تفاقم الخلاف السياسي والدبلوماسي المرير بين ألمانيا وبولندا، وكلتاهما عضو مهم بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، مما قوَّض التماسك والتضامن في كلتا المنظمتين، وبلغت الأزمة بين البلدين ذروتها في رفض وارسو تبرع برلين لها بأنظمة صواريخ باتريوت واقتراحها في المقابل، نقلها لأوكرانيا.
وتأكَّدَت مؤخراً الطبيعة السامة للعلاقة بين ألمانيا وبولندا من خلال عرض ألماني لتقديم بطاريتين من صواريخ باتريوت للدفاع الجوي النادرة والمكلفة إلى بولندا، بعد أن انحرف صاروخ أوكراني عن مساره وقتل اثنين من البولنديين الشهر الماضي في بلدة برزيودو الصغيرة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وقبلت بولندا في البداية عرض باتريوت، ثم رفضته. ثم أصرت على وضع البطاريات في أوكرانيا، وهي دولة غير عضو بحلف شمال الأطلسي، ومما يزيد من حرج ألمانيا أن أنظمة الصواريخ هذه ستُشغَّل من قبل أفراد الناتو.
وبعد قلق الحلفاء الكبير من الرد البولندي وانتقاد الجمهور له، يبدو الآن أن البولنديين قد قبلوا الصواريخ مرة أخرى.
أزمة الصواريخ أعادت للأذهان الخلاف التاريخي بين ألمانيا وبولندا
وقال ميشال بارانوفسكي، المدير الإقليمي لصندوق مارشال الألماني في وارسو: "هذه القصة كلها أشبه بأشعة إكس للعلاقات البولندية الألمانية البائسة. إنها أسوأ مما كنت أعتقد، وقد شاهدت ذلك منذ وقت طويل".
لطالما كانت بولندا حذرة من ألمانيا، فتحوُّل بولندا من قوة عظمى أوروبية إلى مستعمرة مقسمة، جاء باتفاق روسي ألماني في القرن الثامن عشر، حيث تم ابتلاع بولندا (الكومنولث البولندي الليتواني الذي كانت تقوده وراسو)، وتقسيمها على ثلاث مراحل بين روسيا القيصرية والإمبراطورية الرومانية المقدسة (إمبراطورية ألمانية تقودها النمسا) وبروسيا (كبرى الدول الألمانية التي وحدت ألمانيا).
كان غزو هتلر عام 1939 بداية الحرب العالمية الثانية، وتم من خلال تواطؤ روسي ألماني.
ونظرت بولندا بامتعاض للتقارب الألماني مع موسكو وأنظمة شرق ووسط أوروبا التي كانت تخضع للاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، واستمرار برلين في هذه السياسة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وصولاً للموقف الألماني الذي يراه كثيرون ضعيفاً بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 في عهد المستشارة الألمانية السابق أنجيلا ميركل.
وانتقدت بولندا باستمرارٍ اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية وخطي أنابيب نورد ستريم اللذين صُمِّما لنقل الغاز الروسي الرخيص مباشرة إلى ألمانيا وتجاوز بولندا وأوكرانيا، وبدأ العمل في نور ستريم 2 بعد ضم القرم وكأنه ألمانيا تساعد روسيا في إيجاد بديل لخطوط الغاز المارة من أوكرانيا بولندا لضمان استمرار الإمدادات في حال غزو موسكو لهذه البلدان، وأصرت ميركل عليه رغم العقوبات الأمريكية.
وقبيل الغزو الروسي لأوكرانيا، صدم قائد البحرية الألمانية في ذلك الوقت، أوكرانيا والغرب بامتداحه روسيا وبوتين ودعوته إلى التحالف معه ضد الصين باعتباره مسيحياً، والأغرب دعوته إلى نسيان احتلال روسيا شبه جزيرة القرم باعتباره أمراً واقعاً، قبل أن يستقيل بسبب الانتقادات الحادة التي تعرض لها.
لقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 إلى تكثيف وجهة النظر في بولندا بأن علاقات ألمانيا الوثيقة مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين لم تكن ساذجة فحسب، بل أنانية، وأنها في الوقت الحالي ربما كانت معلقة فقط وليست متقطعة بشكل دائم.
ومؤخراً، قال المستشار الألماني أولاف شولتز، اليوم السبت، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصمم على احتلال أجزاء من أوكرانيا ولا يظهر أي حدود لوحشيته، لكن لا يزال من المهم إبقاء قنوات الاتصالات معه مفتوحة لتحيُّن لحظة إنهاء الحرب.
وأضاف: "ومع ذلك سأستمر في التحدث معه، لأنني أريد أن أشعر باللحظة التي يمكن فيها الخروج من هذا الوضع. وهذا غير ممكن دون أن نتحدث معاً".
