قال المدعي العام في إيران إن "شرطة الأخلاق" قد تم حلها، ورغم عدم صدور تأكيد رسمي من جانب وزارة الداخلية، إلا أن هذا التصريح يطرح تساؤلات بشأن ما إذا كانت الخطوة وسيلة لوقف الاحتجاجات أم أنها تغيير حقيقي؟
كان محمد جفعر منتظري، المدعي العام، قد أعلن أن قوة الشرطة المعروفة باسم "شرطة الأخلاق"، والتي كانت قد احتجزت شابة كردية وتوفيت الشابة، ما أطلق احتجاجات عارمة لا تزال مستمرة وتتصاعد، قد تم حلها بالفعل.
وكالة أنباء العمال الإيرانية شبه الرسمية نقلت، السبت 3 ديسمبر/كانون الأول، عن منتظري قوله إن "السلطة نفسها التي أنشأت هذه الشرطة حلتها"، في إشارة إلى وزارة الداخلية الإيرانية، مضيفاً أن شرطة الأخلاق لا تخضع للسلطة القضائية التي "تواصل مراقبة التصرفات السلوكية على مستوى المجتمع".
هل تم اتخاذ قرار حل "شرطة الأخلاق" بالفعل؟
لم تصدر وزارة الداخلية تصريحات رسمية تنفي أو تؤكد حل شرطة الأخلاق، بصفتها المسؤولة رسمياً عن تلك القوة، كما ذكرت وسائل إعلام رسمية إيرانية أن المدعي العام محمد جعفر منتظري غير مسؤول عن الإشراف على هذه القوة.
بينما قالت قناة العالم التلفزيونية الحكومية إن وسائل الإعلام الأجنبية تصور تصريحاته على أنها "تراجع من جانب الجمهورية الإسلامية عن موقفها من الحجاب والأخلاق الدينية نتيجة الاحتجاجات"، ولكن كل ما يمكن فهمه من تصريحاته هو أن شرطة الأخلاق ليس لها صلة مباشرة بالسلطة القضائية".
لكن سكاناً على وسائل التواصل الاجتماعي وصحف إيرانية، مثل صحيفة شرق اليومية، قالوا إن وجود شرطة الأخلاق في الشوارع تقلص في الأسابيع الأخيرة بشكل لافت، بحسب رويترز.
كانت الاحتجاجات في إيران، المستمرة منذ منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، قد اندلعت بسبب وفاة الشابة الكردية مهسا أميني، البالغة من العمر 22 عاماً، بعدما احتجزتها شرطة الأخلاق التي تطبق قواعد الحجاب الإلزامي الصارمة.
وأدى القمع الوحشي لتلك الاحتجاجات إلى تحولها لانتفاضة شعبية عارمة يشارك فيها الإيرانيون الغاضبون من مختلف فئات المجتمع، وليس الأكراد فقط، وهو ما يمثل التحدي الأكبر والأكثر جرأة للنظام الحاكم منذ ثورة الخميني عام 1979.
وفي بداية هذا المشهد المتصاعد، لفت الأنظار هتاف "الموت لمجتبى!"؛ إذ سرعان ما أصبح نجل المرشد الأعلى عُرضة لغضب المحتجين ومرمى لاحتجاجاتهم في أعقاب وفاة أميني، والدعاء بألا يؤول الأمر إلى توليه حكم البلاد، بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
وأصبحت الاحتجاجات سمة عامة في إيران، تنتهي موجة فتلحقها أخرى، إلا أن الهتافات هذه المرة نادت بالموت لرجلٍ طالما تنامى نفوذه ومارس سلطته من وراء الستار، حتى جاءت هذه الاحتجاجات إيذاناً بذيوع شهرته بين الناس وتسليط الضوء على دوره الحالي، وما قد تحمله الأيام من دور آخر له في المستقبل، إنه مجتبى خامنئي، نجل المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية.
يبلغ مجتبى خامنئي من العمر 53 عاماً، ولا يشغل أي منصب حكومي رسمي، لكن مسؤولين أمريكيين وإيرانيين قالوا إنه المسؤول عن إدارة الإمبراطورية التجارية لوالده، آية الله علي خامنئي، وله نفوذ ملموس في تعيين المسؤولين الأمنيين، والإشراف أحياناً على أركان رئيسية من جهاز الأمن الإيراني.
كيف تطور تعامل النظام الإيراني مع الاحتجاجات؟
تعاملت السلطات الإيرانية منذ البداية مع الاحتجاجات على أنها مؤامرة أجنبية تهدف إلى زعزعة النظام في طهران، واستخدمت قوات الأمن القوة المفرطة في قمع المتظاهرين، لتسيل الدماء وتعج وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لتلك المظاهرات والعنف المفرط من جانب الأمن، وبخاصة قوات الباسيج.
