يقال إن أجهزتنا المناعية لها ذاكرة قوية تساعد على تخزين معلومات خاصة بالفيروسات التي نتعرض لها، وما أن نتعرض للعدوى نفسها مرة أخرى، حتى تقوم خلايا المناعة بتحفيز الجسم للاستعداد للفيروس ومهاجمته فوراً، فهل يعني هذا أن الإصابة المتكررة بالفيروسات تقوي مناعتنا؟
فحين يحل فصل الشتاء وتنخفض درجات الحرارة ويبدأ تساقط الأمطار في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، في نصف الكرة الشمالي، يبدو للمرء أن الهجمة الموسمية للسعال والتهاب الحلق والزكام أمرٌ لا مفر منه.
الفيروسات المسببة لنزلات البرد متعددة ومتنوعة للغاية، وعلى الرغم من تشابه أعراض العدوى الفيروسية، التي تصيب الجهاز التنفسي بشكل أساسي، إلا أن لنزلات البرد مسميات متعددة وأعراضاً متفاوتة بين ما هو خفيف وما هو حاد.
ماذا تعني محاولة تقوية جهاز المناعة؟
البروفيسور سالي بلومفيلد، رئيسة المنتدى العلمي الدولي لشؤون النظافة المنزلية (IFH)، قالت لصحيفة The Guardian البريطانية إنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن "الذراع المهاجمة" التي يعتمد عليها جهاز المناعة لدينا قاصرة على مسببات المرض التي واجهناها سابقاً، أما "محاولة بناء مناعة ضد أنواع مختلفة من الأمراض المعدية فليس إلا إضراراً بالذات، و[تعريض النفس لمسببات العدوى] لن ينجم عنه إلا الإصابة بعدوى سيئة دون أن تحمينا من الإصابة بغيرها من مسببات العدوى".
بينما أشارت البروفيسور ديبورا دن والترز، رئيسة فريق مكافحة كورونا التابع للجمعية البريطانية لعلم المناعة، إلى أن الإصابة بنزلة برد قد لا تحميك من الإصابة بنزلة أخرى بعد بضعة أسابيع، "فنحن نسميها جميعاً نزلات برد، لكن مسببات هذه النزلات ليست واحدة، بل هناك الكثير والكثير من المسببات المختلفة للعدوى".
من جهة أخرى، فإن عدم التعرض لأي من مسببات الأمراض من بكتيريا وفيروسات وطفيليات ليس مفيداً في جميع الأحوال أيضاً. ويقول البروفيسور بابلو مورسيا، عالم الفيروسات بجامعة غلاسكو البريطانية، إننا شهدنا بعد رفع قيود الإغلاق المرتبطة بمكافحة كورونا ارتفاعاً في حالات الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي (وهو مسبب شائع لالتهابات الجهاز التنفسي السفلي الحادة لدى الأطفال الصغار)، "فالفيروس المخلوي من الفيروسات التي تنتشر في الشتاء عادة، إلا أننا شهدنا منذ عودة الناس إلى الاختلاط إصابات كثيرة بين الأطفال بهذا الفيروس، وخلال جميع الفصول".
وتعيش مصر حالياً على وقع انتشار "الفيروس المخلوي التنفسي" بين الأطفال، إلى حد وصول الأمر إلى مطالبات بتعطيل الدراسة لاحتواء التفشي، ووجهت وزارة الصحة والسكان المصرية تحذيرات من انتشار الفيروسات التي تصيب الجهاز التنفسي، والتي تصيب عدداً كبيراً من الأطفال، بعد انتشار حالات الإصابة بين أطفال المدارس بشكل لافت.
ومنذ تفشي وباء كورونا حول العالم قبل نحو 3 سنوات، وبصفة خاصة خلال فصل الشتاء، يخلط الكثيرون بين حالات البرد وعدوى كورونا خفيفة الأعراض، نظراً لتشابه الأعراض بينهما.
