أزمة غذاء عالمية كبرى كادت تحدث لو لم يتم تجديد صفقة الحبوب الأوكرانية اليوم بوساطة تركية أممية بعد أن هددت روسيا بعدم تمديد الصفقة لأنها اتهمت الغرب بخداعها.
وأعلن الرئيس التركي رجب أردوغان، اليوم الخميس، أنه تم تمديد اتفاق صفقة ممر الحبوب عبر البحر الأسود لمدة 120 يوماً اعتباراً من 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أي تم تمديد الصفقة قبل يومين من انتهاء أجلها فقط.
ووصف وزير البنية التحتية الأوكراني أولكسندر كوبراكوف التمديد بأنه "خطوة مهمة أخرى في الكفاح العالمي ضد أزمة الغذاء العالمية"، وقالت وزارة البنية التحتية الأوكرانية، في بيان، إنه "اتُّخذ هذا القرار للتوّ في اسطنبول، وإن الأمم المتحدة وتركيا لا تزالان ضامنتين للمبادرة".
وقدمت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تهانيها لكل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، جراء تمديد اتفاق الحبوب.
وكان موضوع تمديد صفقة الحبوب الأوكرانية محل اهتمام ونقاش كبيرين خلال قمة العشرين في بالي بإندونيسيا؛ حيث طالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بضرورة تمديدها، خلال كلمته الموجهة إلى القمة، فيما أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحات للصحفيين، خلال قمة العشرين، عن تفاؤله بأنه سيتم تمديدها، مشيراً إلى أن الصفقة أدت للسماح بمرور 11 مليار طن من الحبوب.
وساعدت الصفقة التي تم التوصل إليها في يوليو/تموز ووقعت بإسطنبول، في تجنب أزمة الغذاء العالمية من خلال السماح بتصدير المواد الغذائية والأسمدة من العديد من موانئ أوكرانيا المطلة على البحر الأسود، والتي كانت قد أغلقتها روسيا، ومثلت الصفقة أهمية للعالم العربي بشكل خاص لأنه يعد من أكثر مناطق العالم اعتماداً على استيراد الحبوب في أمنه الغذائي.
فـ"صفقة الحبوب الأوكرانية" بمثابة نقطة ضوء دبلوماسية نادرة في الأزمة الأوكرانية، حسب وصف صحيفة the Guardian البريطانية؛ حيث أدت دوراً بالغ الأهمية في خفض أسعار الحبوب لأن روسيا وأوكرانيا تمثلان حوالي 30٪ من صادرات العالم من القمح والشعير وخُمس إنتاجها من الذرة وأكثر من نصف إجمالي زيت عباد الشمس.
لماذا هددت روسيا بعدم تجديد صفقة القمح الأوكراني؟
الخلاف حول صفقة الحبوب الأوكرانية هو جزء من معركة دبلوماسية أوسع بين روسيا والغرب لجذب الرأي المتشكك في الجنوب العالمي إلى صف كل منهما، حسب وصف الصحيفة البريطانية.
لوّحت روسيا بعدم تجديد صفقة الحبوب الأوكرانية، لأنها اتهمت الغرب بخداعها، وقالت إن الصفقة غير عادلة لأن العقوبات الغربية استمرت بشكل غير مباشر في التأثير على صادرات الحبوب الروسية من خلال التأثير على المدفوعات والتأمين والشحن، واتهمت الغرب بأنه لم يفعل ما يكفي لإقناع شركات التأمين وشركات الشحن بنقل واستيراد القمح والأسمدة الروسية.
واشتكت روسيا من أن الاتفاق يسمح للحبوب الأوكرانية بمرور أسطولها البحري على البحر الأسود، في حين أن صادراتها من الحبوب والأسمدة لم تمنح حرية الوصول إلى الأسواق العالمية بسبب العقوبات المفروضة على السفن والبنوك.
وكان أحد العوامل التي تعرقل تجديد صفقة القمح الأوكرانية أيضاً، هو رغبة روسيا في تنفيذ اتفاق أبرم بواسطة أممية، لاستئناف استخدام تشغيل خط أنابيب ينقل غاز الأمونيا وهو مكون رئيسي في سماد النترات، من روسيا عبر الأراضي الخاضعة للسيطرة الأوكرانية لتصديره من ميناء بالقرب من مدينة أوديسا الأوكرانية، وكان تم تعليق استخدام موسكو لخط الأنابيب بعد غزوها لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
وتقضي خطة الأمم المتحدة بإحضار الأمونيا التي تنتجها شركة أوارالشيم الروسية المنتجة للأسمدة إلى الحدود الروسية الأوكرانية. سيتم شراء المنتج من قبل شركة السلع الأمريكية Trammo قبل وضعه في خط الأنابيب، ويعني ذلك أن المنتج لم يعد روسيا مما يسمح بنقله عبر الأراضي الأوكرانية. ولكن شركة أورالشيم مملوكة لديمتري مازبين، وهو من الأوليغاركية الروسية الخاضعة للعقوبات، مما يجعل الصفقة أكثر تعقيداً.
كما طالبت موسكو برفع العقوبات عن البنوك الروسية المتخصصة في التعامل مع الصادرات الزراعية الروسية.
