مزيج متناقض من التفاؤل والشكوك التي وصلت للرفض، قوبل بها اتفاق تسليم السلطة في السودان المعروف باسم الاتفاق الإطاري الذي وُقع بين العسكريين وقوى سياسية متعددة مؤخراً، في ظل مخاوف من أن يكرر قادة الجيش نكوصهم عن تعهداتهم مثلما فعلوا في اتفاق تسليم السلطة الذي وقع عام 2019، بعد أشهر من إقالة الرئيس السوداني عمر البشير.
وينص الاتفاق على تشكيل حكومة مدنية يرأسها رئيس وزراء بصلاحيات واسعة، بالإضافة إلى مجلس للسيادة برئاسة مدنية تتولى السلطة خلال فترة انتقالية مدتها 24 شهراً يعقبها إجراء انتخابات.
والاتفاق الإطاري هو الشق الأول من عملية سياسية على مرحلتين ترتكز على مسودة الدستور التي أعدتها نقابة المحامين السودانيين أخيراً، بحسب قوى الحرية والتغيير الموقعة عليه.
وبموجب الاتفاق، سيتفق الموقعون على رئيس وزراء مدني يتولى السلطة في البلاد لمرحلة انتقالية جديدة تستمر عامين، أي نهاية عام 2024 أو بداية 2025، علماً بأن اتفاق تسليم السلطة السابق الذي أخل به العسكريون كان ينص على تسليم السلطة في عام 2023.
ويحدد اتفاق الخطوط العريضة لعملية انتقالية بقيادة مدنية دون التطرق إلى التفاصيل والمهل الزمنية في كل الأمور، ويتعهد بالمساءلة وإصلاح قطاع الأمن ويمنع الجيش من التدخل في شؤون لا تتعلق بالمؤسسة العسكرية.
وسبق أن وافق الجيش السوداني على تقاسم السلطة مع مسؤولين عينتهم جماعات سياسية مدنية ريثما يتم إجراء انتخابات، وذلك بموجب اتفاق أُبرم في أغسطس/آب 2019، لكن ذلك الترتيب تعطل فجأة نتيجة انقلاب عسكري في أكتوبر/تشرين الأول 2021 إثر سلسلة من الاحتجاجات الحاشدة المنادية بالديمقراطية في أنحاء السودان.
وقع اتفاق تسليم السلطة في السودان عن عن المكون العسكري قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، بينما وقع عن المكون المدني نحو أربعين حزباً ونقابات مهنية من بينها مجموعة المجلس المركزي وفصائل مسلحة وأحزاب سياسية ذات توجهات مختلفة.
ولكن أبرز الموقعين عن القوى المدنية، هو قطاع من قوى الحرية والتغيير، وهي الفصيل المدني الرئيسي الذي استُبعد منذ استئثار الجيش بالسلطة، إثر انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021، ولكن الاتفاق الإطاري عارضته قوى أساسية منها ما هو محسوب على القوى المدنية ومنها قوى إسلامية أو قوى مسلحة إقليمية من بينها فصيل من قوى الحرية والتغيير.
العسكر للثكنات
وردّد رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان هتاف "العسكر للثكنات" خلال خطابه أثناء مراسم توقيع اتفاق تسليم السلطة في السودان، وهو الهتاف الذي استخدم المحتجون في التظاهرات للمطالبة بخروج الجيش من المشهد السياسي بعد انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021.
وأعلن البرهان، الذي يتولى منصب القائد العام للقوات المسلحة، خروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية بالبلاد؛ استجابة لمطالب الثوار، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الرسمية (سونا).
وحضر مراسم التوقيع -التي جرت في القصر الرئاسي- رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وسياسيون ودبلوماسيون من دول عربية وأوروبية.
