بعد 8 أشهر من الحرب الروسية الأوكرانية، التي ورّطت أوروبا نفسها بها، يبدو أن الأزمة بين أمريكا وأوروبا بدأت تتفجر لتخرج إلى العلن، حيث وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من واشنطن انتقادات لاذعة وغير مسبوقة للإدارة الأمريكية، محذراً من أن سياسات الرئيس جو بايدن تهدد "بتفتيت الغرب".
وبدفع أمريكي، انخرطت أوروبا بفرض عقوبات قاسية على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، لترد الأخيرة بإغراق الأولى في أزمة طاقة غير مسبوقة، تهدد القارة العجوز بكارثة على جميع المستويات، حيث وجدت أوروبا نفسها تدفع ثمناً كبيراً من تورّطها بهذه الحرب، لم تدفعه واشنطن من الأساس، بل تستفيد بشكل أو بآخر من استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية.
ماكرون ينفجر غضباً في واشنطن
خلال اليوم الأول من ثاني زيارة دولة يقوم بها إلى الولايات المتحدة بعد تلك التي أجراها في 2018، إبان عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وجّه الرئيس الفرنسي، يوم الأربعاء، 30 نوفمبر 2022، انتقادات شديدة كشفت عن مدى انزعاج أوروبا من سياسات واشنطن حيال حلفائها الغربيين.
وحذّر ماكرون في كلمة ألقاها أمام الجالية الفرنسية في سفارة بلاده بواشنطن، من أن برنامج الولايات المتحدة للاستثمارات والإعانات لمساعدة الشركات المحلية يهدد "بتفتيت الغرب".
محذراً في الوقت نفسه من "خطر أن تذهب أوروبا عموماً وفرنسا تحديداً ضحية التنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين؛ أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم".
وخلال غداء عمل مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي، كان ماكرون صريحاً ومباشراً في التعبير عن مخاوف فرنسا والغرب، وقال: "لقد أبلغتهم بصراحة وصداقة كبيرتين، بأن ما حدث في الأشهر الأخيرة يمثل تحدياً لنا: الخيارات المتخذة -لا سيما قانون خفض التضخم- ستؤدي إلى تفتيت الغرب".
حيث شدّد الرئيس الفرنسي على أن "قضايا الطاقة وتكلفة الحرب في أوكرانيا ليست هي نفسها في أوروبا والولايات المتحدة". موضحاً أن تداعيات برنامج المعونات الحكومية للشركات في الولايات المتحدة، ستكون كارثية على الاستثمارات في أوروبا.
وأكد ماكرون أنه ندّد، خلال غدائه مع البرلمانيين الأمريكيين، بالإجراءات "شديدة العدوانية" التي اتخذها الرئيس بايدن لتعزيز الصناعة الأمريكية، داعياً إلى تنسيق اقتصادي أفضل بين ضفتي المحيط الأطلسي.
وقال إن هذا البرنامج "يخلق فروقاً بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، لدرجة أن أولئك الذين يعملون في العديد من الشركات سيقولون لأنفسهم سنتوقف عن القيام باستثمارات على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي".
وأكد ماكرون: "هذه الخيارات لا يمكن أن تنجح إلا إذا كان هناك تنسيق بيننا؛ إذا اتخذنا القرارات معاً، وإذا تناغمنا مجدداً". وقال: "فلنحاول معاً أن نرتقي إلى مستوى ما نسجه التاريخ بيننا، إلى تحالف أقوى من كل شيء"، مذكراً في كلمته بمتانة الصداقة التي تجمع بين بلاده والولايات المتحدة.
هل استفاقت أوروبا أخيراً على حجم الكارثة التي وضعتها بها أمريكا؟
هذا الانزعاج الفرنسي والأوروبي ليس وليد اللحظة، فقد تكشفت ملامح صدام صامت بين أمريكا وأوروبا قبل نحو شهر، عندما أدلى وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، تصريحات صحفية اتهم فيها واشنطن بمحاولة سحب الشركات الكبرى للعمل على أراضيها بعيداً عن أوروبا.
وتصريح لومير جاء في المقابلة التي أجراها مع 4 صحف أوروبية هي "لي زيكو" الفرنسية و"هاندلسبلات" الألمانية و"إل موندو" الإسبانية و"كورييريه ديلا سيرا" الإيطالية، كشف فيها أن "بعض الشركات الأجنبية الكبرى التي كانت تريد أن تقيم مقراتها في أوروبا، باتت مترددة الآن بين مواقع أوروبية وأخرى أمريكية".
لومير أوضح أن سبب تردد الشركات الأجنبية، هي "الإعانات التي تدفعها واشنطن للشركات، مشيراً إلى أن "السباق إلى الإعانات مخالف لكل قواعد التجارة الدولية"، داعياً إلى رد أوروبي "منسق وموحد وقوي" ضد ذلك.