فجوات بين شرق أوروبا وغربها
وقالت جانا بوجليرين، مديرة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، إن كلا الجانبين الألماني والبولندي ارتكب أخطاء في النزاع الحالي. وأضافت: "العلاقة تتدهور منذ سنوات، لكن المشكلة بين ألمانيا وبولندا بلغت ذروتها الآن وتسبب ضرراً حقيقياً". وأضافت: "هناك فجوة ناشئة بين شرق وغرب أوروبا وأوروبا القديمة وأوروبا الجديدة، وهذا لا يفيد إلا فلاديمير بوتين".
وقال دبلوماسي ألماني رفيع المستوى رفض الكشف عن هويته، إن ألمانيا اعتقدت أن إيماءة المساعدة العسكرية هذه ستكون "عرضاً أفضل بحيث لا يمكن رفضه"، وستساعد في إقناع البولنديين بأن ألمانيا حليف موثوق به، خاصةً أن البولنديين أنفسهم يحاولون، كما قال، شراء صواريخ باتريوت، وهي نظام الأرض جو المضاد للصواريخ الأشهر في الغرب.
ولكن بعد أن قبل وزير الدفاع والرئيس البولندي العرض بسرعة، رفضه ياروسلاف كاتشينسكي، الزعيم القوي البالغ من العمر 73 عاماً لحزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا، بعد يومين فقط.
زعيم بولندا القوى اتهم ألمانيا بالوقوف بجانب روسيا
لم يقتصر الأمر على إصرار ياروسلاف على أن تذهب صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا، بل أشار إلى أن ألمانيا، التي يهاجمها بانتظام باعتبارها تقف إلى جانب روسيا على حساب بولندا، والتي سيدير جنودها صواريخ باتريوت، لن تجرؤ على مواجهة روسيا. وقال كاتشينسكي: "موقف ألمانيا حتى الآن لا يعطي أي سبب لاعتقاد أنهم سيقررون إطلاق النار على صواريخ روسية".
وليس لكاتشينسكي دور رسمي في الحكومة البولندية، لكن وزير الدفاع، ماريوس بلاشتشاك، وافق على اتجاهه في غضون ساعات. وكان الرئيس البولندي، أندريه دودا، وهو من الحزب نفسه، وهو أيضاً القائد العام لبولندا، محرجاً من العرض الواضح المؤلم لعجزه.
كان حلفاء الناتو غاضبين بهدوء، على وجه التحديد لأن صواريخ باتريوت سوف تُشغَّل بواسطة جنود ألمان، وقد أوضحت الكتلة الدفاعية أنها لن تنشر قوات في أوكرانيا وتخاطر باندلاع حرب بين الناتو وروسيا.
وقالت ألمانيا إن أي قرار بإرسال صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا يجب أن يكون قراراً من حلف شمال الأطلسي، وليس قراراً ثنائياً.
واكتشف بعض المحللين دافعاً سياسياً من الجانب الألماني أيضاً. وقال فويتشيك برزيبيلسكي، رئيس تحرير صحيفة Visegrad Insight ورئيس مؤسسة ريس بوبليكا البحثية ومقرها وارسو، إن العرض المُقدَّم من برلين، والذي جاء بعد وقتٍ قصير من مقتل البولنديَّين، كان "جهداً ألمانيّاً واضحاً للفوز في الحرب الدبلوماسية المريرة والسامة بين ألمانيا وبولندا".
ومع ذلك كان قول رئيس الائتلاف الحاكم في بولندا، إنه لا يثق بألمانيا كحليف أمراً صادماً". وأضاف برزيبيلسكي: "إذا أُديرَ الأمر بشكل سيئ، فهذا يمكن أن يضر بوحدة التحالف خارج البلدين.. لم أر قط استخدام الأمن بهذه الطريقة، في هذا المزيج السام".
لكن الدبلوماسي الألماني قال إن ألمانيا قررت إبقاء العرض مفتوحاً، وأظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة كبيرة من البولنديين يعتقدون أن وجود صواريخ ألمانية في بولندا فكرة جيدة.
ليلة الثلاثاء، غيرت الحكومة البولندية موقفها مرة أخرى. إذ أعلن بلاشتشاك، وزير الدفاع، أنه بعد محادثات أخرى مع برلين، وافق "بخيبة أمل" على أن الصواريخ لن تصل إلى أوكرانيا، مضيفاً: "لقد بدأنا ترتيبات العمل لنشر منصات الإطلاق في بولندا وجعلها جزءاً من نظام قيادتنا".
لكن المرارة ستستمر، وقليلون يتوقعون أن يتوقف كاتشينسكي وحزبه عن التشكيك في صدق ألمانيا. في أكتوبر/تشرين الأول فقط، على سبيل المثال، طالبت وارسو فجأة ألمانيا بدفع تعويضات عن الحرب العالمية الثانية، بحساب 1.3 تريليون دولار من الخسائر في زمن الحرب، وهي قضية قالت برلين إنها تمت تسويتها في عام 1990.