بنود اتفاق تسليم السلطة في السودان
أبرز بنود الاتفاق الجديد تسليم السلطة الانتقالية إلى سلطة مدنية كاملة دون مشاركة القوات النظامية؛ وتتكون من مستوى سيادي مدني محدود (رئيس مجلس السيادة)، بمهام شرفية، يمثل رأساً للدولة، ورمزاً للسيادة، وقائداً أعلى للأجهزة النظامية؛ ومستوى تنفيذياً يرأسه رئيس وزراء مدني تختاره القوى الموقعة على الاتفاق، وسيشكل حكومة ذات صلاحيات واسعة.
ويَحُد الاتفاق المبدئي من الدور الرسمي للجيش، حيث سيتم تشكيل مجلس للأمن والدفاع يرأسه رئيس الوزراء ويضم قادة الأجهزة النظامية وعدد من الوزراء، من بينهم وزراء الدفاع والخارجية والمالية، و6 من حركات الكفاح المسلح الموقعة على سلام جوبا.
وفقاً للاتفاق، يتولى الفريق عبد الفتاح البرهان منصب قائد الجيش، بينما يتولى الفريق محمد حمدان دقلو منصب قائد قوات الدعم السريع.
وينص الاتفاق الإطاري على تشكيل مجلس تشريعي يكون فيه ممثلون عن الأحزاب ولجان المقاومة، مع منح المرأة 40% من نسبة المقاعد.
ويؤكد اتفاق تسليم السلطة في السودان على النأي بالجيش عن السياسة وعن ممارسة الأنشطة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية؛ ودمج قوات الدعم السريع التي يقودها دقلو وقوات الحركات المسلحة في الجيش وفقاً للترتيبات التي يتم الاتفاق عليها لاحقاً في مفوضية الدمج والتسريح، ضمن خطة إصلاح أمني وعسكري تقود إلى جيش مهني وقومي واحد، بحسب ما كشفت عنه قوى إعلان الحرية والتغيير الطرف المدني الموقع على الاتفاق.
وينص الاتفاق على إزالة تمكين نظام 30 يونيو/حزيران 89 وتفكيك مفاصله في كافة مؤسسات الدولة، واسترداد الأموال والأصول المنهوبة، ومراجعة القرارات التي بموجبها تم إلغاء قرارات لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو/حزيران 1989، وإطلاق عملية شاملة لصناعة الدستور، تحت إشراف مفوضية "صناعة الدستور"، للحوار والاتفاق على الأسس والقضايا الدستورية وبمشاركة كل أقاليم السودان.
ويتضمن اتفاق تسليم السلطة في السودان تنظيم عملية انتخابية شاملة بنهاية فترة انتقالية مدتها 24 شهراً، على أن يتم تحديد مطلوباتها والتحضير لها في الدستور الانتقالي، لتكون ذات مصداقية وشفافية وتتمتع بالنزاهة.
وقال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، خلال كلمة له، إنهم ملتزمون بإجراء الانتخابات بنهاية الفترة الانتقالية وخروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية بصورة نهائية، وتحويل الجيش لمؤسسة تخضع للمؤسسات الدستورية ومنع تسييسها وتحيزها إلى جماعة أو أيديولوجيا.
قضايا مفصلية لم تحسم وتم تأجيلها
والاتفاق هو الشق الأول من عملية سياسية على مرحلتين ترتكز على مسودة الدستور التي أعدتها نقابة المحامين السودانيين أخيراً، بحسب بيان قوى الحرية والتغيير.
أما الشق الثاني من الاتفاق، فسيتم النظر فيه لاحقاً؛ ويشمل قضايا عدة من بينها العدالة الانتقالية وإصلاح الجيش فينتظر أن يتم الانتهاء منه "في غضون أسابيع"، وفق البيان، وذلك بمشاركة جماهيرية واسعة من أصحاب المصلحة والقوى الموقعة على الإعلان السياسي وقوى الثورة.
وقالت قوى الحرية والتغيير، وهي فصيل مدني رئيسي كان انقلاب البرهان أطاح به، إن الاتفاق الإطاري يمهد الطريق لتشكيل سلطة مدنية انتقالية.
ولكن اتفاق تسليم السلطة في السودان جوبه بمعارضة واسعة، حيث دعا كثير من الناشطين المنادين بالديمقراطية ويرفضون "أي تفاوض وأي شراكة" مع الجيش إلى تظاهرات احتجاجاً على الاتفاق.