كما كشف الوزير الفرنسي أن "بعض الحالات، تتراوح قيمة الإعانات التي تقدمها لها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بين 4 و10 أضعاف المبلغ الأقصى الذي تسمح بتقديمه المفوضية الأوروبية".
لومير لفت أيضاً إلى أن القطاع الصناعي الأوروبي، يخضع أصلاً لنقص في القدرة التنافسية، مرتبط باختلاف أسعار الطاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا، مؤكداً أن "المساعدات الهائلة المنصوص عليها في قانون تخفيض التضخم الأمريكي و(الشركات) المنافسة الصينية المدعومة بشدة أيضاً، قد يعمّقان الفجوة أكثر".
أمريكا المستفيد الأكبر من الحرب وأوروبا تخسر شركاتها
وتخلق أمريكا وتفرض وتنفذ حزماً متتالية من العقوبات ضد روسيا، والتي تؤدي بدورها إلى ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، وهو ما بات يدفع عشرات الشركات الأوروبية إلى الانتقال إلى أمريكا، حيث الضرائب الأقل، وأنظمة السلامة والبيئة، وحقوق العمال الأنسب لها، وبالتالي تحقيق أرباح أعلى بكثير بالنسبة للمستثمرين، من البقاء في أوروبا التي تعاني الأمرّين بسبب أزمة الطاقة التي ستتفاقم مع دخول الشتاء.
والولايات المتحدة لا تتعرض لأزمة طاقة كالتي تعاني منها أوروبا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، إذ يمكن لأمريكا تزويد طاقتها بنفسها، وهي بعيدة عن مسرح الصراع المشتعل في أوروبا.
كما أن سلاسل التوريد أقل خطورة في الولايات المتحدة منها في أوروبا، حتى باتت أسباب استمرار الشركات في أوروبا وقيامها بأي شيء باستثناء البيع للأوروبيين تقل، وهم (الأوروبيون) أصبحوا يائسين بشكل متزايد للحصول على كل ما كان يمكنهم شراؤه، منذ انقطاع الطاقة الروسية الرخيصة عن القارة.
وتقول مجلة modern diplomacy الأوروبية، إن زعماء أوروبا تعاونوا مع قادة أمريكا لإحداث هذا التراجع الأوروبي، عبر الانضمام إلى العقوبات الأمريكية ضد روسيا بدلاً من الامتناع عن ذلك.
لذلك، يمكن للشركات الألمانية والأوروبية أن تتمتع بفوائد كبيرة من الانتقال إلى أمريكا أو التوسع فيها، حيث ذكرت صحيفة الأعمال اليومية الألمانية Handelsblatt، في 25 سبتمبر/أيلول 2022، أن مزيداً من الشركات الألمانية باتت تنتقل وتوسع مواقعها في أمريكا، حيث تجذب واشنطن الشركات الألمانية ذات الطاقة الرخيصة والضرائب المنخفضة. فيما باتت برلين تشعر بالقلق، وتريد اتخاذ تدابير مضادة.
وتقول المجلة الألمانية إن العديد من الولايات الأمريكية مثل فيرجينيا وجورجيا وأوكلاهوما، تظهر اهتماماً متزايداً "بتقديم حوافز خاصة لهذه الشركات الألمانية لنقل أعمالها، أو على الأقل توسيع إنتاجها في الولايات المتحدة". حيث يشجع بات ويلسون، مفوض إدارة ولاية جورجيا الاقتصادية الشركات الألمانية، على القدوم وتوسيع استثماراتها، قائلاً إن "تكاليف الطاقة لدينا منخفضة والشبكات مستقرة".
وفي 25 سبتمبر/أيلول، علَّقت مجلة "Irish Examiner" على انتقال الشركات الأوروبية لأمريكا، بالقول إن الصناعة الأوروبية باتت تتأرجح تحت وطأة ارتفاع أسعار الطاقة، حيث حذّرت شركة فولكس فاجن، أكبر شركة لصناعة السيارات في أوروبا، من أنها قد تعيد خطط الإنتاج من ألمانيا وأوروبا الشرقية إذا لم تنخفض أسعار الطاقة".
وفي اليوم نفسه، قال موقع Oil Price dot com، إن أوروبا تواجه خروجاً جماعياً للصناعات كثيفة الطاقة نحو أمريكا، وذكر بشكل خاص أن "شركة الصلب الأمريكية العملاقة ArcelorMittal قالت إنها ستخفض نصف الإنتاج في مصنع للصلب في ألمانيا. وقالت الشركة إنها استندت في قرارها إلى ارتفاع أسعار الغاز. فيما قررت الشركة ذاتها في وقت سابق من هذا العام أنها تخطط لتوسيع عملياتها في ولاية تكساس الأمريكية بسبب أزمة الطاقة في ألمانيا.