وليس من المعروف بعد ما نالته روسيا مقابل موافقتها على تمديد صفقة حبوب البحر الأسود.
وفي حديث في بالي قبل تمديد الصفقة، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي ترأس وفد بلاده في قمة العشرين، بدلاً من الرئيس فلاديمير بوتين، إن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أعطى روسيا تأكيدات مكتوبة بأن الغرب سيزيل العراقيل أمام الصادرات الروسية.
وكان الرئيس التركي قد قال خلال قمة العشرين إنه من المتوقع أن تستمر الصفقة الحيوية التي تسمح بتصدير القمح والأسمدة الروسية والأوكرانية عبر البحر الأسود؛ مما يجلب الإغاثة لبعض أفقر دول العالم.
وقال أردوغان إن اتفاقية إسطنبول أظهرت إمكانية الأطراف للتوصل إلى اتفاق رغم الحرب، مشيراً إلى ضرورة اتخاذ خطوات للتخفيف من عقبات نقل الحبوب واستمرارية عمل الآلية.
كيف أنقذت صفقة الحبوب الأوكرانية العالم من أزمة غذاء؟
تفاوضت تركيا والأمم المتحدة بشكل مشترك على صفقة الحبوب الأوكرانية في البحر الأسود في يوليو/تموز 2022.
حتى 7 نوفمبر/تشرين الأول 2022، تم تصدير أكثر من 10 ملايين طن من الحبوب والمواد الغذائية الأخرى عبر مبادرة حبوب البحر الأسود.
كان أكثر من 40٪ من البضائع التي تم تمريرها عبر الصفقة من الذرة، وهي الحبوب الأكثر تضرراً من توقف تصدير الحبوب الأوكرانية في بداية الحرب (حيث مثلت الذرة نسبة 75٪ من 20 مليون طن من الحبوب المخزنة)؛ حيث كانت مكدسة في المخازن، وكان لا بد من نقلها بسرعة لإفساح المجال للقمح في موسم الحصاد الصيفي.
في الأشهر الأولى من الحرب الروسية ضد أوكرانيا، منعت البحرية الروسية حركة المرور من الدخول والخروج من الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، حيث حاصرت حوالي 20 مليون طن من الحبوب المعدة للتصدير داخل البلاد، إلى جانب مواد غذائية أخرى؛ مثل الذرة وزيت عباد الشمس، وقد تسبب ذلك في ارتفاع أسعار الغذاء العالمية بشكل هائل، وشكل تهديداً كبيراً للبلدان في جميع أنحاء العالم، خاصة الدول الفقيرة المعرضة بالفعل لخطر انعدام الأمن الغذائي.
على سبيل المثال، قفز سعر القمح بعد الغزو الروسي لأوكرانيا بنسبة 50٪ منذ عام 2021، وكذلك شهدت الحبوب الأخرى قفزات كبيرة، ولكن الأسعار تراجعت بسبب مبادرة حبوب البحر الأسود، وكان يمكن أن تقفز بشكل كبير لو لم يتم تمديدها.
وقبل الحرب، كانت أوكرانيا أحد المصدرين الرئيسيين للحبوب في العالم، بحصة عالمية تبلغ 42 في المائة من صادرات زيت عباد الشمس، و16 في المائة من صادرات الذرة، وما يقرب من 10 في المائة من صادرات القمح العالمية. كانت بعض البلدان تعتمد بشكل كبير على الإمدادات من أوكرانيا، التي وفرت أيضاً حوالي 40 في المائة من إمدادات القمح لبرنامج الأغذية العالمي.
حاولت أوكرانيا تصدير محاصيل الحبوب الخاصة بها عبر النقل البري لدول أوروبا الشرقية، ولكن المسألة كانت مكلفة وصعبة لوجستياً، خاصة في ضوء الفروق بين أنظمة القطارات لدى أوكرانيا الموروثة من الاتحاد السوفييتي وجيرانها الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، وكانت المشكلة الأكبر لدى كييف أن المخازن كانت مكدسة، فيما كانت تستعد لاستقبال محصول الموسم الجديد دون مكان لتخزينه، وناشد العديد من الدول الإفريقية الدول الكبرى التدخل لحل الأزمة.
في المقابل، كانت روسيا تقول إن أوكرانيا هي التي قامت بتلغيم المياه في البحر الأسود، كما أعربت عن تخوفها من أن قدوم السفن لجلب الحبوب يمكن أن يؤدي لنقل الأسلحة لكييف، من جانبها، رفضت أوكرانيا إزالة الألغام خوفاً من اجتياح روسي عبر البحر.
وتدخلت تركيا والأمم المتحدة، ثم وقَّع الجانبان على مبادرة البحر الأسود في 22 يوليو/تموز، لإنشاء ممر آمن للشحن، وأبحرت السفينة الأولى من أوكرانيا في 1 أغسطس/آب 2022.
وبعد التنفيذ، انخفضت أسعار المواد الغذائية بنسبة 7.90 في المائة مقارنة بسعرها في مارس/أذار 2022.