واعترض على الاتفاق كذلك قادة حركات التمرد السابقون الذين وقعوا في 2020 اتفاقاً مع الجيش ودعموه عقب انقلاب العام الماضي.
واعتبر المحللون الاتفاق "غامضاً وفضفاضاً".
وقالت الباحثة السودانية خلود خير من مركز كونفلوانس أدفايزوري "من الصعب معرفة إلى أي مدى سيحظى هذا الاتفاق بالشعبية". وأضافت قبل التوقيع على الاتفاق: "لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا يتضمن هذا الاتفاق والمسكوت عنه يثير القلق".
وأعلنت أحزاب سياسية وجهات نقابية عدة رفضها للاتفاق السياسي، حيث قاطعت جلسة التوقيع، وتضم قائمة الرافضين مجموعات متباينة فكرياً وسياسياً، وعلى رأسهم مكونات من التيار الإسلامي المنضوية تحت ما يسمى "التيار الإسلامي العريض"، وقوى الحرية والتغيير، مجموعة الكتلة الديمقراطية، والحزب الشيوعي وتجمع المهنيين الأصل والحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني.
وأكدت بعض لجان المقاومة التي تلعب دوراً محوريا في المظاهرات المضادة للعسكريين، رفضها لأي اتفاق مع المكون العسكري، بينما اعتبرت تيارات سياسية أن أي اتفاق ثنائي لا يساعد على حل الأزمة السياسية في البلاد.
ومن بين معارضي الاتفاق حركات مسلحة موقعة على اتفاق السلام السوداني (حلفاء الجيش السابقون).
وقال محمد زكريا الناطق باسم حركة العدالة والمساواة (متمردون سابقون في دارفور)، إن "هذا اتفاق ثنائي وإقصائي" يستبعد أطرافاً عدة. وأضاف في تصريح لفرانس برس "أن توقيع هذا الاتفاق ستترتب عليه نتائج سيئة" و"سيؤدي إلى مزيد من التعقيد في الساحة السياسية".
وانتقد اتفاق تسليم السلطة في السودان كذلك مني مناوي أحد قادة حركات التمرد السابقة في دارفور واصفاً إياه بأنه "أسوأ نموذج لسرقة الإرادة الوطنية".
كما تحفظ حزب البعث العربي الاشتراكي العضو في قوى الحرية والتغيير على الاتفاق، وأعلن انسحابه من التوقيع على الاتفاق، مع مشاركته في الاجتماعات والمناقشات التي سبقت عملية التوقيع.
وأبرز المؤيدين هم الأطراف الموقعة من قيادتي الجيش والدعم السريع وقوى الانتقال المكونة من قوى الحرية والتغيير -المجلس المركزي- وجماعتا المؤتمر الشعبي (حزب إسلامي أسسه الزعيم الإسلامي الراحل بعد خلافه مع البشير، حيث انفصل عن الحزب الحاكم في تسعينيات القرن الماضي المعروف باسم المؤتمر الوطني).
ورحب بالاتفاق الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية والأمم المتحدة.
هل يلتزم العسكريون بتعهداتهم؟
منذ الإطاحة بالبشير، والقوى المدنية السودانية التي تقدم نفسها باعتبارها قائدة الثورة، ترفض الإسراع بإجراء الانتخابات، كما طالب العسكريون أحياناً، وتصر على فترة انتقالية طويلة يكون لمسؤولين يتم اختيارهم من قبل القوى المدنية اليد العليا في السلطة بالمشاركة مع قادة الجيش.
ففي 8 مايو/أيار 2019، هدد قادة الاحتجاج في السودان، بتنظيم "عصيان مدني" في أرجاء البلاد، رداً على ما وصفوه بـ"تعطيل" نقل الجيش السلطة لحكومة مدنية، قائلين إن حديث المجلس العسكري عن انتخابات مبكرة محاولة لشرعنة النظام القديم.