وألقت إيران القبض على عشرات المواطنين الأجانب، وبخاصة الفرنسيين وجنسيات أوروبية أخرى، ووجهت إليهم تهم التجسس والتحريض بغرض قلب نظام الحكم في البلاد، فيما رفضت الدول الغربية تلك الاتهامات، وواصلت انتقادها الشديد للنظام الإيراني. ثم شنت طهران هجمات بالصواريخ والمسيرات استهدفت مقرات لأحزاب كردية في كردستان العراق، ملقية باللوم على بعض الفصائل الكردية في تأجيج الاحتجاجات وتمويلها أيضاً.
وقال الحرس الثوري، الأربعاء 28 سبتمبر/أيلول، إنه قصف القواعد الرئيسية لكومالا -الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني- وحزب الحرية الكردستاني بـ"صواريخ دقيقة التوجيه وطائرات مسيرة" للمرة الثالثة في 4 أيام، وحذّر الفيلق من أن الضربات ستستمر حتى زوال التهديد "بشكل حاسم". وقبل أيام هددت إيران باجتياح بري لإقليم كردستان العراق، في ظل استمرار الاحتجاجات واتساع رقعتها.
وعلى الرغم من أن السلطات الإيرانية بشكل عام ترفع راية التحدي في وجه الاحتجاجات وتصر على أنها "مؤامرة خارجية" وتتعامل بشكل صارم معها، إلا أن التصريحات الصادرة من طهران شهدت بعض التباينات مع استمرار الاحتجاجات واتساع رقعتها.
الرئيس إبراهيم رئيسي، على سبيل المثال، كان قد أمر بإجراء تحقيق في وفاة مهسا أميني، واعداً بمعاقبة المسؤولين، وقال في مقابلة مع التليفزيون الرسمي: "نشعر بالحزن جميعاً لهذا الحادث المأساوي… (وعلى الرغم من ذلك) فإن الفوضى غير مقبولة". وأضاف: "الخط الأحمر للحكومة هو أمن شعبنا… لا يمكن السماح للناس بتعكير صفو المجتمع من خلال أعمال الشغب".
لكن القمع لم ينجح في السيطرة على الموقف، بل استمرت الاحتجاجات واتسعت رقعتها، ووصلت إلى إطلاق دعوات لتنظيم إضراب عام في البلاد، وأغلقت متاجر أبوابها، الإثنين 5 ديسمبر/كانون الأول، في عدة مدن استجابة لتلك الدعوات من محتجين يريدون إسقاط حكم رجال الدين.
وعرض حساب تصوير 1500، الذي يضم 380 ألف متابع على تويتر ويركز على الاحتجاجات، مقاطع مصورة لمتاجر مغلقة في مناطق تجارية رئيسية، مثل بازار بطهران، ومدن كبيرة أخرى مثل كرج وأصفهان وشيراز، دون أن يتسنى لرويترز التأكد من صحة هذه المقاطع.
وقال شهود لرويترز إن شرطة مكافحة الشغب وميليشيا الباسيج انتشرت بكثافة في وسط طهران. بينما أكدت وكالة أنباء فارس شبه الرسمية إغلاق السلطات محل مجوهرات يملكه أسطورة كرة القدم الإيرانية السابق علي دائي، عقب قراره الإغلاق خلال أيام الإضراب العام الثلاثة.
وعرض حساب تصوير 1500 وحسابات نشطاء آخرين لقطات مماثلة لمتاجر مغلقة في مدن أصغر، مثل بوجنورد وكرمان وسابزيفار وإيلام وأردبيل. وذكرت جماعة هنجاو الإيرانية لحقوق الإنسان أن 19 مدينة انضمت إلى حركة الإضراب العام في غرب إيران، حيث يعيش معظم السكان الأكراد.
هل يسعى النظام "لتفادي الموجة العالية"؟
استخدم النظام الإيراني حتى الآن جميع وسائل وأدوات التعامل الأمني الصارم للسيطرة على الشارع دون أن ينجح في مسعاه. وكان مشهد فريق كرة القدم الإيراني، الذي شارك وودع منافسات كأس العالم في قطر 2022، قبيل انطلاق مباراتهم الأولى ضد إنجلترا وهم لا يرددون النشيد الوطني، أحد المؤشرات على أن الاحتجاجات تحظى بدعم شعبي غير مسبوق.
وقبل ذلك بأيام، كان مقطع فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي أظهر هدم السلطات منزل عائلة المتسلقة إلناز ركابي، التي أثارت ضجة بعد مشاركتها في مسابقة دولية في كوريا الجنوبية دون ارتداء الحجاب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وفي أعقاب عودتها إلى طهران، أصدرت ركابي بياناً قالت فيه إنها لم تتعمد خلع الحجاب، رغم أن ما حدث اعتُبر على نطاق واسع إبداءً لدعمها للاحتجاجات، وألمح البعض إلى أن البيان والاعتذار من ركابي كانا نتيجة لضغوط من السلطات. كما نقلت وسائل إعلام رسمية عن رئيس السلطة القضائية في إقليم زنجان بشمال غرب البلاد قوله إن حكم هدم منزل ركابي صدر قبل أربعة أشهر، لأن الأسرة لم تحصل على تصريح بناء.
