تطبق الصين برنامج "العيون الحادة Sharp Eyes" لسماع ورؤية كل شيء تقريباً، فماذا يمكن أن تحققه 540 مليوناً من كاميرات المراقبة؟ التعرف على الوجوه وتحديد الهوية من طريقة السير والتعرف على المشاعر، وما خفي أعظم.
فالصين تعتبر دولة رائدة في مجال تقنيات المراقبة لأسباب متعددة، تتعلق جميعها بطبيعة النظام السياسي في البلاد، والسلطة المطلقة التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية، فإذا ما رأت الشرطة ضرورة لوضع كاميرات مراقبة داخل أماكن عامة لا يكون لدى الناس أي خيار سوى التعايش مع الأمر وتقبله.
وتزامناً مع الاحتجاجات التي تجتاح بعض المدن الصينية اعتراضاً على إجراءات العزل الصحي الصارمة التي تطبقها بكين، في إطار سياسة "صفر كوفيد" التي ينتهجها الرئيس شي جين بينغ، نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً عنوانه "شتازي" الصين الرقمي يرى كل شيء من الفضاء الإلكتروني".
المراقبة الرقمية في الصين فريدة من نوعها
اجتاحت الشرطة والقوات شبه العسكرية مراكز المدن المتوترة في الصين لقمع الاحتجاجات على قيود كوفيد، التي تعد أكبر تحدٍ يواجهه الرئيس شي منذ توليه السلطة قبل عقد من الزمن، وأشد اضطرابات منذ انتفاضة ساحة تيانانمين عام 1989، التي انتهت بمذبحة ارتكبها الجيش الصيني بحق الطلاب.
واليوم، ترتكز السياسة الأمنية الصارمة التي يعتمدها شي جين بينغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني، على الفضاء الإلكتروني؛ إذ يستخدم شي أدوات مراقبة ورقابة اجتماعية مكنته من بناء دولة شمولية رقمية.
في أحد مشاهد رواية 1984، يتحدث وينستون سميث عن ارتياحه لأن شاشات العرض ثنائية الاتجاه لا تعرف ما يفكر فيه على الأقل. لكن الخوارزميات والمراقبة المتقدمة الحالية أصبحت تتمتع بالقدرة على جمع كميات هائلة من البيانات الشخصية عن كل جانب من جوانب السلوك على الإنترنت وخارجه وتحليلها بسرعة.
وتبنّى الرئيس شي وغوانبو، وهو الاسم الذي يطلق على وزارة أمن الدولة في بلاده، هذه التقنيات بحماس لا حدود له؛ إذ تمتلك الصين كاميرات مراقبة تفوق ما تملكه أي دولة أخرى في العالم، وتحديداً 540 مليون كاميرا، وفقاً لتحليل أجرته شركة Comparitech للأبحاث الأمنية. وهذا يعني أكثر من كاميرا واحدة لكل ثلاثة أشخاص.
وثماني مدن من أكثر المدن المُرَاقبة في العالم موجودة في الصين، والكاميرات المستخدمة تزداد تقدماً كل يوم. وتتصدر الصين العالم في الجمع بين كاميرات الفيديو وبرنامج التعرف على الوجه وتحديد هوية الأشخاص من الطريقة التي يمشون بها.
والمرحلة التالية هي التعرف على المشاعر: "نظام إدارة السلوك" المصمم للمدارس ويسجل مشاعر الطلاب وتعابير وجوههم من سعادة أو استياء أو غضب أو خوف أو اشمئزاز. ويعمل حزب شي على ما يسمى بتكنولوجيا التعبير الدقيق، التي يمكنها تحديد 54 تعبيراً سريعاً لا إرادي يظهر على الوجه قبل أن يتمكن الدماغ من التحكم في حركات الوجه.