لكن خلال الأيام القليلة الماضية، ومع تفشي نزلات البرد القاسية بين الأطفال، أجرى قطاع الطب الوقائي في مصر مسحة على عدد من الأطفال المصابين بأعراض الجهاز التنفسي، أظهرت أن 73% من الحالات هي إصابة بالفيروس المخلوي التنفسي، أو الفيروس الغدي.
هل التعرض لفيروسات الإنفلونزا يُضعف جهاز المناعة؟
بالعودة إلى سؤال: لكن هل التعرض المستمر للعدوى اليومية مثل نزلات البرد والأنفلونزا يستنزف مناعتنا أم يقويها؟
يُقال كثيراً إن أجهزتنا المناعية لها ذاكرة، فإذا تعرض الفرد للإصابة بعدوى أصيب بها من قبل، كالعدوى بفيروس ما مثلاً، فإن الخلايا المناعية المتخصصة التي تتذكر هذا الفيروس تدور في الدم وسوائل الجسم، محفزةً الخلايا لإعداد استجابتها المناعية السريعة إذا واجهت الفيروس مرة أخرى.
وتقوم اللقاحات والتطعيم ضد الفيروسات على الفكرة نفسها، لكن يرى كثير من خبراء الفيروسات والطب الوقائي أنه لا داعي هنا للإصابة بعدوى فيروسية خطيرة أو بكتيريا مضرة لتكوين ذاكرة عن الأمر.
فالواقع أن التعرض لمسببات العدوى بكميات قليلة وبوتيرة متكررة يساعد في إنعاش ذكريات الجهاز المناعي عن مسببات الأمراض الشائعة، وتحديث معلوماته بشأن المتغيرات الجديدة. لكن لا حاجة بنا إلى استنشاق هذه المسببات أو التعاطي معها بجرعات كبيرة لإحداث التأثير المطلوب.
وفي معرض التوضيح، قال مورسيا لصحيفة الغارديان إن "التعرض للمرض والإصابة به أمران مختلفان. فنحن نتعرض للفيروسات وغيرها من مسببات الأمراض طوال الوقت، وكثيراً ما تتولى أجسادنا الاستجابة لمسببات الأمراض من دون حتى أن ندرك أنها موجودة. وأنا أوصي بعدم التعرض عمداً للمسببات، لأن كل عدوى لها مخاطرها".
ولفتت البروفيسور دن والترز، أستاذة علم المناعة بجامعة سُري، إلى أن الإصابة بالبرد لا تكون خفيفة على الجميع، "فشدةُ إصابتك بالعدوى تتوقف على عمرك، ومقدار ما تعرضت له من [مسبب المرض]. وكل واحد منا يصاب بنزلات البرد بعد سن معينة يدرك أن وطأة المرض اشتدت عليه عن ذي قبل. فصغار السن يمكنهم تجاهل الأمر [لقوة مناعتهم]، أما كبار السن فيجدر بهم تجنب الوقوع المتكرر في براثن العدوى".
ولا يمكن للناس أيضاً تعريض أنفسهم للفيروسات، وانتقاء العدوى التي سيتعرضون لها دون غيرها، فاستنشاق فيروسات الأنف الشائعة المسببة لنزلات البرد، أو التقاطها من الأسطح، يعرض الناس لخطر الإصابة بأمراض أخرى، ومنها فيروس كورونا.
ماذا عن تأثير فيروس كورونا على جهاز المناعة؟
ثمة أدلة متراكمة على أن فيروس كورونا له تأثير ضار على جهاز المناعة، ويتواصل هذا التأثير مدة أسابيع أو أشهر بعد انحسار العدوى. وقد كشف بحث أجرته البروفيسور أكيكو إيواساكي، في كلية الطب بجامعة ييل الأمريكية، عن تغير في توازن الخلايا المناعية المنتشرة لدى الأشخاص الذين أصيبوا بفيروس كورونا مدة طويلة.