وفي سبتمبر/أيلول 2022، صدرت أوكرانيا أربعة ملايين طن من الغذاء عبر البحر الأسود، قبل الغزو الروسي. كييف كانت تشحن خمسة ملايين طن شهرياً، أي أن المبادرة أدت لتصدير كييف لنحو 80% من معدلها الطبيعي.
ذهبت بعض الحبوب المصدرة مباشرة إلى أفقر البلدان في العالم، وتم شحن البعض الآخر إلى بلدان يتعرض فيها الناس لخطر المجاعة، في إطار برامج الإغاثة الإنسانية للأمم المتحدة.
ومع ذلك، تظهر أرقام الأمم المتحدة أن الجزء الأكبر من المواد الغذائية الأوكرانية المصدرة في الأشهر الثلاثة الماضية كان متوجهاً إلى إسبانيا وتركيا وإيطاليا والصين وهولندا.
قبل الحرب، كانت مصر وإندونيسيا وبنغلاديش أكبر مستوردي القمح الأوكراني.
وقالت الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول إن ما يقل قليلاً عن 30٪ من الحبوب التي عبرت من خلال الصفقة، ذهبت إلى البلدان ذات الدخل المنخفض، بينما تم شحن 44٪ إلى البلدان ذات الدخل المرتفع.
ومع ذلك، فقد ساعد استئناف صادرات المواد الغذائية الأوكرانية في جميع أنحاء العالم على خفض أسعار المواد الغذائية الدولية بين يوليو/تموز ونهاية أكتوبر/تشرين الأول، وفقاً لمؤشر أسعار الغذاء التابع للأمم المتحدة.
دور تركيا على الأرض شديد الحساسية
دور تركيا في المبادرة دقيق وحساس للغاية، لأن الدولتين لا تثقان ببعضهما، وروسيا لا تثق بالغرب؛ لذا فإن أنقرة تكاد تكون الطرف الوحيد الذي يثق فيه الطرفان، كما أنها دولة متشاطئة على البحر الأسود مثل روسيا وأوكرانيا وتتحكم في مدخله الوحيد، ولديها أسطول حربي كبير ولها علاقات عسكرية وثيقة بالبلدين، وبالتالي فهي الأقدر على التنسيق الميداني في المبادرة والتي تشمل عمليات تحريك وشحن وتفتيش سفن بين بلدين يخوضان حرباً ضروساً.
ورغم نجاح الصفقة وعدم وقوع حوادث تذكر، لم تعد الصادرات إلى مستويات ما قبل الحرب، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن العديد من الشركات ترفض إرسال سفن الشحن الخاصة بها إلى الممر الذي يقع في وسط الحرب.
يقول ديفيد أوسلر، من صحيفة Lloyd's List الملاحية: "إنهم ما زالوا خائفين من اصطدام سفنهم بلغم أو تعرضها لهجوم عسكري".
كيف تعمل الاتفاقية؟
وافقت روسيا وتركيا وأوكرانيا على السماح بتصدير الحبوب والأسمدة من الموانئ الأوكرانية الثلاثة الرئيسية التي لا تزال مفتوحة؛ وهي أوديسا وتشورنومورسك ويوجني مع إنشاء ممر بحري آمن من هذه الموانئ إلى المضائق التركية التي تمر بإسطنبول، بطول 310 أميال بحرية وعرض ثلاثة أميال بحرية، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ونصت الاتفاقية على عمليات تفتيش روسية تركية وأوكرانية مشتركة للسفن في تركيا بما يسمح بمرور آمن لها من وإلى الموانئ الأوكرانية.
وفقاً للاتفاق، فإن السفن الحربية الأوكرانية تلتقي سفن الحبوب خارج الموانئ وتقودها لتجنب الألغام التي وضعتها القوات البحرية الأوكرانية في المياه قبالة سواحل البلاد.
ومدة الاتفاقية كانت 120 يوماً تنتهي في 19 نوفمبر/تشرين الثاني كما سبقت الإشارة.
لماذا انسحبت روسيا من المبادرة لفترة؟
علقت روسيا صفقة ممر البحر الأسود في 29 أكتوبر/تشرين الأول بعد أن هاجمت أوكرانيا قاعدتها البحرية في سيفاستوبول بطائرات مسيرة.
وقالت موسكو إن سفينة أوكرانية تستخدم الممر الآمن شاركت في الهجوم، على الرغم من أن الأمم المتحدة تقول إنه لم تكن هناك سفن في الممر في ذلك الوقت.
وعندما علقت روسيا الصفقة، قفز السعر العالمي للقمح في بورصات السلع الأساسية العالمية بأكثر من 5٪، وقفزت أسعار الذرة بنسبة 2٪، في اليوم الأول للتداول في بورصات الأغذية.
ولكن روسيا عادت وقررت العودة للاتفاق بعد أن تلقت تأكيدات من أوكرانيا بأنها لن تستخدم الممر لمهاجمة القوات الروسية.
ولعبت تركيا دوراً رئيسياً في قرار روسيا بالعودة للاتفاق آنذاك، حسب تقرير للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، حيث تحدث وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو مع نظيره التركي خلوصي آكار.