سعت إدارة جو بايدن إلى اتخاذ كل التدابير اللازمة لتفادي الدخول في حرب مباشرة مع روسيا منذ اندلعت الحرب في أوكرانيا، فلماذا اختارت كييف هذا التوقيت لتوجيه ضربة مباشرة في العمق الروسي؟
فقد أعلنت روسيا، الاثنين 5 ديسمبر/كانون الأول، أن ثلاثة من أفراد جيشها قُتلوا فيما قالت إنها هجمات أوكرانية بطائرات مُسيرة على قاعدتين جويتين تبعدان مئات الكيلومترات عن خطوط المواجهة في أوكرانيا.
وقالت وزارة الدفاع الروسية: "أجرت حكومة كييف محاولات لضرب مركبات جوية بلا طيار سوفييتية الصنع في القاعدة الجوية العسكرية دياجيليفو في منطقة ريازان، وقاعدة إنجلز في منطقة ساراتوف، وذلك من أجل تعطيل الطائرات الروسية بعيدة المدى".
وأضافت أن الدفاعات الجوية اعترضت الطائرات المُسيرة، التي كانت تطير على ارتفاع منخفض، وأسقطتها. وأردفت أن الحطام تسبب في أضرار طفيفة لطائرتين وأُصيب أربعة أشخاص. ووصفت الوزارة ذلك بأنه "عمل إرهابي" يستهدف تعطيل طيرانها بعيد المدى، بحسب رويترز.
كيف سعت إدارة بايدن لتجنُّب حرب مباشرة مع روسيا؟
منذ اندلاع الحرب، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما تصفها أوكرانيا والغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، يمكن القول إن استراتيجية حلف الناتو، برئاسة أمريكا، واضحة وتتمثل في منع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تحقيق انتصار عسكري سريع وتحويل الصراع إلى استنزاف طويل المدى لقدرات روسيا العسكرية والاقتصادية.
هذه الاستراتيجية ليست دعاية روسية، بل هذا بالتحديد ما جاء في التقارير الأمريكية وعلى لسان كبار المسؤولين في إدارة بايدن، وأبرزهم وزير الدفاع لويد أوستن نفسه. فبعد أسابيع فقط من اندلاع الحرب، نشر موقع Responsible Statecraft الأمريكي تحليلاً عنوانه "استراتيجية بايدن المرعبة"، وملخص تلك الاستراتيجية هو استفزاز روسيا وجر بوتين إلى الهجوم على أوكرانيا لتصبح أشبه بالمستنقع الأفغاني الذي أدى إلى تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي.
وخلال زيارته إلى كييف أواخر أبريل/نيسان الماضي، قال وزير الدفاع الأمريكي للصحفيين خلال زيارته كييف الإثنين 25 أبريل/نيسان، إن "القدرات العسكرية الروسية يجب أن تتدهور، وإنّ أمريكا تريد إضعاف روسيا إلى الدرجة التي لا يمكنها إعادة بناء جيشها"، بحسب تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وفي هذا السياق، اتخذت إدارة بايدن عدة قرارات لافتة منها رفض طلبات محددة لإدارة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، منها فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا أو إرسال أنظمة دفاع صاروخي بعيدة المدى إلى كييف، خشية سقوط صاروخ أمريكي الصنع في العمق الروسي.
كما عرضت بولندا، في الأيام الأولى للحرب، إرسال طائرات ميغ حربية من قواعد الناتو إلى أوكرانيا تعزيزاً لقدراتها في مواجهة روسيا، ووجد الاقتراح وقتها دعماً من الكونغرس للضغط على وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) من أجل الموافقة على هذه الخطوة، لكن إدارة بايدن رفضت.
وبعد مرور 100 يوم من الحرب، وفي ظل اقتراب روسيا من تحقيق أهدافها كاملة في أوكرانيا، تحدثت تقارير غربية عن استعداد واشنطن لإرسال أنظمة أسلحة متطورة وبعيدة المدى إلى كييف، وهو ما وجد رداً مباشراً من بوتين.
فمطلع يونيو/حزيران، وجه بوتين تحذيراً غامضاً إلى الولايات المتحدة خلال مقابلة بثها التلفزيون الرسمي الروسي، مهدداً بأن روسيا ستقصف أهدافاً جديدة إذا زود الغرب أوكرانيا بصواريخ ذات مدى أطول لاستخدامها في أنظمة الصواريخ المتنقلة عالية الدقة.
وكان الحديث عن الصواريخ طويلة المدى مصدره واشنطن، من خلال تقارير إعلامية أمريكية نقلاً عن مسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن، لكن بايدن نفسه سارع بنفي نية إدارته تزويد كييف بأسلحة بعيدة المدى يمكنها أن تصيب أهدافاً داخل الأراضي الروسية.
متى وقعت حادثة صاروخ بولندا؟
على أية حال، بدا واضحاً أن هناك لغة خاصة بين موسكو وواشنطن، في إطار الشد والجذب المتبادل، تحرص على ألا يقع صدام مباشر بين القوتين النوويتين الأكبر في العالم.