وتقول إيران إنها ستطبق حد الحرابة على المشاركين في الاحتجاجات، لكن مولاي عبد الحميد، وهو أحد رجال الدين السنة البارزين، علق على ذلك، خلال خطبة الجمعة 2 ديسمبر/كانون الأول، بقوله إنه خطأ من جانب القضاء أن يتهم المتظاهرين "بالحرابة"، وهو مصطلح إسلامي يعني محاربة الله، التي جزاؤها الإعدام.
وقال مولاي عبد الحميد: "أي شخص يتظاهر بالحجارة والعصي أو بالهتاف فحسب ينبغي ألا يُتهم بالحرابة. ما يدعوه القرآن بالحرابة هو حينما تستخدم مجموعة ما الأسلحة وتشتبك (في قتال)"، وذلك وفقاً لموقعه الإلكتروني.
وخارجياً تواجه إيران حملة انتقاد دولية متصاعدة، وعبر جاويد رحمن، وهو خبير مستقل معين من الأمم المتحدة لشؤون إيران، عن مخاوفه من أن قمع المتظاهرين يحتدم، مع إطلاق السلطات "حملة" للحكم عليهم بالإعدام.
وقال رحمن إن 21 معتقلاً بالفعل في سياق الاحتجاجات يواجهون عقوبة الإعدام، ومن بينهم امرأة بسبب "تهم جنائية غامضة وملفقة بشكل كبير"، وحُكم على ستة هذا الشهر.
كما قال دبلوماسيون قبل أيام إن المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة سيصوت في 14 من ديسمبر/كانون الأول على مشروع قرار أمريكي باستبعاد إيران من هيئة الأمم المتحدة للمرأة، المعنية بالمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، في الوقت الذي تضغط فيه واشنطن لمعاقبة طهران بسبب قمعها للاحتجاجات.
هل يحدث تغيير في إيران؟
في إطار هذه الصورة العامة، يمكن قراءة الحديث حول حل شرطة الأخلاق كوسيلة هدفها تفادي هذه الموجة العالية من الاحتجاجات قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة بشكل كامل. كما يمكن تفسيرها أيضاً على أنها مراجعة فعلية لبعض بنود القوانين الخاصة بالمرأة والحريات العامة.
وكان المدعي العام قد تحدث بالفعل عن شيء من هذا القبيل، حيث نقلت مؤسسة "انتخاب" الإصلاحية عن جعفر قوله إن "قانون الحجاب الإلزامي قيد المراجعة في البرلمان ولدى السلطة القضائية"، حسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، دون أن يصدر تعليق رسمي بالنفي أو التأكيد.
وفيما يتعلق بحل شرطة الأخلاق، التي تعتبر حديثة نوعاً ما؛ إذ تأسست عام 2005، فمنذ اندلاع الاحتجاجات تقريباً، تراجع ظهورها في الشارع بشكل لافت، وهو السبب وراء توجيه سؤال للمدعي العام في ندوة صحفية، وجاء رده بأنه تم حل تلك القوة بالفعل، إذ قال "حلَّها من أسّسها"، في إشارة إلى وزارة الداخلية.
وبالتالي فإن عدم نفي وزارة الداخلية لهذا الإعلان الذي لا يحتمل اللبس يعتبر في حد ذاته مؤشراً على أن قرار حل ما تعرف بالفارسية باسم "دوريات التوجيه" قد يكون اتخذ بالفعل، دون إعلان القرار رسمياً، حتى لا يبدو تنازلاً من جانب السلطات.
أما بخصوص مراجعة قانون الحجاب نفسه، فقد أصبح أحد أبرز مطالب الاحتجاجات، حيث أظهرت استطلاعات رأي أجرتها مؤسسات إيرانية أن 70% من المشاركين يؤيدون إلغاء أو مراجعة قانون الحجاب الإلزامي في إيران.
ومع عدم وجود مؤشرات على تراجع الاحتجاجات، خصوصاً بعد الدماء التي سالت رغم عدم وجود إحصاء مستقل لأعداد الضحايا، من الطبيعي أن يدرس المسؤولون في النظام الإيراني جميع السيناريوهات المتاحة لهم للتعامل مع التحدي الأكبر للنظام منذ تأسيسه عام 1979.
الخلاصة هنا هي أن حل شرطة الأخلاق أو دوريات الإرشاد ومراجعة قانون الحجاب، إن تم الإعلان عنهما رسمياً، قد تفسر على أنها خطوة من جانب النظام الإيراني هدفها الخروج من المعضلة التي تواجهه، أو أن يكون بداية لتغيير هيكلي في بنية النظام الديني نفسه، وإن كان السيناريو الثاني أقل ترجيحاً.