلت لها تجنب تحدي الغرب، وفي الوقت نفسه تتدفق الأموال والتكنولوجيا منه، كما أن سياسة أسلافه، كانت من الممكن أن تضمن من وجهة نظر العديد من المراقبين الغربيين انتقالاً تدريجياً وبطيئاً، ولكنه سلس من سلطة حكم الحزب الاستبدادي المؤسسي المنفتح بتحفظ إلى حكم ديمقراطي أو شبه ديمقراطي.
يتجاهل الغرب دوره في هذا التغير، بدءاً من صعود الخطاب المناهض للصين في السياسة الغربية، إلى جانب استغلال الغرب لمطالب الشعوب الديمقراطية المشروعة في كثير من الأحيان لتحقيق مصالح غربية بالأساس، على حساب مصالح الأمم المنافسة له، مما جعل كثيراً من القوميين في العديد من الدول العالم ينظرون للدعوات الغربية للديمقراطية، باعتبارها أداة غربية لنشر الفوضى.
وهو ما يظهر في تلاعب الغرب مع الصين في ملفي تايوان، وهونغ كونغ، وحتى في ملف الإيغور، فرغم أنه من الواضح أن هناك مقداراً هائلاً للاضطهاد الصيني للإيغور، إلا أنه من الواضح أيضاً أن الغرب يتلاعب بالملف لمساومة بكين أكثر من حرصه على حقوق مسلمي الإيغور.
دوافع الرئيس الصيني لتغيير سياسة بلاده بهذه الحدة
ولكن بطبيعة الحال، فإن هناك دوافع ذاتية لسياسة الرئيس الصيني المتشددة سواء الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية.
فقد رصد عدد من المحللين بشكل واضح أن الرئيس شي يخشى من أن يؤدي الانفتاح السياسي في الاقتصاد إلى انهيار أو تفكك البلاد، مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي، الذي يرى شي أن سبب انهياره هو التهاون الأيديولوجي والقيادة الضعيفة، وليس المشكلات الاقتصادية.
ودليله، أن جمهوريات البلطيق كانت من بين الجمهوريات الأكثر تطوراً في الاتحاد السوفييتي، ولكنها كانت أول من غادر عندما انهار الاتحاد، وكذلك يرى أن الرخاء النسبي ليوغوسلافيا لم يمنع كذلك تفككها.
الفارق بين الطريقتين الأمريكية والصينية للوصول لمكانة القوى العظمى الأولى
بينما تسعى الولايات المتحدة في السنوات القادمة لتعزيز ما تعتبره عوامل قوتها الذاتية، متمثلة في المبادرة الفردية والابتكار وإتاحة الفرص للأفراد والقطاع الخاص، تتجه سياسة شي المحلية، في المقابل، نحو مزيد من مركزية الدولة والرهان على دورها في قيادة الابتكار وتعبئة الطاقات المحلية وتنظيمها، يعكس هذه حقيقة جيوسياسية ثابتة، وهي أن الصراع الدولي المتنامي يستبطن تنافساً بين نماذج حضارية تسعى لإثبات جدارتها وترفض جهود تعميم المعايير وفرضها.
تكمن أهمية التوجهات الخارجية التي عبر عنها شي في كونها تأتي في سياق دولي سرّعت حرب أوكرانيا من وتيرة تنافسه، وبينما أقر الناتو وإدارة بايدن بأن الصين هي المنافس الرئيسي المحتمل الذي بإمكانه تقويض الهيمنة الغربية، فإن "تقرير العمل" الصيني يرسل رسالة واضحة بأن الصـين ستواصل حشد مواردها من أجل المضي قدماً في مسعى الوصول إلى نظام دولي ثنائي القطبية، إن لم يكن أكثر تعددية.
كيف ستؤثر خطة الرئيس الصيني لتحدي الغرب على بقية العالم؟
الفارق بين الطريقة الأمريكية للوصول والحفاظ على مكانة القوى العظمى والطريقة الصينية للوصول لهذه المكانة، لن يؤثر فقط في الدولتين وحلفائهما، ومناطق تنافسهما الأساسية بل على مجمل العالم.
فمن ناحية سيشكل التنافس الجيوسياسي والاقتصادي الصيني الأمريكي شكل العالم ومصير الدول والتكنولوجيا والتجارة والمواد الخام خلال العقود القادمة، ومن ناحية أخرى فمن سيتفوق في هذه المنافسة سيكون ملهماً للآخرين.
ويحذر الغرب من أن النجاح الصيني سيكون بمثابة دفعة للدول الأخرى لاستلهام النموذج القائم على المركزية والتشدد الوطني، بل أحياناً الاستبداد، لكثير من قادة العالم.
ورغم ذلك فهناك مؤشرات بأن قوى إقليمية ديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا مثل الهند، وجنوب إفريقيا والبرازيل وتركيا، وإندونيسيا معجبة بتجربة النمو الصينية والقومية الحازمة والرفض للهيمنة الغربية، وعلى استعداد للتعاون مع بكين، ولكنها مصرة أيضاً على الاحتفاظ بنموذجها التعددي الديمقراطي.