تمثل العقوبات الصينية ضد أستراليا اختباراً لقبضة بكين الاقتصادية، ونفوذها الصاعد في العالم، فهل نجحت أستراليا في تجاوز آثار العقوبات الصينية الاقتصادية عليها، أم أن تجربتها تثبت أنها لا يمكن الاستغناء عن الاقتصاد الصيني الذي يعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم؟
والصين هي الشريك التجاري الأكبر لأستراليا وأكبر زبون لخام الحديد – أكبر مصدر لصادرات كانبيرا.
وفرضت الصين العديد من العقوبات الاقتصادية على الصناعات الأسترالية منذ عام 2020، بما في ذلك رسوم جمركية ضخمة على صادرات الشعير والنبيذ الأسترالي، بينما فرضت قيوداً على منتجات أخرى، بما في ذلك الأخشاب وجراد البحر والفحم.
لماذا تم فرض العقوبات الصينية ضد أستراليا؟
ويُنظر إلى العقوبات الصينية ضد أستراليا إلى حد كبير على أنه رد على دعوات رئيس الوزراء الأسترالي السابق سكوت موريسون إلى إجراء تحقيق مستقل في كيفية نشأة وباء Covid-19.
ولكن هناك سلسلة من الأسباب الأخرى التي يعتقد أنها تقف وراء العقوبات الصينية على أستراليا، منها فرض أستراليا حظراً على عملاق الاتصالات الصيني هواوي، بل يعتقد أن كانبيرا هي التي نبهت الولايات المتحدة لما تقول إنه خطر على الغرب جراء توسع شركة هواوي في مجال شبكات الجيل الخامس لاتصالات الهاتف المحمول.
وكان من بين أسباب أيضاً غضب بكين من فحص أستراليا للاستثمار الأجنبي بسبب ما تسميه مخاطر الأمن القومي.
كما غضبت الصين من تنشيط الرباعية، وهي شراكة أمنية بين الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان تستهدف احتواء الصين؛ وفي العام الماضي، شكلت واشنطن تحالفاً جديداً مع أستراليا وبريطانيا عُرف باسم AUKUS.
أستراليا تعتمد على اقتصاد الصين بشكل غير مسبوق في تاريخها
ورغم نجاح أستراليا في إيجاد أسواق بديلة للصين في بعض المنتجات، فإن شركات أسترالية عديدة تجد صعوبة في العثور على أسواق بديلة.
ووصفت الحكومة الأسترالية السابقة عقوبات الصين على سلعها الزراعية والطاقة بأنها "إكراه اقتصادي".
وفي ظل جمود دبلوماسي بين البلدين دام سنوات، لم يتمكن الوزراء الأستراليون من ترتيب حوارات مع نظرائهم الصينيين.
ولكن سعت الحكومة الأسترالية الجديدة إلى خفض توتر العلاقات بين أستراليا والصين، وهو نهج قابله تخفيف بكين لخطابها تجاه أستراليا، واتخذ الجانبان خطوة صحية لإعادة الاستقرار، وربما حتى بدايات علاقات طبيعية.
إذ أنهى اجتماع رئيس الوزراء الأسترالي الجديد أنتوني ألبانيز مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في بالي على هامش قمة العشرين أطول تجميد سياسي للاتصالات رفيعة المستوى بين الجانبين في تاريخ العلاقات الدبلوماسية الممتد على مدى 50 عاماً، حسب وصف صحيفة the Guardian البريطانية.
ورغم كسر رئيس الوزراء الأسترالي الجديد الجمود غير المسبوق الذي دام ست سنوات مع الصين، فإن هذا لا يعني أن كل الخلافات مع بكين سوف تتبخر في وقت قصير.
في الحقيقة، لا يمكن النظر إلى علاقة أستراليا مع الصين المتغيرة بمعزل عن التنافس الأمريكي الصيني، كما هو الحال مع حلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المعاهدة الآسيوية و140 دولة أو نحو ذلك تعتبر الصين أكبر شريك اقتصادي لهم.
ورغم أن بعض وسائل إعلام غربية مثل صحيفة The Financial Times البريطانية ترى أن العقوبات الصينية على أستراليا أدت إلى فوائد غير متوقعة عبر التحول لأسواق أخرى، لكن يشعر الأستراليون أنه من المحتمل أن تستمر معاناتهم في ظل جولات متكررة من الإكراه الاقتصادي الصيني ما لم يتم العثور على طريقة لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه مع أكبر سوق لصادرات أستراليا.