وقالت البروفيسور دن والترز: "لقد تبين أن كثيراً من التغييرات [الناجمة عن الإصابة بفيروس كورونا مدة طويلة] لا يمكن القول بأنها تقوي جهاز المناعة. بل إن الإصابة بالفيروس تُحدث تشوهات في جهاز المناعة، تجعله عاجزاً عن التصدي لأنواع أخرى من العدوى أيضاً".
في غضون ذلك، نشرت دورية Nature Communications العلمية هذا الأسبوع مقالة أوردت أدلة على أن التعرض لفيروس كورونا قد يقلل من تنوع البكتيريا في أمعائنا، ومن ثم يتيح للميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية أن تتكاثر. وقال الدكتور جوناس شلوتر، مؤلف الدراسة والأستاذ المساعد بمركز نيويورك لانجون الصحي الأمريكي، "تسلِّط نتائج الدراسة الضوء على شدة الترابط بين ميكروبيوم الأمعاء وحالة المناعة في مناطق أخرى من الجسم، فالإصابة في إحداها قد تؤدي إلى اضطرابات كبيرة في غيرها".
وللبكتيريا في أمعائنا أهمية حيوية للغاية في الحفاظ على صحتنا العامة، إذ يعيش داخل أمعائنا مجتمع متنوع من تريليونات الميكروبات، التي تُشكّل "الميكروبيوم" وتزن حوالي كيلوغراميْن. يتأثر توازن "الميكروبيوم" بالبيئة المحيطة بك وما تأكله من طعام، الأمر الذي بدوره يؤثر سلبياً في عمليات حيوية متنوعة ومهمة، مثل التمثيل الغذائي وعمل جهاز المناعة، وحتى الحالة المزاجية للشخص.
يجب إبقاء "الميكروبيوم" متوازناً ومتنوعاً من أجل الحفاظ على صحة جسم الإنسان؛ لكن هذا الأمر بات يُمثّل مشكلة متزايدة في العصر الحديث، حيث يختل توازن بكتيريا أمعائنا بالعلاجات الطبية، مثل المضادات الحيوية، والنظم الغذائية الأقل تنوعاً.
لكن لا يعني الخوف من الإصابة المتكررة بعدوى فيروسات الشتاء وجوبَ العودة إلى التباعد الاجتماعي ولا إلزام الناس بارتداء القناع الطبي، لكن إذا كنت مريضاً -أو ترغب في تجنب الإصابة بالمرض- فعليك تجنب الأماكن المغلقة المزدحمة. وارتداء القناع إذا عزمت على دخولها أمر جدير بالاتباع أيضاً، وكذلك غسل اليدين بانتظام وتوجيه السعال أو العطس نحو الكوع.
تحتشد أجواء الشتاء بالفيروسات المعدية، من فيروس الإنفلونزا إلى فيروسات القيء (نوروفيروس)، وكلها تبحث عن مضيف رطب دافئ تتكاثر لديه في غضون التحول من فصل الخريف إلى فصل الشتاء، فهل تريد حقاً أن تكون أنت هذا المضيف؟!
يؤكد فريق “عربي بوست” على أهمّية مراجعة الطبيب أو المستشفى فيما يتعلّق بتناول أي عقاقير أو أدوية أو مُكمِّلات غذائية أو فيتامينات، أو بعض أنواع الأطعمة في حال كنت تعاني من حالة صحية خاصة.
إذ إنّ الاختلافات الجسدية والصحيّة بين الأشخاص عامل حاسم في التشخيصات الطبية، كما أن الدراسات المُعتَمَدَة في التقارير تركز أحياناً على جوانب معينة من الأعراض وطرق علاجها، دون الأخذ في الاعتبار بقية الجوانب والعوامل، وقد أُجريت الدراسات في ظروف معملية صارمة لا تراعي أحياناً كثيراً من الاختلافات، لذلك ننصح دائماً بالمراجعة الدقيقة من الطبيب المختص.