يرى توني بلير أن حظر لندن إعلانات قطر على وسائل النقل "قرار سياسي"، محذراً من أن انتقادات بلاده لمستضيف كأس العالم 2022 مبالغ فيها، فهل تتراجع بريطانيا عن موقفها "غير المبرر" لتفادي خسارة الاستثمارات الخليجية؟
رئيس وزراء بريطانيا الأسبق علّق للمرة الأولى على الانتقادات الموجهة لقطر، واصفاً إياها بأنها "قلة احترام"، بحسب تقرير لصحيفة Telegraph البريطانية، مضيفاً أنه "من غير المنطقي أن نشن تلك الحملة ضد دولة خليجية صديقة تستثمر الكثير على أراضينا".
تأتي تصريحات بلير في أعقاب نشر صحيفة The Financial Times تقريراً عنوانه "قطر تراجع استثماراتها في لندن بعد حظر إعلاناتها الترويجية على الأتوبيسات ومترو الأنفاق"، ذكر أن الخطوة التي اتخذتها هيئة النقل بلندن جاءت نتيجة لما وصفته بالمخاوف بشأن موقف الدولة المستضيفة لكأس العالم لكرة القدم 2022 حيال حقوق "مجتمع الميم"، ومعاملتها للعمالة الوافدة.
كيف يرى بلير موقف بلاده من قطر؟
تحدث توني بلير عن الحملة الغربية ضد الإمارة الخليجية بسبب قضية مجتمع الميم، لافتاً إلى أن بريطانيا نفسها عندما استضافت كأس العالم لكرة القدم عام 1966، كانت المثلية غير قانونية في البلاد: "يمكنك أن تكون مناصراً بقوة لحقوق المثليين، وقد قدمت حكومتي عدداً كبيراً من القوانين لدعم مجتمع الميم وأنا مساند لهم تماماً".
وأضاف رئيس الوزراء الأسبق: "لكنني أعتقد أنها قلة عقل من جانبنا أن نبدي عدم الاحترام تجاه قطر. هذا (كأس العالم قطر 2022) هو أكبر حدث يستضيفونه، وهو أمر ضخم وليس فقط مجرد حدث رياضي، بل أكبر الأحداث على الإطلاق. قطر دولة حليفة لنا وتستثمر مبالغ طائلة في بلادنا".
كما علّق بلير على قرار بلدية لندن بحظر الإعلانات التي تروّج للسياحة في قطر على وسائل النقل العام في العاصمة، محذراً من أن بريطانيا "تبالغ تماماً" في هجومها على قطر، واصفاً قرار حظر الإعلانات بأنه "إيماءة سياسية"، مضيفاً أنه إذا كانت لديك اعتراضات على أحقية قطر في تنظيم كأس العالم، فقد حان الوقت للمضي قدماً.
وكشف بلير أنه قد يحضر المباراة النهائية لكأس العالم في قطر إذا ما وصلته تذكرة، كما انتقد تصرف وزير الرياضة البريطاني، ستيوارت أندروز، الذي قال إنه سيرتدي شارة تعبر عن مجتمع الميم لدى حضوره مباراة إنجلترا وويلز المقررة مساء الثلاثاء 29 نوفمبر/تشرين الثاني، قائلاً إن هكذا تصرف "لن يحدث فارقاً" من الأساس.
كانت صحيفة فايننشال تايمز قد نقلت عن أحد المصادر قوله إن هيئة النقل في العاصمة البريطانية، والتي يرأسها رئيس بلدية لندن، صادق خان، اتصلت هذا الأسبوع بلجنة قطر 2022، التي تُشرف على تنظيم بطولة كأس العالم وهيئة السياحة القطرية لإعلامهما بقرار حظر الإعلانات.
وقال متحدث باسم الهيئة إنها أرسلت قبل بطولة كأس العالم إلى المعلنين من شركائها والعلامات التجارية: "تعليمات إضافية بشأن الإعلانات التي من المرجح أن نعتبرها مناسبة للتنفيذ أثناء البطولة، بينما نتأكد أيضاً ألا يُحرم مشجعو كرة القدم من فرصة تشجيع فرقهم"، وأضاف: "نواصل مراجعة كل حملة إعلانية على حدة".
وقالت الهيئة إن الإعلانات التي تروّج للسفر إلى قطر أو السياحة في قطر أو تصور قطر على أنها وجهة مفضلة، لن تعتبر مقبولة. بينما قال المصدر للصحيفة البريطانية إن الحظر الذي فرضته هيئة النقل "فُسِّر على أنه رسالة من مكتب العمدة بأن أنشطة الأعمال القطرية غير مرحَّب بها في لندن".
وأكد تقرير فايننشال تايمز أن قطر بدأت بالفعل مراجعة استثماراتها في لندن بعد هذا الحظر، الذي يمنع الإعلانات السياحية للدولة الخليجية على الحافلات والسيارات الأجرة وقطارات الأنفاق بالعاصمة الإنجليزية.