وقال ديفيد أورين، الزميل الأول في المعهد الأسترالي للسياسات الاستراتيجية ASPI: "لم تكن أستراليا تعتمد هكذا على سوق واحدة منذ عام 1938، عندما كانت تابعة للمملكة المتحدة". وقال إنه لأول مرة في تاريخها، تتعامل أستراليا مع وضع أصبح فيه أكبر شريك تجاري لها هو خصم في الوقت ذاته.
هل وجد الأستراليون أنهم يستطيعون الاستغناء عن الصين؟
لقد تبين لأستراليا أن الاستغناء عن الصين وإيجاد بديل لها يبدو أمراً صعباً، حيث أنفقت أستراليا مبالغ طائلة لجذب أعداد كبيرة من السياح الهنود إلى شواطئها، ووقعت اتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا بعد خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي، واسكتشفت أسواقاً جديدة في الشرق الأوسط خلال فترة الخلاف التجاري الذي دام 30 شهراً مع الصين.
ومع ذلك، خارج خام الحديد والسلع الرئيسية الأخرى، كان هناك ألم كبير للمصدرين الأستراليين، فبالنسبة لاقتصاد صغير ومفتوح مثل اقتصاد أستراليا، فإن الابتعاد عن القوة العظمى العالمية الناشئة أسهل في تخيله من الواقع، حسبما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
والمفارقة قد تكون في أن أحد الأسباب التي حدت من الخسائر الأسترالية من العقوبات الصينية هي حاجة بكين لكثير من المنتجات الأسترالية.
فعدم قدرة الصين على توفير متطلبات خام الحديد الهائلة خارج منطقة بيلبارا بغرب أستراليا يعني أنها لا تزال أكبر شريك تجاري لكنبيرا إلى حد بعيد، على الرغم من الجمود الدبلوماسي.
رغم العقوبات، التجارة الأسترالية تتحسن بفضل الصين
وتحسنت أرقام التجارة الأسترالية بسبب اعتماد الصين على المنتجات الأسترالية المهمة، ولا سيما خام الحديد والصوف والغاز الطبيعي. التي تم تجنيبها من عقوبة الرسوم الجمركية الجديدة، كما أدى الطلب المتزايد إلى زيادة مبيعاتها.
وحتى بعد فرض العقوبات الصينية ضد أستراليا، كانت الصين وجهة لأكثر من 42% من صادرات كنبيرا في عام 2021 مقارنة بنسبة 14% فقط في عام 2007، مع نمو الطلب على خام الحديد والمعادن الأخرى والوقود الأحفوري، وكذلك السلع الاستهلاكية. بسرعة، وفقاً لمركز الأبحاث التابع لمعهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي.
ولكن بالنسبة للصناعات الأسترالية الرئيسية الأخرى، لم يكن هناك بديل بسيط للمستهلكين الصينيين لجراد البحر والنبيذ عالي الجودة أو السياح والطلاب الذين ينفقون مبالغ كبيرة، والذين تم إبعادهم أيضاً بسبب قيود Covid-19.
ورغم أن بعض الدلائل على أن التوترات آخذة في الذوبان منذ لقاء رئيس الوزراء الجديد أنتوني ألبانيز مع الرئيس شي جين بينغ الأسبوع الماضي، إلا أن الشركات الأسترالية لا تراهن على تخفيف القيود في وقت قريب، حسب الوكالة الأمريكية.
تقرير وكالة Bloomberg الأمريكية عرض لستة قطاعات رئيسية تأثرت بسبب العقوبات الاقتصادية الصينية على أستراليا وهي السياحة والمأكولات البحرية والنبيذ والتعليم والشعير والفحم.
الخمور الأسترالية لا تجد من يشتريها بعدما منعتها بكين
بعد عامين من فرض الصين تعريفات جمركية تصل إلى أكثر من 200% على نبيذ أستراليا، لا يزال صانعو الخمور الأستراليون يتعاملون مع هذا الانهيار الفوضوي مع سوق التصدير الأكثر ربحاً، والذي كانت تبلغ قيمته في السابق حوالي 1.2 مليار دولار أسترالي (802 مليون دولار أمريكي) سنوياً.
وقال ميتشل تايلور، الذي يدير شركة تايلورز واينز في جنوب أستراليا، إن حجم التعديل المطلوب في الأسواق لا يمكن الاستهانة به.
