حيل الشركات لتقليل مواصفات منتجاتها من حيث الكمية والنوعية، أصبحت معقدة، لدرجة أنها تحتاج لمتخصصين لكشفها، بل إن هناك مناضلين أصبحوا يخصصون وقتهم وجهدهم لهذه القضية.
من هؤلاء يأتي الأمريكي إدغار دورسكي الذي أصبح أيقونة النضال ضد حيل الشركات لتقليل مواصفات منتجاتها.
قبل بضعة أسابيع، جاءته رسالة جديرة بالاهتمام عبر البريد الإلكتروني؛ حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
تقول الرسالة: "شراب السعال مخفف"، وقد جاءت مصحوبة بصورة لعبوتين من دواء شرب للسعال بدتا متماثلتين، إلا في اختلاف غريب واحد بينهما، فقد بدا محتوى العبوة الجديدة أخف تركيزاً من محتوى العبوة القديمة بمقدار النصف.
أبرز حيل الشركات لتقليل المواصفات
أثارت رسالة "شراب السعال" اهتمام دورسكي، فشرع في تعيين الخطوات اللازمة للتحقيق في الأمر.
بينما يمثل تخفيف تركيز الدواء واحدة من أخطر حيل الشركات لتقليل المواصفات، ولكن هناك حيل أخرى أكثر شيوعاً مثل التلاعب بالكمية والحجم.
يتلقى دورسكي رسائل البريد الإلكتروني من هذا النوع مراراً، فينبهه أحدهم إلى أن نوعاً معيناً من أكياس طعام الكلاب قد تقلص سراً من 22.5 كيلوغرام إلى 20 كليوغراماً؛ ويشير آخر إلى أن عبوة رقائق الفطور قد غيرت تصنيف المنتج من الحجم "العملاق" إلى الحجم "العائلي" وزاد طولها بنحو 2.5 سم، لكن محتوى العبوة من الرقائق قلَّت كميته؛ ويزعم ثالث أن زجاجتين من نوع منظف معين ما زالت متشابهة، لكن الزجاجة الأحدث تأتي بكمية أقل من المنظف.
إنهم يكتبون المواصفات بخط يصلح فقط أن يقرأه الفئران
كرَّس دورسكي معظم حياته لفضح حيلة من أبرز حيل الخداع في الاقتصاد الاستهلاكي الحديث، ألا وهي خدعة "تقليص حجم المنتج مع تثبيت السعر أو زيادته" (Shrinkflation)، وهي عملية تلاعب الشركات بالمنتجات أو العبوات باستعمال حيل خفية، لإقناع المستهلك بشراء النسخة الأحدث من المنتج بالسعر نفسه، أو حتى أكثر قليلاً من سعره القديم، على الرغم من تقليص حجم المنتج أو كميته عن النسخة الأقدم منه.
تستخدم شركات المنتجات الاستهلاكية هذه الحيلة منذ عقود، وقد جعل دورسكي من نفسه خصماً لهم وأخذ على عاتقه مهمة مراقبة هذه الحيل وكشفها للناس منذ عقود أيضاً. وينشر دورسكي حيل التلاعب التي كشفها عبر موقعه الإلكتروني mouseprint.org، (أي طباعة الفئران) الذي استمد اسمه من الكتابة الدقيقة على عبوات المنتجات، والتي غالباً ما تكون مكتوبة بحروف صغيرة جداً [في إشارة إلى محاولة الشركات تصعيب الاطلاع على تفاصيل منتجاتها]، كأنه يريد القول إن الشركات تكتب المواصفات بخط يصلح فقط أن يقرأه الفئران.
كتب دورسكي عن ظاهرة تقليص المنتج وتثبيت السعر في منتجات كثيرة مختلفة الأنواع، مثل سمك التونة والمايونيز والآيس كريم ومزيل العرق وصابون الأطباق، وغير ذلك من أعمال مناصرة المستهلك والدفاع عن حقوقه في قضايا عدة، مثل الإعلانات المضللة والدعاوى القضائية الجماعية ضد الشركات والادعاءات المبالغ فيها عن خصومات الأسعار.
