فرض الغرب عقوبات غير مسبوقة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، لكن بعد 10 أشهر، لا تزال الحرب مستمرة ويسعى الغرب نفسه لإيقافها، فهل فشلت العقوبات؟ أم أن هدفها لم يكن إيقاف الحرب من الأساس؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية تناولت إجابة هذه التساؤلات في تحليل عنوانه "العقوبات على روسيا تؤدي وظيفتها.. إليكم السبب"، رصد كيف أن الساسة المنتمين إلى طيفي اليمين المتطرف واليسار المتطرف في أوروبا يرون أن العقوبات المفروضة على روسيا غير ناجعة، وأضرت الأوروبيين فحسب.
إذ يرى هؤلاء أن العقوبات الغربية لم تضر الاقتصاد الروسي، الذي يرون أنه يزدهر في خضم الارتفاعات الكبيرة في أسعار الطاقة. فضلاً عن وجود آخرين، لا ينقلون بالضرورة الآراء التي تسوقها موسكو، لكنهم يجادلون بأن العقوبات فشلت لأنها لم تثنِ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تصعيد هجماته ضد أوكرانيا.
لماذا فرضت العقوبات الغربية؟
ولكن من خلال إلقاء نظرة على البيانات، نجد أن الأشخاص الذين يدعون أن العقوبات غير ناجعة مخطئون: فبعد 9 أشهر فقط من أولى العقوبات التي فُرضت ضد روسيا في أعقاب شن الهجوم على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، تؤثر هذه العقوبات بالفعل على قدرة موسكو على مواصلة عملياتها العسكرية. وهذه ليست إلا البداية، إذ إن العقوبات ضد روسيا ليست عَدْواً سريعاً، بل هي أقرب إلى ماراثون، وسوف تتعاظم نجاعة العقوبات مع مرور الوقت.
ينبع الالتباس حول نجاعة العقوبات من الافتقار إلى وضوح أهدافها، إذ لم تستهدف نوايا الدول الغربية قط استخدام العقوبات لإجبار بوتين على التراجع والانسحاب من أوكرانيا. إنهم يعلمون أن بوتين يعتقد أنه يشن حرباً من أجل بقاء روسيا ضد غربٍ متفسخٍ، بحسب فورين بوليسي.
وليس الهدف كذلك تغيير النظام في موسكو؛ لأن العقوبات ضد كوبا وكوريا الشمالية وسوريا لم تفلح قط في الوصول إلى هذا الهدف، وأيضاً ليس هناك سببٌ يدعو لتصديق أن خليفة بوتين في مثل هذه الفرضية سوف يغير مسار النظام على صعيد التعامل مع أوكرانيا. بجانب أن السعي لانهيار الاقتصاد الروسي على شاكلة ما حدث في فنزويلا، ليس الهدف أيضاً؛ فهذا الأمر يستحيل حدوثه عندما يكون النظام الاقتصادي المستهدف صاحب المركز الـ 11 في قائمة أقوى الأنظمة الاقتصادية حول العالم. فضلاً عن أن انهيار روسيا سوف يؤدي على الأرجح إلى حالة كساد اقتصادي عالمي ناتج عن توقف صادرات موسكو من السلع المتعددة، التي تتضمن الحبوب والأسمدة والطاقة والمعادن.
ما الأهداف الحقيقية للعقوبات على روسيا؟
فما هي إذن أهداف العقوبات الغربية ضد روسيا؟ لم تُذكر هذه الأهداف صراحة قط، ولكن من خلال إلقاء نظرة عن كثب على حزم العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما، سنجد أنها تشير إلى أنها تحمل في جعبتها ثلاثة أهداف.
يتمثل الهدف الأول في محاولة دول الغرب إرسال رسالة قوية إلى الكرملين تدل على الحسم والاتحاد. أما الهدف الثاني فيتعلق بتقويض قدرة روسيا على شن الحرب. فيما يكمن الهدف الثالث في الرهان الذي تحمله الأنظمة الديمقراطية الغربية على أن العقوبات سوف تخنق الاقتصاد الروسي، ولا سيما على صعيد قطاع الطاقة في البلاد. فإذا وُضعت فوق ميزان هذه المعايير، سنجد أن العقوبات تؤدي وظيفتها بكل وضوح.
تستخدم الدول الغربية العقوبات لنقل رسالة إلى الكرملين: تقف أوروبا والولايات المتحدة مع أوكرانيا. وانطلاقاً من ذلك المنظور، تحققت المهمة. التعاون العابر للأطلسي على صعيد العقوبات أثبت قوته على مدى الأشهر التسع الماضية، فليس هناك سوى قليل من الخلافات بين واشنطن والعواصم الأوروبية.