ماذا يفعل برنامج "العيون الحادة"؟
والمدن الصينية ليست وحدها التي تغطيها الكاميرات. فقد وسّع الحزب نطاق المراقبة إلى عمق الريف في إطار برنامج يسمى العيون الحادة Sharp Eyes. وكان مقرراً تركيب النظام بالكامل في المناطق النائية والريفية بحلول عام 2020، بـ "تغطية كاملة وسيطرة تامة". وليس معروفاً إن كان قد اكتمل أم لا.
وهناك الإنترنت الذي لم يكتفِ الحزب الشيوعي الصيني بالسيطرة عليه وعزله عن بقية العالم، بل وجعله سلاحاً للسيطرة الاجتماعية. كانت المرحلة الأولى جدار الحماية العظيم، الذي يعتمد على خوارزميات متطورة وحوالي مليوني وحدة شرطة إنترنت لحظر المواقع والصور والكلمات المفتاحية المعارضة. ويستعين الحزب أيضاً بمراقبين للإنترنت تتمثل مهمتهم في الانضمام إلى الدردشات لتغييرها أو توجيهها إلى موضوع معين.
والمرحلة الثانية هي نظام "الرصيد الاجتماعي"، الذي لا يزال في مراحله الأولى ولكنه سيمكّن السلطات من تتبع كل تفاصيل السلوكيات عبر الإنترنت وتقييم المواطنين وفقاً لولائهم. وقد استُخدم بالفعل للحد من الوصول إلى السلع والخدمات، وكذلك السفر والقروض والتعليم والوظائف.
وتُجمع البيانات عن طريق برامج تحليل شبكات الواي فاي، التي توجد عادة في مراكز النقل أو حواجز التفتيش، وتخترق الشبكات المحلية لتراقب حركة تداول المحتوى وعناوين الآي بي للحواسيب والهواتف الذكية والأجهزة الأخرى، التي يمكن من خلالها تحديد أصحابها.
وأصبحت المراقبة سمة من سمات تكنولوجيا المستقبل؛ إذ تتصدر الصين العالم في السيارات الكهربائية، التي يتعين عليها، كل 30 ثانية، إرسال بياناتها إلى الحكومة الصينية، التي تشمل موقع السيارة واتجاهها وسرعتها؛ مما يتيح تحديد موقعها في حدود متر واحد. وستوفر عملة رقمية جديدة تعتزم الصين إطلاقها، التي ربما تكون أداة المراقبة الأكبر، كميات غير مسبوقة من البيانات عن الحركة والسلوك.
تستثمر الصين بكثافة أيضاً في أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى معالجة الكميات الهائلة من البيانات التي تجمعها الآن، دون أن تعبأ بتلك المفاهيم الغربية المزعجة عن الخصوصية أو حماية البيانات.
وكان إقليم شينجيانغ في أقصى غرب الصين مختبراً لتكنولوجيا المراقبة، حيث أنشأ الحزب الحاكم دولة بوليسية تحركها خوارزميات لقمع وسجن شعب الإيغور.
وكانت جائحة كوفيد-19 نعمة لدولة الرقابة أيضاً؛ إذ مكنتها من التوسع السريع في الصين كلها بحجة حالة الطوارئ الصحية. وعدّلت الحكومة الكاميرات للتعرف على الأشخاص الذين يرتدون الكمامات ولتمكينها من التصوير الحراري.
وكان تقرير سابق قد أظهر أن 27 شركة صينية تعمل بالفعل في مجال تقنية التعرف على المشاعر منذ أكثر من عقد، وهو ما يشير إلى النمو السريع لتلك الصناعة وتطبيقاتها، خصوصاً في قطاعي التعليم والأمن العام.
لكن المعارضين لذلك التوسع في توظيف التكنولوجيا كأداة للمراقبة والترصد يرون أن تقنية التعرف على المشاعر تمثل خطراً بليغاً على الحرية الشخصية وحقوق الإنسان بشكل عام، ويطالبون بحظرها بشكل كامل قبل فوات الأوان.