وتعقب دورسكي في تقرير نُشر حديثاً على موقع Mouse Print تاريخ تقليص الشركات لحجم ورق التواليت، وعمل على توثيق الأمر على مدى عقد كامل، فكتب: "كل أنواع ورق التواليت تقريباً شهدت تقليصاً في حجمها على مر السنوات الماضية".
أمضى معظم حياته في مكتب توعية المستهلكين وبات أهم خبير في العالم بهذا المجال
يبلغ دورسكي من العمر 71 عاماً، وهو محام غير متفرغ بدأ مسيرته المهنية باحثاً في دراسات السوق، ثم عمِل مراسلاً لأخبار الأسواق على قناة تلفزيونية محلية. وترقى دورسكي إلى العمل مع مكتب المدعي العام في ولاية ماساتشوستس الأمريكية وأمضى معظم مسيرته في قسم توعية المستهلكين التابع لمكتب الولاية لشؤون المستهلكين، حتى صار مدافعاً مستقلاً عن حقوقهم، وربما أبرز خبير في العالم بمسألة التلاعب بحجم المنتجات.
هيأ دورسكي نفسه للتخصص في هذا العمل والاضطلاع بتعقب عمليات تقليص المنتجات منذ بضع سنوات. إذ لما كان التضخم قد بلغ أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، فقد زادت الشركات من تقليص أحجام منتجاتها واستعانت في ذلك بوسيلة لإخفاء الزيادات التي تفرضها في الأسعار.
قال كريشناكومار ديفي، رئيس قسم المنتجات الاستهلاكية في شركة أبحاث السوق IRI، إن "المصنِّعين يواجهون زيادة باهظة في تكاليف الإنتاج"، مشيراً إلى ارتفاع أسعار المكونات الخام ومرتبات العمالة ونفقات الشحن، و"هم يحاولون تدارك ذلك وموازنة الأمر".
يعمل دورسكي 7 أيام في الأسبوع من شقته يسيرة الحال المكونة من 3 غرف نوم، يعيش فيها وحده. ويرى دورسكي أن نشر وسائل الادخار والمعرفة بالاقتصاد أكثر من مجرد وظيفة، إنه أسلوب حياة. وقد حصد أكثر من 7 آلاف دولار العام الماضي، معظمها من التبرعات وعائدات الإعلان. وهو مشارك في برنامج الضمان الاجتماعي ويتلقى معاشاً حكومياً ولديه بعض المدخرات.
اتخذ دورسكي شعاراً لنفسه: "أنا لا أوصي الناس إلا بما أمارسه"، ويقول إن التباهي والسعي إلى لفت أنظار الناس أمور ليست من شيمه، فبعض الناس يذهب للصيد من أجل تمضية الوقت، أما أنا فتجدني أبحث عن صفقة مربحة وأفتش عن مكسب!
يبدأ دورسكي عمله اليومي بالنظر في بريده الإلكتروني ثم تصفح الويب بحثاً عن آخر أخبار المستهلكين وشؤون السوق لتضمينها في موجزه الإخباري، ونشرته على موقع الإلكتروني الآخر Consumer World.
أجرى دورسكي منذ مدة قريبة لقاءين تلفزيونيين لمناقشة مسألة تقليص حجم حلوى الهالوين، وعرض ما توصلت إليه تحقيقاته بشأن الأمر، ومزاعم الشركات المصنعة التي دافعت عن تقليص منتجاتها بقولها إنها باتت تحتوى على سعرات حرارية أقل.
التضخم يؤدي إلى توسع الظاهرة
في ظل ما تشهده الولايات المتحدة من تضخم وما يشهده السوق من تلاعب بالمنتجات، تزايد حضور مقاطع الفيديو التي ينشرها دورسكي على شاشات التلفاز خلال المدة الماضية، واستعان بها المذيع الشهير جون أوليفر في برنامجه، لعرض بعض المنتجات التي تقلص حجمها مثل معجون الأسنان والمشروبات الرياضية.