وقال: "بينما وجدنا فرصاً صغيرة جديدة، لم يكن هناك أي شيء يمكن أن يحل محل سوق بهذا الحجم. اعتاد تيلورز واين في السابق الحصول على حوالي خمس عائدات التصدير السنوية من الصين وحدها، ويقول مع جهود كبيرة ربما نكون قد استعدنا حوالي نصف ذلك".
ويبحث تايلور عن وجهات بديلة تشمل سنغافورة وكوريا الجنوبية وأمريكا الشمالية. وقال إنه في حين أن الهند قد تظهر يوماً ما كسوق كبيرة، فمن المحتمل أن يكون ذلك خلال عقد من الزمان على الأقل، بسبب مشكلات الوصول والتعريفات الجمركية.
وفي الوقت نفسه، فإن المملكة المتحدة قد تجاوزت الآن الصين، لتصبح الوجهة الأولى للنبيذ الأسترالي عالي الجودة.
وأضاف: "ليست الأمور كلها كئيبة، هناك بالتأكيد فرص للبناء".
واتخذ منتجو النبيذ الفاخر الآخرون نهجاً مختلفاً للتعامل مع تجميد التصدير إلى الصين. بدأت شركة Treasury Wine Estates Ltd، المعروفة بعلامتها التجارية Penfolds، في سبتمبر/أيلول الماضي الإنتاج في الصين – وهي خطوة سمحت لها بالتحايل على القيود المفروضة على المنتجات الأسترالية الصنع.
وقال تيلور إنه بينما يأمل أن تتحسن العلاقات، فإن الاعتماد على الصين وحدها يمثل استراتيجية محفوفة بالمخاطر على المدى الطويل.
وأضاف: "أعتقد أنه يتعين علينا أن نكون واقعيين وحذرين للغاية بشأن الصين". "نحتاج إلى الكثير من الطمأنينة ونرغب في سماع الكثير من الإيجابيات".
ينفقون نصف الصينيين.. الهند فشلت في أن تقدم بديلاً للسياحة الأسترالية
لا تزال صناعة السياحة الأسترالية تشعر بوطأة غياب الزوار الصينيين ذوي الإنفاق المرتفع، حيث انخفضت الأرقام بنسبة 92% في سبتمبر/أيلول 2022 مقارنة بالشهر نفسه من عام 2019، قبل الوباء.
لا يستطيع المشغلون الأستراليون الانتظار فقط ومعرفة متى ستنخفض سياسات صفر كوفيد الصينية، لذا في محاولة سد الفجوة، تسعى هيئة السياحة الأسترالية لتحقيق انتعاش عبر جلب سياح من بلدان أخرى، بما في ذلك الهند.
ولكن لا تزال الزيارات السياحية إلى أستراليا منخفضة بشكل كبير.
في حين أن الهند تتمتع بإمكانيات كبيرة كسوق، حيث توسعت الهجرة الهندية إلى أستراليا بنسبة 40% خلال السنوات الخمس الماضية، مما أتاح فرصاً هائلة لزيارات الأصدقاء أو الأقارب – إلا أن السوق لا يحقق أرباحاً يمكن مقارنتها بالصين.
قبل الوباء، كان الزوار من الصين ينفقون في المتوسط 215 دولاراً أسترالياً في الليلة. ويقارن ذلك بمبلغ 84 دولاراً أسترالياً فقط في الليلة للهنود، وفقاً لأرقام من مجموعة أستراليا ونيوزيلندا المصرفية المحدودة.
وقالت مادلين دونك الخبيرة الاقتصادية في وكالة ANZ: "فيما يتعلق بالإنفاق، يحتاج قطاع السياحة إلى ضعف عدد الزائرين من الهند مقارنة بالصين لتحقيق نفس الإيرادات".
نظام التعليم الأسترالي لم يتعاف من التوترات مع بكين وكوفيد
ولا يزال نظام التعليم الدولي في أستراليا يعاني أيضاً من الضربة المزدوجة للتوترات مع الصين وعواقب إغلاق الحدود جراء كورونا.
لا تزال معدلات الالتحاق من الصين، (أكبر مصدر للطلاب الدوليين في أستراليا)، أقل من 70% من مستويات ما قبل الوباء، وفقاً لبيانات حكومية.
في هذا المجال، الهند أيضاً تمثل بديلاً، ولكن ليس بنفس المستوى.
ففي نهاية أغسطس/آب، كان هناك 110 آلاف طالب هندي مسجلون في أستراليا، بانخفاض 15000 فقط عن أرقام عام 2019.