وأربك هذا توقعات بوتين المحتملة بأن الغرب كان سيظل ضعيفاً ومنقسماً، وهناك احتمالية كبيرة بأنه تفاجأ بسرعة اتخاذ هذه التدابير ونطاق تطبيقها. فقد استغرق فرض العقوبات ضد آلاف الشركات الروسية والأفراد الروس أسبوعين فقط من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن استبعاد عديد من المصارف الروسية من نظام سويفت لدعم المعاملات المالية الدولية، وتجميد نصف احتياطيات البنك المركزي الروسي.
إن إرسال رسالة دبلوماسية يعد بداية جيدة، لكن الهدف الرئيسي وراء العقوبات يتمثل في تقويض قدرة روسيا على مواصلة الحرب. وهنا أيضاً تنجح العقوبات في تأدية وظيفتها، فبرغم ادعاءات الكرملين التي تناقض هذه الفرضية، تسببت العقوبات في دخول الاقتصاد الروسي في حالة ركود عميق. لم يكن هذا التأثير ملحوظاً؛ لأن العقوبات لم تستهدف بعد صادرات الطاقة الخاصة بالبلاد. ففي واقع الأمر، زادت إيرادات النفط الروسية هذا العام بسبب ارتفاع أسعار النفط نتيجة للحرب. وإن كانت أسعار النفط عند متوسطاتها التاريخية، لتفاقمت الأمور بالنسبة للكرملين.
قلص الكرملين نشر الإحصاءات الاقتصادية، ويفترض أنه اتخذ هذا القرار لإنكار ما يقوله الغرب حول نجاح العقوبات. غير أن البيانات التي بين أيدينا ترسم صورة قاتمة. في أكتوبر/تشرين الأول، كان الناتج المحلي الإجمالي أقل بنسبة 4.4% مقارنة بنفس الشهر عام 2021.
وتقلص الإنتاج الصناعي، بما في ذلك عمليات استخراج النفط والغاز، بحوالي 3% عما كان عليه في 2021. انهارت حوالي 10% من تجارة التجزئة على أساس سنوي، مما يسلط الضوء على الخسائر الناتجة عن ارتفاع التضخم. كذلك تبدو البيانات المتعلقة بقطاع السيارات -الذي يعد مؤشراً رائداً على صحة الاقتصاد في روسيا، كما هو الحال في البلاد الأخرى- منذراً بالخطر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ تقلص إنتاج شركات السيارات الروسية بـ 64% مقارنة بعام 2021 بسبب نقص الطلب وشح المكونات المستوردة.
لم يكن شهر أكتوبر/تشرين الأول استثناء من كل هذا: فقد كانت البيانات مؤسفة في كل شهر بدءاً من شهر أبريل/نيسان الماضي. والأمور لا تتحسن؛ بل يحتمل أنها تتخذ منحى أسوأ في أعقاب بداية التعبئة التي انطلقت في أواخر سبتمبر/أيلول.
كيف تؤثر العقوبات الغربية على الداخل الروسي؟
وبينما يواجه هذا الموقف الاقتصادي الصعب، يعلم الكرملين أن الاستقرار المجتمعي في خطر. يرى بوتين أن الاستياء الشعبي قد يهدد بقاءه، وقد يكون محقاً في ذلك. وبرغم ذلك، تعني الحالة السيئة للاقتصاد أن موازنة روسيا تقع قطعاً في المنطقة الحمراء. وهذا غير اعتيادي بالنسبة لدولة مصدرة للطاقة، عندما ترتفع أسعار السلع بمستويات قياسية.
يشير هذا أيضاً إلى أن المشكلة تختمر: ففي الأشهر المقبلة، سوف تحتاج موسكو إلى معادلة صعبة تمول فيها الحرب التي تشنها في أوكرانيا وعلى الطرف الآخر من المعادلة، ستعمل على ضمان كفاية الدعم المجتمعي لتجنب الفوضى. ( لن يكون هذا بالأمر الهين إذا حدثت تعبئة ثانية). لا يزال الكرملين لديه احتياطيات ولا سيما من صندوق الثروة السيادي الخاص به. ولكن بدون تجديد للموارد، فسوف تجف هذه الاحتياطيات عند مرحلة ما، والحكومة الروسية تعتمد بالفعل على الاحتياطيات.
يصل مدى العقوبات الغربية إلى ما هو أبعد من النطاق الاقتصادي، وصولاً إلى القطاع التكنولوجي. في هذا المجال، تحمل الولايات المتحدة ورقة رابحة: فتقريباً جميع أشباه الموصلات المتقدمة التي تستخدم في المعدات الإلكترونية والعسكرية تُصنع باستخدام الخبرة المعرفية والفنية للشركات الأمريكية.