لم يقتصر الأمر على الأوساط العامة، بل ذاع صيت دورسكي في الوسط الأكاديمي أيضاً، وقال جوزيف بالاغتاس، أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة بوردو الأمريكية والمعني بدراسة ظاهرة تقليص المنتجات، إنه لا يعرف أحداً عُني بتوثيق هذه الظاهرة والاهتمام بها مثل دورسكي. وقال هيتندرا شاتورفيدي، أستاذ مادة إدارة سلاسل التوريد بجامعة ولاية أريزونا، إنه لجأ إلى دراسات دورسكي لبناء قاعدة البيانات في أبحاثه.
كيف يتعقب المنتجات الجديدة والقديمة؟
يقول دورسكي إن تعقب تقليص الشركات لمنتجاتها عادة ما يكون أمراً صعباً، لكنه قد يُوفق في العثور على بعضها فيما يصل إلى المتاجر من مخزونات جديدة، حين تجتمع العبوات الحديثة والقديمة، جنباً إلى جنب على الرف نفسه.
ويتعقب دورسكي أيضاً بعض علامات الاشتباه في المنتجات، مثل عبارة "جديد ومُحسَّن" على العبوات الجديدة. لكن الأهم من ذلك لديه هو فحص أوزان العبوات وموازنتها. وهو ينصح المستهلكين بأن "يتفحصوا المنتجات التي يشترونها طوال الوقت، وأن يلاحظوا الوزن الصافي، ثم يتحروا عن هذا الوزن عند العودة إلى المتجر للتحقق من أن تطابق العبوة أو الصندوق أو الزجاجة" مع المنتج الذي اشتراه في المرة السابقة.
ومع ذلك، فإن التحقق من عبوة شراب السعال أمر أكثر صعوبة، لأن الأمر هنا يحتمل أن يعتمد على ما يسميه دورسكي "التقتير التضخمي" (Skimpflation)، ويقصد به تبديل المصنِّع لمنتجاته بالاعتماد على مكونات أرخص، بغرض تقليص النفقات وزيادة الأرباح، من دون تغيير في سعر المنتج.
في حالة شراب السعال، أرسل المبلِّغ صوراً لنوع معين من شراب السعال، يظهر فيها أن جرعة البالغين قد تضاعفت من 10 ملّيلترات في الزجاجة القديمة إلى 20 مليلتراً في الزجاجة الجديدة. فبدأ دورسكي بتفحص العبوات التي وردت إلى المتاجر الأخرى، وأمضي ساعتين في زيارة 5 سلاسل صيدليات مختلفة، راجياً العثور على عبوات قديمة وجديدة في كل سلسلة منها للقبض على محاولات التلاعب بالتلبس.
يرى دورسكي أن أبرز ما فعله في مسيرته هو صياغة قانون تسعير السلع بمتاجر المواد الغذائية في ولاية ماساتشوستس في عام 1987، وهو يجتهد حالياً لمحاربة ما يُعرف بقسائم الشراء ذات "الخصم الرقمي"، والذي يشير إلى أن التلاعب فيها يصعب كشفه على كبار السن، لأن الأدوات الرقمية عسيرة الاستخدام عليهم.
ما زالت تحقيقات دورسكي في التلاعب بمحتوى شراب السعال جارية، لكنه ينوي الكشف عن النتائج التي توصل إليها على موقعه الإلكتروني Mouse Print، وقال في مقابلة إن الشركة القائمة على إنتاج دواء الشرب "روبيتوسين Robitussin" غيَّرت مكوناتها منذ عدة سنوات، وتبعتها شركات أخرى في ذلك بعد مدة وجيزة.
وقالت متحدثة باسم شركة Haleon، الشركة المصنعة لدواء روبيتوسين، إننا "نضع نصب أعيننا تلبية الاحتياجات الناشئة للمستهلكين خلال ابتكارنا لتركيبات منتجاتنا، وإن جودة المنتجات وسلامتها دائماً ما تكون ذات أهمية قصوى لنا".
أبدى دورسكي تخوفه من أن الدفاع عن المستهلكين وحقوقهم صار مهنة في طور الاحتضار، وأعرب عن انزعاجه من تزايد صعوبة الكشف عن التلاعب بالمنتجات، لكنه افتخر بما توصل إليه من تلاعب في دواء روبيتوسين ونجاح في تحذير الناس بعد ذلك.