وينفق الطلاب الصينيون عادةً أموالاً أكثر على السلع الاستهلاكية عندما يكونون في أستراليا أكثر من الجنسيات الأخرى.
السعودية تمثل بديلاً لصادرات الشعير ولكن بسعر أرخص
كان توقيت فرض بكين رسوم مكافحة الإغراق التي تزيد عن 80% على الشعير الأسترالي في عام 2020 سيئاً للغاية بالنسبة للمزارعين الأستراليين. حيث جاءت هذه الخطوة بعد أسابيع فقط من وضع العديد منهم البذور في الأرض، مما جعلهم غير قادرين على تعديل برامج الزراعة.
وجدت أستراليا موطناً جديداً للحبوب من خلال تحويل جزء كبير من محصولها الوفير إلى المملكة العربية السعودية، التي تتنافس مع الصين على موقع أكبر مستورد للشعير في العالم.
لكن المشكلة أن السعودية عادة ما تستخدم معظم حبوب الشعير لتغذية الحيوانات، مما يعني أن الشعير الأسترالي عالي الجودة، والذي كان يُباع في السابق بأسعار مغرية في الصين، كان يُباع في السعودية بخصم كبير.
يقوم المزارعون الأستراليون الآن بزراعة أشياء مثل الكانولا والقمح، وكلاهما زاد الطلب عليه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
المأكولات البحرية تبحث عن أسواق بعيدة
صناعة المأكولات البحرية الأسترالية، التي تصدر ما يقرب من نصف إنتاجها، تجوب العالم بحثاً عن أسواق جديدة، بسبب العقوبات الصينية ضد أستراليا، حسب تقرير وكالة Bloomberg.
في حين أن الصين لا تزال أكبر وجهة منفردة، فقد حصلت هونغ كونغ على حصة كبيرة من السوق، بينما ارتفع الطلب من الولايات المتحدة وفيتنام وتايوان على صناعة المأكولات البحرية في أستراليا.
وقالت فيرونيكا باباكوستا، الرئيس التنفيذي لشركة SIA المتخصصة في هذا المجال: "يمكن أن نحقق مبيعات جيدة حقاً في أسواق أخرى، لكن الأمر يستغرق بعض الوقت".
وقال باباكوستا، وهو أيضاً المدير الإداري لشركة Sydney Fresh Seafood، إن الهيئة التجارية ستأخذ حوالي 20 مورداً إلى معرض رئيسي في بوسطن بالولايات المتحدة للمرة الأولى.
وأضافت أنها تعاونت أيضاً مع صناعة النبيذ والألبان لعرض مجموعة من المنتجات المتميزة في تايلاند. ويتم التخطيط لمزيد من الأحداث من كوريا الجنوبية إلى إندونيسيا.
أزمة أوكرانيا تنقذ الفحم الأسترالي وبكين يصعب عليها الاستغناء عنه
على النقيض من الصناعات الأخرى، فإن عائدات الوقود الأحفوري تزدهر الآن، العقوبات الصينية ضد أستراليا.
تراجعت صادرات الفحم إلى الصين في السنة المالية 2019-20 من حوالي 100 مليون طن إلى حوالي 20 مليون طن، في ضربة قوية للقطاع في ثاني أكبر سوق له.
ولكن اعتباراً من يوليو/تموز 2020، ارتفعت مشتريات الفحم من قبل اليابان وكوريا الجنوبية والهند، حيث تم تحويل الصادرات الموجهة إلى الصين إليها.
بحلول نهاية عام 2021، دفعت الطفرة الاقتصادية الناجمة عن نهاية قيود Covid-19 صادرات الفحم إلى مستويات عالية جديدة على الرغم من الحظر المستمر من قبل الصين، وفقاً لبيانات حكومية أسترالية.
واستمرت الطفرة في عام 2022، حيث أدى الطلب على الوقود الأحفوري الذي أثاره غزو أوكرانيا إلى تحقيق صناعة الفحم الأسترالية لواحدة من أكثر سنواتها ربحاً على الإطلاق.
في الوقت نفسه، أفادت التقارير أن الصين تفكر في إلغاء قيودها على الفحم الأسترالي لضمان حصولها على إمدادات كافية مع نمو الطلب على الوقود الأحفوري في جميع أنحاء العالم.
ويرى الخبراء الآن أن أكبر تهديد لصادرات الفحم الأسترالي ليس الحظر المستمر للصين، ولكن المسيرة الثابتة نحو الطاقة المتجددة في بعض أكبر أسواق السلع الأساسية للبلاد.