ومنذ بدأت الحرب في أوكرانيا، تفرض الولايات المتحدة مراقبة على الصادرات تقف حائلاً أمام وصول روسيا إلى الرقائق الدقيقة. وتجسد هذه مشكلة مُلِحَّة أمام موسكو، ليس أقلها أن الصواريخ الروسية تمتلئ بأشباه الموصلات التي لا تستطيع البلاد تصنيعها بنفسها. ولما كان يواجه نقصاً بنسبة 90% في واردات الرقائق الدقيقة، فإن الكرملين يبذل جهوداً حثيثة لمحاولة تأسيس شبكة لتهريب أشباه الموصلات.
صحيحٌ أن العقوبات لم تمنع قط التسرب المتمثل في عمليات التهريب، لكن أي شكل من أشكال هذا التسرب لن تكون كافية على الأرجح لتزويد روسيا بما تحتاجه من أجل مخزون الصواريخ لديها، ولا سيما إذا استمرت الحرب بلا هوادة في الأشهر المقبلة.
الهدف الثالث والنهائي للعقوبات يتمثل في خنق الاقتصاد الروسي ببطء وعلى المدى الطويل. تسعى واشنطن وبروكسل لتحقيق هذا الهدف عن طريق حرمان شركات النفط والغاز الروسي من التمويلات والتكنولوجيا الغربية. يشكل هذا تهديداً وجودياً آخر أمام موسكو: والسبب أن حقول النفط والغاز تُستنفد، والاحتياطيات الجديدة التي تحتاج إلى استكشافها تقع عند المحيط المتجمد الشمالي وداخله.
سوف يتطلب تطوير هذه الحقول التكنولوجيا الغربية المتطورة (التي لن تكون متوفرة)، وسوف يتطلب كميات كبيرة من الأموال (التي تعاني من النقص). يعود تاريخ العقوبات على إنتاج الطاقة الروسي إلى عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بصورة غير قانونية، ويرجح أنها سوف تستغرق عقوداً زمنية من أجل أن تنجح في تأدية وظيفتها. وبمجرد أن تنجح في المسعى الذي خُوِّل إليها، فسوف تكون الأشد إيلاماً من بين جميع العقوبات المفروضة ضد روسيا، لأن الاقتصاد والإيرادات المالية يعتمدان على استخراج النفط والغاز.
إلى أين تتجه الأمور بالنسبة لروسيا؟
يمكن افتراض أن الأمور سوف تسوء فحسب بالنسبة لموسكو. فقد تراجعت أسعار الطاقة، وصارت أسعار النفط أقل مما كانت عليه في بداية الحرب. ويرجح أن مزيداً من انخفاضات الأسعار سوف تحلُّ في عام 2023 مع تراجع الاقتصاد العالمي. بدءاً من العام القادم، سوف يتوقف الاتحاد الأوروبي عن استيراد النفط الروسي. بجانب أن روسيا أطلقت النار على قدمها عن طريق إيقاف صادرات الغاز إلى أوروبا، مما أدى إلى قطع شريان الحياة المالي للكرملين.
سوف تستغرق إعادة توجيه صادرات الغاز نحو بكين سنوات عديدة واستثمارات هائلة على صعيد البنية التحتية الجديدة؛ نظراً إلى أن غالبية خطوط أنابيب الغاز الخاصة بروسيا موجهة لخدمة أوروبا. يمكن حل هذه المشكلة ببناء خطوط أنابيب جديدة موجهة إلى الصين، لكن بكين ليست في عَجَلَة من أمرها. والوقت يقف في صالح الصين؛ لأن البلاد تعلم أنها قادرة على الحصول على تنازلات مالية من الكرملين اليائس بشدة.
وما يزيد الطين بلَّةً بالنسبة لبوتين أن الدول الغربية لم تستنزف جميع الخيارات في ترسانة العقوبات خاصتها. فلا يزال لديها ثلاثة تدابير من نهج العقوبات المتبع مع إيران. يمكن لواشنطن وبروكسل أن تستبعد جميع البنوك الروسية من نظام سويفت، مما سيُدخل البلاد في عزلة مالية.
ويمكن أن تحظر الولايات المتحدة روسيا من استخدام الدولار الأمريكي، وهو ما سيعقد بدرجة كبيرة صادرات الطاقة. والخيار الأقوى المتعلق بالعقوبات الأمريكية الثانوية، يمكن أن يجبر جميع الشركات، سواء محلية أو أجنبية، على الاختيار بين السوق الروسية والسوق الأمريكية. وسوف يصير شراء النفط أو الغاز الروسي محظوراً في جميع أنحاء العالم، وهو ما سوف يسبب ضرراً بالغاً لتمويلات موسكو. فالعقوبات ضد روسيا لا تؤدي وظيفتها فحسب، بل إن الأسوأ بالنسبة للكرملين لم يأتِ بعد.