وهناك عدد من الحوادث التي تؤكد وجود تلك "اللغة الخاصة" بينهما، نذكر منها قصة "القنبلة القذرة"، كأحد الأمثلة. فخلال الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تحدثت تسريبات روسية عن استعداد نظام كييف لتفجير "قنبلة قذرة"، أي قنبلة إشعاعية، في إحدى المدن التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا، وإلقاء اللوم على موسكو.
أدانت واشنطن تلك التسريبات وحذرت موسكو من أن الإقدام على تفجيرات غير تقليدية في ساحة الحرب في أوكرانيا ستكون له عواقب وخيمة، في انعكاس مباشر لأن الغرب لا يصدق روسيا ويرفض احتمال أن تقدم أوكرانيا على مثل هذا الفعل. لكن حقيقة الأمر هي أن خط اتصال مباشراً بين موسكو وواشنطن تم تفعيله للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، وبعدها مباشرة بدأ الحديث عن احتمال التوصل لتسوية سلمية توقف الحرب.
وخلال تلك الفترة، أصبح الحديث عن ضرورة التوصل لتسوية سلمية تؤدي إلى إيقاف الحرب هو سيد الموقف في أروقة السياسة في واشنطن خصوصاً، وفي الغرب عموما، والأمر نفسه كان يصدر بشكل دوري عن الكرملين أيضاً. فدخول فصل الشتاء المرعب في ظل أزمة طاقة خانقة وأوضاع اقتصادية مضطربة في أوروبا، والتضخم والانقسام الداخلي في أمريكا، جعلت الغرب يقتنع أخيراً أن الحرب في أوكرانيا فبدأت الضغوط على زيلينسكي كي يتفاوض مع روسيا.
أوكرانيا، من جانبها، نفت تعرضها لضغوط غربية للدخول في مفاوضات مع روسيا، وجددت تمسكها بعدم إجراء أي محادثات إلا إذا انسحبت روسيا من كافة الأراضي التي تحتلها.
لكن الرئيس الأوكراني، الذي يصفه الكرملين بأنه "دمية" بين أيدي الغرب، حدد شروط بلاده للدخول في مفاوضات قائلاً: "مرة أخرى؛ استعادة وحدة الأراضي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، والتعويض عن كافة الأضرار التي تسببت فيها الحرب، ومعاقبة جميع مجرمي الحرب، وضمان عدم تكرار ما يحدث".
لكن النفي الأوكراني لوجود ضغوط غربية ناقضه تقرير لمجلة Politico أشار إلى التغيير الواضح في الموقف الأوكراني من قضية التفاوض مع روسيا، مضيفة أن هذا التغيير "يرتبط بشكل مباشر بتنبيه لتعليمات من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن".
والتغيير الذي تشير إليه بوليتيكو يتعلق بالشروط التي أعلنها زيلينسكي نفسه، والتي تظهر تخليه عن مجموعة من الشروط التي كان قد وضعها لبدء الحوار مع روسيا لوقف الحرب، في مقدمتها شرط عدم التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل ووقع زيلينسكي قانوناً أوكرانياً يحظر أي تفاوض مع موسكو طالما ظل بوتين رئيسا.
لكن فجأة، سقط صاروخ سوفييتي الصنع في بولندا متسبباً في مقتل شخصين، فقرر حلف الناتو عقد اجتماع طارئ لدراسة الموقف، فبولندا عضو في حلف الناتو، وإطلاق روسيا صاروخاً على أراضيها يعد هجوماً على كل دول الحلف العسكري الغربي، بموجب المادة 5 من ميثاق تأسيسه، يستوجب رداً جماعياً من الحلف.
ومنذ اللحظة الأولى لسقوط الصاروخ، كانت إدارة زيلينسكي أول المتهمين لروسيا والداعين لعقد اجتماع طارئ للحلف، ومطالبين بضرورة ضم أوكرانيا للناتو بسرعة، رغم أن التقارير الاستخباراتية الأمريكية رجحت أن الصاروخ تم إطلاقه من أوكرانيا، وليس من روسيا، وقال بايدن إنه يعتقد أن موسكو لم تستهدف بولندا.
ظهرت الحقيقة خلال ساعات واضطرت كييف إلى الاعتراف بأنها من أطلق الصاروخ الذي سقط على بولندا "بطريق الخطأ"، وذكر زيلينسكي وكبار مستشاريه الغرب بأن "روسيا هي من يتحمل المسؤولية" عن أي حادث يقع بسبب الحرب.
لماذا استهدفت أوكرانيا العمق الروسي الآن؟
لم تعلن أوكرانيا بشكل مباشر مسؤوليتها عن الهجمات التي استهدفت قاعدتين عسكريتين في العمق الروسي الاثنين 5 ديسمبر/كانون الأول أحد الهدفين هو قاعدة إنجلز التي تقع على بعد نحو 730 كيلومتراً جنوبي موسكو، وهي واحدة من قاعدتين استراتيجيتين للقاذفات تضمان القدرة النووية الروسية المحمولة جواً، وتتألف من 60 إلى 70 طائرة.
وقالت وزارة الدفاع الروسية: "في مسعى لتعطيل الطائرات الروسية بعيدة المدى، نفذ نظام كييف محاولات لضرب مطارين عسكريين، دياجيليفو بمنطقة ريازان وإنجلز بمنطقة ساراتوف، بطائرات مسيرة سوفييتية الصنع".
وأضافت أن الدفاعات الجوية اعترضت الطائرات المُسيرة التي كانت تحلق على ارتفاع منخفض وأسقطتها وألحق حطامها أضراراً طفيفة بطائرتين. ووردت أنباء عن سقوط قتلى في قاعدة ريازان الواقعة على بعد 185 كيلومتراً جنوب شرقي موسكو.
ووصفت وزارة الدفاع الروسية ضربات الطائرات المسيرة بأنها عمل إرهابي يهدف إلى تعطيل طيرانها بعيد المدى، وقالت إنه على الرغم من ذلك، ردت روسيا "بضربة مكثفة لمنظومة التحكم العسكري والعتاد ذي الصلة داخل مجمع الدفاعات ولمراكز الاتصالات والطاقة والوحدات العسكرية الأوكرانية بأسلحة جوية وبحرية عالية الدقة"، مضيفة أن جميع الأهداف المحددة، وعددها 17، أُصيبت.
وقالت أوكرانيا إنها أسقطت أكثر من 60 صاروخاً من بين ما يزيد على 70 أطلقتها روسيا الإثنين. وهذه الضربات هي الأحدث في سلسلة الهجمات التي تستهدف البنية التحتية الحيوية منذ أسابيع والتي أدت إلى انقطاع الكهرباء والتدفئة والمياه عن الكثير من أنحاء أوكرانيا.
وتبدي قوات كييف قدرة متزايدة على ضرب أهداف روسية استراتيجية أبعد بكثير من خط المواجهة الذي يبلغ طوله 1100 كيلومتر في جنوب وشرق أوكرانيا.
وتقع ساراتوف على بعد 600 كيلومتر على الأقل من أقرب إقليم أوكراني. وقال معلقون روس على مواقع التواصل الاجتماعي إنه إذا تمكنت أوكرانيا من الوصول إلى هذا العمق داخل روسيا، فربما يكون بإمكانها أيضاً ضرب موسكو.
واستهدفت ضربات سابقة، لم تعلن أي جهة المسؤولية عنها، مخازن أسلحة ومستودعات وقود في مناطق روسية قريبة من الحدود مع أوكرانيا، ودمرت ما لا يقل عن سبع طائرات حربية في شبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا من أوكرانيا في 2014.
هذه هي الهجمات الأبعد داخل العمق الروسي منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير/شباط الماضي، ولم تعلن كييف مسؤوليتها عن أي من الهجمات واكتفت بالقول إن مثل هذه الحوادث "ما جنته" روسيا من الحرب.
وكتب مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك على تويتر الإثنين: "إذا أُطلق شيء ما في المجال الجوي لدول أخرى، فستعود الأجسام الطائرة المجهولة عاجلاً أو آجلاً إلى نقطة انطلاقها".
كما وردت، في نفس اليوم تقارير عن عثور الشرطة في مولدوفا على شظايا صواريخ على أراضيها بالقرب من الحدود مع أوكرانيا.
اليوم نفسه شهد تصريحات متبادلة، وإن كانت منفصلة، بين أبرز مسؤولي الدبلوماسية في موسكو وواشنطن، إذ قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إن حلف الناتو يشكل "تهديداً خطيراً" لروسيا، وإن مواقف الغرب تخاطر "بصدام مباشر بين القوى النووية ستكون له عواقب وخيمة".
بينما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إن الصراع في أوكرانيا سينتهي "بشكل شبه مؤكد بالطرق الدبلوماسية" والمفاوضات، مضيفاً أن هناك حاجة إلى "سلام عادل ودائم".
لكن الثلاثاء 6 ديسمبر/كانون الأول، وبعد الهجوم الصاروخي في العمق الروسي، قال الكرملين إنه يتفق مع الولايات المتحدة بشأن الحاجة إلى إقرار سلام دائم في أوكرانيا غير أنه لا يرى فرصة لإجراء مفاوضات في الوقت الحالي.
وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحفيين: "بخصوص أن النتيجة ينبغي أن تكون التوصل إلى سلام عادل ودائم، فإننا نتفق مع ذلك. أما فيما يتعلق بفرص الدخول في مفاوضات من أي نوع، فإننا لا نرى أياً منها في الوقت الحالي"، وأضاف أنه سيتعين أن تحقق روسيا أهداف "عمليتها العسكرية الخاصة" في أوكرانيا أولاً قبل إجراء محادثات مع أي شركاء محتملين.
الخلاصة هنا هي أن الغرب، الذي دعم أوكرانيا وسعى إلى اشتعال الأزمة الجيوسياسية حتى اشتعلت الحرب ثم أقنع زيلينسكي بالتراجع عن اتفاق سلام توصلت إليه روسيا وأوكرانيا بالفعل، يسعى الآن لوقف الحرب، فهل تحاول كييف جر الغرب إلى مواجهة مباشرة مع موسكو؟