مصانع أوروبا تغرق في الظلام
وفي 19 من سبتمبر/أيلول، قالت صحيفة نيويورك تايمز إن فواتير الطاقة الباهظة تجبر المصانع الأوروبية على التحول إلى الظلام، حيث يقوم المصنعون بإجازة العمال وإغلاق الخطوط، لأنهم لا يستطيعون دفع رسوم الغاز والكهرباء.
على سبيل المثال، لا يعرف صاحب مصنع Arc International للزجاج في شمال فرنسا، نيكولاس هودلر، ما إذا كان سينجو أم لا، قائلاً للصحيفة الأمريكية إن تكلفة طاقة المصنع أصبحت الآن عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل عام واحد فقط، حيث ساعدت الطاقة الرخيصة التي كانت تأتي من روسيا في تحويل الشركة الفرنسية إلى أكبر منتج لأدوات المائدة الزجاجية في العالم.
لكن تأثير قطع روسيا المفاجئ للغاز عن أوروبا الذي فرضته العقوبات ألقى على الأعمال التجارية بمخاطر جديدة. حيث صعدت أسعار الطاقة بسرعة كبيرة لدرجة أن السيد هولدر اضطر إلى إعادة صياغة توقعات الأعمال 6 مرات في شهرين. وفي الآونة الأخيرة، وضع هولدر ثلث موظفي الشركة البالغ عددهم 4500 في إجازة جزئية لتوفير المال. والآن، ينفتح المستقبل مرة أخرى للمستثمرين في الولايات المتحدة، ويترك الجميع في أوروبا يغرقون ببساطة، إذا لم يتمكنوا من الخروج.
هل أطلقت أوروبا النار على قدميها وعاقبت نفسها بنفسها؟
يقول محللون إنه منذ بداية الحرب، راحت الدول الأوروبية، وعلى الرغم من علاقاتها الاقتصادية العميقة مع روسيا، تتصرف تحت وطأة الهلع الذي أُصيبت به، وراحت تقذف بالعقوبات تلو الأخرى على روسيا، وتتصرف بشكل هيستيري وصل إلى حد إلغاء محاضرات عن الأدباء الروس الكبار في الجامعات والمعاهد الأوروبية، وطرد رياضيين روس من البطولات العالمية، وإدخال السياسة في الرياضة ودعم أوكرانيا في المحافل الرياضية.
وكان حجم العقوبات التي فُرضت على روسيا عبر 6 حزم من المفترض أنه كبير ومؤلم للاقتصاد الروسي وللشعب والنظام الروسيين كذلك، لكن روسيا منذ اليوم الأول أخذت تتصرف ببرود تجاه العقوبات، ويبدو أنها كانت مستعدة لها استعداداً كبيراً.
واستغلت روسيا العقوبات الأوروبية والأمريكية التي أدت إلى رفع أسعار الطاقة العالمية، في ظل عدم قدرة أوروبا عن التخلي عن مصادر الطاقة الروسية، لإلحاق أكبر ضرر بأوروبا وإغراقها في الظلام.
وعلى عكس المتوقع، ساعدت سياسات موسكو الجديدة على انتعاش الروبل إلى مستويات قياسية تفوق أرقام 2017 بعد أن كان قد فقد 70% من قيمته، قبل خطوات موسكو الجديدة، كما استفادت موسكو من ارتفاع أسعار الغذاء العالمية التي تعد روسيا أحد أبرز منتجيه في العالم، لا سيما القمح والحبوب والزيوت النباتية.
على الجانب الآخر، بدأت الخلافات تدب بين دول الاتحاد حول هذه العقوبات، وبدأت أصوات الاعتراض على الدول الكبرى فيه؛ مثل ألمانيا وفرنسا، تُسمع من الدول الصغيرة الأكثر اعتماداً على المنتوجات والطاقة الروسية.
كما بدأت هذه الدول تشكو من فراغ مخازنها من الأسلحة، حيث تستنزف شهية أوكرانيا للحرب أطناناً من الأسلحة ومليارات الدولارات، فيما تستفيد مصانع الأسلحة الأمريكية من إنتاج أطنان أخرى من الأسلحة لبيعها للأوروبيين مستغلة التهديد الروسي لهم.
وبناء على ذلك، رفعت الدول الأوروبية ميزانياتها العسكرية إلى أرقام مهولة بمئات مليارات اليوروهات، سيتم سحبها من جيوب المواطنين الأوروبيين على شكل ضرائب مرتفعة جداً، في الوقت الذي يعانون فيه من فقدان التدفئة والتقشف في استهلاك الطاقة والكهرباء، وهو ما قد يقود لانفجار اجتماعي واقتصادي، وقد يقود للإطاحة بالعديد من الحكومات الغربية الليبرالية، ويأتي بأخرى يمينية متطرفة، كما شهدنا ذلك في دول عدة مثل السويد وإيطاليا والمجر وغيرها.