والسبب في رغبة القوى المدنية في عدم إجراء انتخابات بسرعة، كما تقول هي نفسها هي خوفهم من فوز الإسلاميين بها، ولذلك يريدون فترة انتقالية طويلة يسيطرون على السلطة خلالها دون انتخابات، لإضعاف الإسلاميين تحت مسمى إزالة تمكين النظام السابق.
فائتلاف قوى الحرية والتغيير الذي يسيطر عليه اليسار السوداني، يعتبر عدوه الرئيسي الإسلاميين، وفي سبيل هذا التفكير رأى التحالف وتقاسم السلطة مع ما يمكن تسميته المكون غير المؤدلج في الجيش السوداني بما في ذلك أمير الحرب السابق محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع المعروف باسم حميدتي، والذي تتهم قواته بأنها امتداد لميليشيات الجنجاويد الموصومة بأنها ارتكبت جرائم في دارفور.
في 17 يوليو/تموز 2019: جرى توقيع الوثيقة الأولى لاتفاق تسليم السلطة الذي لعب الاتحاد الإفريقي دوراً في الوساطة للتوصل له، ثم في 17 أغسطس/آب أقيمت مراسم توقيع رسمية بحضور رؤساء دول وحكومات وشخصيات من دول عدة، يقضي الاتفاق السوداني بتقاسم السلطة بين طرفي النزاع خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات على الأقل، وتشكيل مجلس سيادة يتكون من 11 عضواً؛ وهم: خمسة مدنيّين تختارهم قوى إعلان الحرية والتغيير، وخمسة آخرون يختارهم المجلس العسكري الانتقالي، ويكون العضو الحادي عشر مدنياً، يتم اختياره بالتوافق بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير، ويرأس المجلس في الواحد والعشرين شهراً الأولى للفترة الانتقالية من يختاره الأعضاء العسكريون، ويرأسه في الثمانية عشر المتبقية من الفترة الانتقالية عضو مدني، وتشكيل مجلس وزراء يمثِّل السلطة التنفيذية العليا للدولة، ومجلس تشريعي يمتلك سلطة التشريع والرقابة على الجهاز التنفيذي.
وأعطى اتفاق تسليم السلطة الذي وقع في عام 2019 اليد العليا خاصة في السياسة والشؤون الأمنية والعسكرية لقادة الجيش، الذين هم في الأصل معينون من قبل البشير، بينما منح رئيس الوزراء المختار من قبل القوى المدنية عبد الله حمدوك ملف الاقتصاد الصعب، خاصة أنه مقبول من المجتمع الدولي، وبالفعل تمكن حمدوك من عقد اتفاق لتخفيض هائل في ديون السودان.
واستغل الجيش الفترة الانتقالية، لتعزيز قبضته على السلطة، وتمييع المساءلة القانونية وإضاعة الأدلة في الجرائم المنسوبة للعسكريين، ولا سيما مذبحة القيادة العامة المتهم فيها قوات الدعم السريع، كما تعززت في تلك الفترة قبضة قوات الدعم السريع على الاقتصاد.
كما استغل العسكريون هذه الفترة للمضي قدماً في التطبيع مع إسرائيل، والتحالف مع القوى المتمردة المسلحة الإقليمية السابقة، (أعدائهم السابقين) ضد القوى المدنية، واستغلال الاتفاقات معهم للنكوص عن الاتفاق مع القوى المدنية لتسليم السلطة.
ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020 وقع مجلس السيادة اتفاق سلام مع بعض المتمردين في البلاد، يعدل المواعيد بشأن تسليم السلطة دون تحديد تاريخ جديد، بعد أن كان الإعلان الدستوري، المُوقع في أعقاب الانتفاضة التي أطاحت بالبشير، قد حدد موعداً لتسليم قيادة مجلس السيادة في مايو/أيار 2021.
أي أن قوى الحرية والتغيير تركت رئاسة النصف الأول من فترة مجلس السيادة الانتقالي إلى العسكريين ممثلين في عبد الفتاح برهان ونائبه محمد حمدان، وقبلت بإطالة فترتهما الرئاسية وعدم تسليمهما رئاسة المجلس لعضو مدني كما نص الاتفاق الأول.