انتقاد الغرب لقطر "عجرفة وجهل بالقوانين"
تزامنت انتقادات بلير لموقف بلاده من قطر مع إدلاء أحد نجوم كرة القدم الإنجليزية السابقين، جون بارنز، برأيه حول موقف الغرب عموماً من الانتقادات الموجهة لأول دولة عربية ومسلمة تستضيف الحدث الكروي الأبرز عالمياً، واصفاً ذلك الموقف بأنه "عجرفة وجهل بالقوانين".
المقال الذي نشرته صحيفة التايمز البريطانية يناقش الانتقادات الغربية التي تتعرض لها قطر في تنظيمها لنهائيات كأس العالم، وفيه يقول بارنز إن "الزمن تغير. ولم يعد مقبولاً أن يسمح الأوروبي لنفسه بإعطاء الدروس للعالم ويعلمهم ما هو الخطأ وما هو الصواب. ويشعر بأنه من حقه أن يربي ويعلم ويحضر الشعوب والثقافات التي يراها دونية. الأمور لم تعد تسير بهذه الطريقة".
وأضاف نجم نادي ليفربول السابق أن البعض استغرب أن المشجعين الإنجليز الذين ذهبوا إلى الملاعب وهم يرتدون زي الصليبيين لم يجدوا ترحيباً بهم في قطر: "هذا دليل على جهلنا، وقلة وعينا"، مشبهاً هذه التصرفات بأن يأتي "مشجعون ألمان إلى ملعب ويمبلي، في لندن، مرتدين زي النازية ويتوقعون منا أن نرحب بهم".
وفيما يتعلق بقرار منع ارتداء قادة المنتخبات الأوروبية شارة المثليين، قال بارنز إن "قطر دعت الجميع إلى نهائيات كأس العالم، مثليين وغير مثليين، ولكنها طالبت الجميع باحترام عاداتها وثقافتها وقوانينها، وهذا يعني عدم إظهار الميول الجنسية في الأماكن العامة. فكل شخص حر في حياته، ولكن عليه احترام قوانين البلاد سواء وافق عليها أم لم يوافق".
وأضاف أن "شارة المثليين تروج لأمر مخالف للقانون في قطر، حتى إذا لم نوافق على ذلك. فالذين يزورون بلادنا لا نسمح لهم بالترويج لما هو مخالف للقانون عندنا. فما نراه نحن مجرد شارة ملونة، يراه القطريون رمزاً ينتقد ويتحدى قوانينهم وثقافتهم".
واستطرد بارنز قائلاً إن "المثلية الجنسية مخالفة للقانون في الكثير من الدول الإفريقية، وأغلب هذه القوانين موروث عن الحقبة الاستعمارية. فهل علينا أن نمنع هذه الدول أيضاً من المشاركة في نهائيات كأس العالم؟".
كانت صحيفة بريطانية أخرى هي The Economist قد نشرت مقالاً عنوانه "دفاعاً عن استضافة قطر لكأس العالم"، وذلك قبل ساعات من الافتتاح المبهر للنسخة رقم 22 من المونديال، فنّدت فيه المزاعم الغربية تجاه الدوحة، خاصة فيما يتعلق بأوضاع العاملين المهاجرين في الدولة الخليجية.
كانت كأس العالم 2022 في قطر قد انطلقت في أجواء تاريخية، فالنسخة 22 من المونديال هي نسخة السوابق على جميع المستويات، فلأول مرة تقام البطولة في بلد عربي مسلم، و"أول مرة" هي كلمة السر الأبرز في هذا المونديال العربي.
فحفل افتتاح كأس العالم 2022 في قطر، مساء الأحد 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، جاء مبهراً ومعبراً عن تجمع ثقافات العالم أجمع في استاد البيت، الخيمة العربية التي أثارت إعجاب الكثيرين، لدرجة أن وزير الخارجية المكسيكي، الذي تستضيف بلاده، إلى جانب الولايات المتحدة وكندا، النسخة القادمة من المونديال عام 2026، قال في تغريدة على تويتر، من داخل "البيت": "أفكر بالافتتاح الذي سيتعين علينا القيام به في 2026″.
هل تتراجع بريطانيا خشية فقدان الاستثمارات الخليجية؟
مع استمرار مباريات كأس العالم في قطر، التي تحقق أرقاماً قياسية في عدد الحضور الجماهيري في الملاعب الثمانية وعدد المشاهدين حول العالم، يزداد التركيز على كرة القدم ومتعتها وإثارتها وتتراجع نسبياً حدة حملة الانتقادات الغربية، ويبدو أن بريطانيا ستتراجع أيضاً حتى لا تفقد الاستثمارات الخليجية.