كيف يتعاملون في الصين مع الرقابة الرقمية؟
وفضلاً عن ذلك، يُلزم كل مواطن صيني بتحميل تطبيق بألوان مرتبطة برمز الاستجابة السريع، يحدد قدرته على التنقل. وهذا التطبيق يعالج بيانات التتبع والمعلومات الخاصة بجهات الاتصال وأشياء أخرى كثيرة -الوصفة الدقيقة غير معروفة- لتحديد مخاطر الإصابة. واللون الأخضر يعني حرية التنقل، والأحمر يعني الحجر الصحي الفوري. ويُلزم المواطنون بإظهاره عند حواجز التفتيش التي تغطي البلاد، حتى في سيارات الأجرة، وعند مداخل المحال التجارية والمجمعات السكنية.
ويناقش رؤساء الحزب الاحتفاظ بالتطبيق حتى بعد انتهاء الجائحة. ويتلاعب المسؤولون به في بعض الأحيان: فمطلع هذا العام منعوا الناس من الوصول إلى احتجاج على الاحتيال المالي بتحويل رموز QR إلى اللون الأحمر.
وميزانية الصين للأمن الداخلي تفوق تلك الميزانية المخصصة للدفاع. وهذه الرقابة تشرف عليها وزارة أمن الدولة، وهي وكالة المخابرات والشرطة السرية الرئيسية في الصين. وتخضع مراقبة الإنترنت لإدارة الفضاء الإلكتروني في الصين، رغم أن الجزء الأكبر من هذه الرقابة اليومية يُتعاقد عليه من الباطن مع شركات الإنترنت.
ولكن في ظل تنامي احتجاجات "صفر كوفيد"، تتكشف الثغرات في النظام. فكان لافتاً للنظر المدة الطويلة التي انتشرت خلالها صور الاحتجاجات على الشبكات الاجتماعية الصينية. ويبدو أن حجمها أثقل شرطة الإنترنت وأنظمتها الآلية.
إذ يُرصد في كل احتجاج بحر من الهواتف الذكية التي تُرفع عالياً لتسجيل الأحداث ومشاركتها. وتحولت إلى لعبة قط وفأر، يلجأ فيها المستخدمون الأذكياء إلى تقنيات إبداعية للتشويش على الخوارزميات، أو تعديل مقاطع الفيديو لصالحهم أو استخدام المرشحات.
ويجري تبادل الصور على أدوات مثل برنامج AirDrop، الذي يعتمد على البلوتوث للتواصل مع أجهزة آيفون وآيباد القريبة، رغم أن آبل قيّدت بشكل غير مفهوم استخدام AirDrop في آخر تحديث لأجهزتها في الصين؛ ما تسبب في انتقادها. وامتد استخدام تطبيق تلغرام المشفر لتبادل المعلومات على نطاق واسع، وكذلك استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN)، التي تعتبر في الغالب غير قانونية في الصين، لإتاحة المرور إلى المواقع المحظورة مثل تويتر وإنستغرام.
ولجأ آخرون إلى خدمات المراسلة في تطبيقات المواعدة، التي لا تتعرض للكثير من التدقيق. ويشارك البعض أيضاً نصائح عما يجب فعله في حالة احتجازهم، مثل كيفية مسح البيانات بسرعة من الهاتف.
ويُشار إلى أن ألمانيا الشرقية الشيوعية في أوج سطوتها كانت تعتبر دولة المراقبة الأكثر تطوراً في العالم. "أيها الرفاق، علينا أن نعرف كل شيء"، كان هذا ما قاله إريك ميلكه، رئيس الشرطة السرية، شتازي، التي كان جيش مخبريها يشكل 2.5% من سكان ألمانيا الشرقية وتتراوح أعمار أفراده بين 18 و60 عاماً.
وورثت الصين بقيادة شي هذه الطموحات. ولكن ثبت أن ألمانيا الشرقية غاية في الهشاشة. فهي لم تسقط فحسب، بل وكان الفشل الأكبر لجهاز شتازي ورقابته عجزه عن التنبؤ بسقوط جدار برلين وزواله.