وفي 25 من أكتوبر/تشرين الأوّل 2021، أعلن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، إقالة رئيس الحكومة الانتقالية في ذلك الوقت عبد الله حمدوك الذي كان قد اختير لمنصبه من قبل القوى المدنية، كما أعلن حلّ مجلس السيادة، وهما سلطتَا الحكم في المرحلة الانتقاليّة التي كان يُفترض أن تفضي إلى تسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة ديمقراطياً في عام 2023.
وبالرغم من إعادة حمدوك إلى منصبه من دون حكومته في 21 من نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بموجب اتّفاق سياسي معه، إلا أن هذا الاتفاق لم ينَل رضا العديد من السودانيين الذين باتوا يطالبون بحكم مدني خالص، واعتبرت أغلب القوى المدنية قبول حمدوك بالعودة تحالفاً مع العسكر وتخلياً عن الثورة، وفقد الرجل دوره لحد كبير كممثل للقوى المدنية.
من خلال مراجعة هذا التاريخ، يظهر أن قادة الجيش وتحديداً البرهان وحميدتي يلجأون دوماً لعقد اتفاقات جديدة لإبطال الاتفاق الأصلي لتسليم السلطة، وبعد أن فعلوا ذلك مع القوى المسلحة الإقليمية، فإن الاتفاق الإطاري الجديد حقق لهم ذلك بموافقة ما يعرف بالقوى المدنية التي هي خصم لهم، وتقدم نفسها كمتحدثة باسم الثورة وأحياناً الشعب السوداني.
الاتفاق الجديد يجعل رأس الدولة مدنياً، ولكن هل يخضع الجيش السوداني له؟
اتفاق تسليم السلطة في السودان يتضمن أن يكون رأس الدولة مدنياً، ولكن لا يعرف كيف سيتم اختياره.
ومع أن الاتفاق الإطاري يعطي للقوى المدنية ميزة السيطرة على الأجهزة الأمنية والمخابرات، فإن الجيش يظل هو القوى الأكبر في البلاد، ومن يسيطر عليه (وزير الدفاع في هذه الحالة)، كما في كل الدول النامية، سيسيطر على البلاد وقتما يشاء.
والأهم أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تعلم أن مركز القوة الحقيقية هو البرهان وحميدتي، حيث يقود الأول الجيش، والثاني لديه ميليشيات الدعم السريع التي تدين له، وموراد مالية هائلة عبر سيطرته على تجارة الذهب في دارفور.
كما أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بطبيعتها قادرة على مراوغة قادتها الذين سيتم تعيينهم من قبل رئيس وزراء مدني.
والأغرب افتراض أن رجلاً مثل البرهان سيتخلى عن السلطة ببساطة للقوى المدنية وكذلك حميدتي سيقبل دمج قوات الدعم السريع التي تدين له بالولاء الشخصي، وسيقبل التخلي عن سيطرته على الذهب السوداني وهما العاملان اللذان يجعلانه أقوى رجل في البلاد، حيث يمتلك ذهب السودان وسيفه، ولا سيما أن تخلي الرجلين عن السلطة قد يعرضهما لمحاكمات خاصة في مذبحة القيادة العامة للقوات المسلحة.
والتساؤل الأهم لماذا لم يتم إجراء انتخابات بدلاً من كل هذه الاتفاقات الغامضة، خاصة أن طول الفترة الانتقالية والنشاط السياسي يسمح للشعب السوداني الآن بفرز من هو أصلح، ويفترض أن نضال القوى المدنية في العاصمة والمدن تحديداً خلال السنوات الماضية، وفر لها فرصة لا تعوض لبناء روابط وتعزيز شبكاتها الجماهيرية بما يؤهلها لخوض الانتخابات.
ولكن القوى المدنية تصر على تجربة ما سبق أن جربته مع افتراض حسن النية في العسكريين من أجل ضمان إقصاء الإسلاميين.