كان المدير الفني للمنتخب الهولندي، لويس فان غال، قد أجاب على أسئلة الصحفيين الأوروبيين، خلال المؤتمر الصحفي لمباراة الطواحين أمام الإكوادور، بشأن ما إذا كان المنتخب الأوروبي سيدعم المثليين، قائلاً: "كلا، لن نقوم بأي شيء من هذا القبيل. لقد صرفنا النظر عن كل الأمور السياسية الأسبوع الماضي بعدما تحدثنا مع العمال المهاجرين".
وكانت قضية العمال المهاجرين أحد أضلاع الهجمة الغربية الشرسة على استضافة قطر للمونديال، وفند مقال لصحيفة الإيكونوميست البريطانية تلك المزاعم، لكن جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) كان أكثر وضوحاً من الصحيفة البريطانية، عندما اتهم، السبت 19 نوفمبر/تشرين الثاني، منتقدي طريقة معاملة قطر للعمال المهاجرين، متهماً إياهم بالنفاق، إذ قال: "أنا أوروبي، وبسبب ما فعلناه على مدى 3000 عام في جميع أنحاء العالم يجب أن نعتذر لمدة 3000 سنة مقبلة، قبل إعطاء دروس أخلاقية".
رئيس الفيفا واصل حديثه غاضباً: "أجد صعوبة في فهم الانتقادات، علينا أن نستثمر في مساعدة هؤلاء الناس، في التعليم، ومنحهم مستقبلاً أفضل والمزيد من الأمل، يجب علينا جميعاً أن نثقف أنفسنا، فالكثير من الأشياء ليست مثالية، ولكن الإصلاح والتغيير يستغرقان وقتاً".
"هذا الدرس الأخلاقي الأحادي الجانب نفاق محض"، وأضاف: "ليس من السهل تقبل الانتقادات لقرار جرى اتخاذه قبل 12 عاماً. الدوحة جاهزة، وقطر جاهزة، وبالطبع ستكون أفضل بطولة لكأس العالم على الإطلاق".
أما فيما يخص بريطانيا، فقطر تعتبر واحدة من أكبر المستثمرين في لندن من خلال صندوقها للثروة السيادية، الذي تخطى أكثر من 53 مليار دولار، إذ يمتلك جهاز قطر للاستثمار سلسلة متاجر هارودز وناطحة السحاب شارد، كما أنه شريك في ملكية حي كناري وارف للأعمال. وتمتلك الدولة الخليجية فندقي سافوي وجروفنر هاوس وحصة 20% في مطار هيثرو و14% في سينسبري ثاني أكبر مجموعة لمتاجر التجزئة في بريطانيا.
ومن المرجح أن تفتح المراجعة القطرية للاستثمارات في لندن الباب أمام مراجعات أخرى لدول خليجية أخرى تمتلك أيضاً استثمارات كبيرة هناك، خصوصاً أن قضية ما يُعرف باسم حقوق "مجتمع الميم" مفتوحة على مصراعيها بالفعل بين الغرب عموماً والدول الإسلامية والعربية.
فخلال سبتمبر/أيلول الماضي، وجهت الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع ولجنة مسؤولي الإعلام الإلكتروني في دول مجلس التعاون الخليجي تحذيرات صارمة لمنصة نتفليكس الأمريكية، على خلفية تناول المسلسلات والأفلام التي تنتجها، قضية المثلية الجنسية بصورة مكثفة، وهو ما أثار غضباً متصاعداً، انعكس عبر منصات التواصل الاجتماعي منذ فترة ليست بالقصيرة.
وبشكل عام، تعتبر الدول الخليجية، من خلال صناديق الثروة السيادية الخاصة بها، من أكبر المستثمرين في المملكة المتحدة عموماً، وفي إنجلترا وعاصمتها لندن خصوصاً. كما تبذل الحكومة البريطانية جهوداً مكثفة لاجتذاب مزيد من الاستثمارات الخليجية، في أعقاب الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي.
وخلال السنوات القليلة الماضية، ضخت الدول الخليجية ما يقرب من 200 مليار دولار استثمارات في المملكة المتحدة، بحسب مؤسسة UK Declassified، وهي مؤسسة صحفية بريطانية متخصصة في الصحافة الاستقصائية. وتنال لندن نصيب الأسد من تلك الاستثمارات، والتي تتنوع بين قطاعات العقارات والفنادق والمؤسسات الإعلامية ومتاجر التجزئة وغيرها.
ويقدر حجم التبادل التجاري بين المملكة المتحدة ودول الخليج الست، السعودية وقطر والكويت والإمارات والبحرين وعمان، بأكثر من 62 مليار دولار سنوياً، وهو ما يجعل دول مجلس التعاون الخليجي الشريك التجاري الرابع لبريطانيا بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين.