جاء الإعلان عن فتح تحقيق أمريكي في مقتل شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة والصحفية الفلسطينية الأمريكية ليمثل خطوة مفاجئة من الولايات المتحدة التي اعتادت التغاضي عن جرائم إسرائيل وأحياناً الدفاع عنها، الأمر الذي يثير تساؤلات عن أسباب هذا القرار، وهل هو خطوة شكلية أم ستنتج تداعيات، سواء بالنسبة للمسؤول عن الجريمة أو العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.
وأعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية، مساء أمس الإثنين، أن وزارة العدل الأمريكية فتحت تحقيقاً في مقتل الصحفية الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة في جنين بالضفة الغربية المحتلة في 11 مايو/أيار 2022 برصاصة يرجح أنها أطلقت من قبل جندي إسرائيلي.
وشجب وزير الدفاع الإسرائيلي المنتهية ولايته، بيني غانتس، التحقيق باعتباره "تدخلاً في الشؤون الداخلية لإسرائيل"، ووصفه بأنه "خطأ فادح"، وقال إنه "أوضح للممثلين الأمريكيين أننا ندعم جنود الجيش الإسرائيلي ونقف خلفهم، وأننا لن نتعاون مع أي شخص خارجي في تحقيق".
وزعم أن الجيش الإسرائيلي أجرى تحقيقاً مهنياً ومستقلاً، تم تقديم تفاصيله ونتائجه إلى الأمريكيين.
وقالت منظمة يش دين الإسرائيلية لحقوق الإنسان، الإثنين، إنها ترحب بنبأ تحقيق أمريكي في الأمر.
وجاء الإعلان عن فتح تحقيق أمريكي في مقتل شيرين أبو عاقلة بعد ستة أشهر من الجريمة التي وقعت، أثناء تغطيتها غارة للجيش الإسرائيلي على مخيم جنين، الأمر الذي أثار غضباً فلسطينياً وعالمياً في ذلك الوقت.
لماذا يعد قرار فتح تحقيق أمريكي في مقتل شيرين أبو عاقلة تحولاً في موقف إدارة بايدن؟
وتمثل الخطوة الأمريكية تحولاً في مواقف إدارة بايدن، التي خلصت إلى أن أبو عاقلة قُتلت على الأرجح برصاص أطلق من موقع جنود إسرائيليين، لكنها رفضت مطالبة إسرائيل بفتح تحقيق جنائي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
جاء هذا التحول بعد أشهر من غضب فلسطيني من موقف واشنطن من الجريمة التي تقول السلطة الفلسطينية إنه منع إجراء تحقيق كامل، بالإضافة إلى عدة تحقيقات مستقلة من جهات دولية منها الأمم المتحدة وصحف غربية مرموقة، خلصت إلى تورط إسرائيل في اغتيالها.
وأجرت منافذ إعلامية غربية شهيرة مثل CNN، وBellingcat ، وكالة أسوشيتدبرس الأمريكية " AP "، وصحيفة Washington Post تحقيقاتها الخاصة بناءً على لقطات فيديو تم تصويرها في مكان الحادث قبل وبعد وأثناء التصوير، كما تم تحليل مقاطع الفيديو الصوتية وحسابات شهود العيان.
وأجرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تحقيقاً استمر شهراً خلص إلى أن الرصاصة التي قتلت شيرين أبو عاقلة قد أطلقت من موقع قريب لقافلة عسكرية إسرائيلية، على الأرجح من قبل جندي من وحدة النخبة الإسرائيلية، مما يؤكد تقارير الشهود من الموقع.
كما قامت المفوضة السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بالتحقيق في الحادث، حيث قالت في يونيو/حزيران، إن المعلومات التي جمعتها كجزء من تحقيقها الخاص "تتفق مع النتيجة التي توصلت إليها عدة تحقيقات أخرى بأن الطلقات التي قتلت أبو عاقلة، جاءت من قوات الأمن الإسرائيلية وليس من إطلاق النار العشوائي من قبل مسلحين فلسطينيين".
وخلصت هذه التقارير إلى أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن جندياً إسرائيلياً أطلق النار على أبو عاقلة، ولكن لم تحدد تقارير الصحافة الغربية ولا الأمم المتحدة الدافع وراء إطلاق النار هذا.
وتم إطلاق النار على أبو عاقلة بينما كانت ترتدي سترة واقية زرقاء عليها علامة "صحافة"، وقال زملاؤها الذين تعرضوا لإطلاق النار في نفس الوقت إنهم اعتقدوا أن الجيش الإسرائيلي كان بالفعل على علم بوجودهم.
وزعم المسؤولون الإسرائيليون في البداية أن أبو عاقلة قُتلت على الأرجح على يد مسلح فلسطيني خلال اشتباكات بين جنود إسرائيليين ومسلحين فلسطينيين، قبل أن يقروا في سبتمبر/أيلول 2022 أن "هناك احتمالاً كبيراً" أن تكون قد قُتلت على يد جندي إسرائيلي، ولكن الجيش الإسرائيلي رفض إجراء تحقيق جنائي.
أبو عاقلة تحولت لأيقونة ورمز لمعاناة الفلسطينيين
كانت أبو عاقلة واحدة من بين أكثر من 120 فلسطينياً قُتلوا حتى نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام خلال غارات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية – معظمهم من النشطاء والمقاومين، ولكن بعضهم من المدنيين.
بالنسبة للفلسطينيين، أصبح اغتيال أبو عاقلة رمزاً للمخاطر اليومية للحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي.
ونادراً ما تجذب الوفيات الفلسطينية الانتباه العالمي، باستثناء فترات العنف الكبرى، ونادراً ما يُسجن الجنود الإسرائيليون المتهمون بارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، حسب وصف صحيفة The New York Times، ولكن أبو عاقلة كانت شخصية معروفة في الشرق الأوسط، كما كانت تحمل الجنسية الأمريكية، ولذا أثار قتلها غضباً شديداً، وفقاً للصحيفة.
فكون أبو عاقلة تجمع بين أنها امرأة وتحمل الجنسية الأمريكية، وصحفية مخضرمة كانت تغطيتها لأحداث الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مدار عشرين عاماً جزءاً من الحياة اليومية لملايين المشاهدين العرب، جعل كل ذلك مقتلها يحدث دوياً فلسطينياً وعربياً ودولياً.
هل تشك أمريكا أن أبو عاقلة قتلت عمداً؟
في يوليو/تموز 2022، قالت وزارة الخارجية الأمريكية إن الطلقات التي أطلقت من موقع جنود إسرائيليين كانت "مسؤولة على الأرجح عن مقتل شيرين أبو عاقلة، لكن الأضرار التي لحقت بالرصاصة (التي أرسلتها السلطة لواشنطن) جعلت من الصعب الوصول إلى نتيجة نهائية بشأن البندقية التي انطلقت منها، مستشهدة بتحقيق أشرف عليه منسق الأمن الأمريكي في القدس، وهو هيئة مشتركة بين الوكالات تعمل مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إضافة لإطلاعها على نتائج التحقيقات الفلسطينية والإسرائيلية.
وقال بيان أمريكي آنذاك: "من خلال تلخيص كلا التحقيقين، خلص مجلس الأمن الأمريكي إلى أن إطلاق النار من مواقع الجيش الإسرائيلي كان على الأرجح مسؤولاً عن مقتل شيرين أبو عاقلة، ولكن المنسق الأمريكي لم يجد سبباً للاعتقاد بأن هذا كان متعمداً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washingtonpost الأمريكية".
أي أنه في ذلك الوقت، خلصت الولايات المتحدة إلى أن أبو عاقلة قُتلت على الأرجح بشكل عشوائي وليس متعمداً، لكن الإعلان الذي يوم الإثنين بفتح تحيقي أمريكي أشار إلى أن بعض المسؤولين الأمريكيين على الأقل توصلوا إلى نتيجة مختلفة، حسب الصحيفة الأمريكية.
ويقول موقع Lawfare blog الأمريكي المعني بقضايا الأمن القومي والقانون يبدو أن الدافع الرئيسي وراء دعوة الولايات المتحدة السابقة لإسرائيل لإجراء مزيد من التحقيق في الأمر (قبل إعلانها الأخير بفتح تحقيقها الخاص) هو وجهة نظرها بأن الجندي الذي أطلق النار على شيرين إما انتهك قواعد الاشتباك أو تصرف بتهور، وبالتالي يجب التحقيق معه ومقاضاته، أو أن الجندي تصرف وفقاً لقواعد الاشتباك الإسرائيلية التي هي بحاجة للتغيير، حيث سبق أن دعا وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في أغسطس/آب الماضي لمراجعة هذه القواعد.
وقد يؤدي رفض إسرائيل التعاون في التحقيق إلى تعقيد العلاقات مع واشنطن ويعزز الاعتقاد بأن التستر الإسرائيلي على مقتل أبو عاقلة.
أسرة أبو عاقلة مارست ضغوطاً كبيرة لفتح تحقيق ودعمها أعضاء بالكونغرس
في الأشهر الأخيرة، قادت عائلة أبو عاقلة حملة قوية تدعو لمساءلة قتلة أبو عاقلة، حيث اجتمعت مع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن وبابا الفاتيكان فرانسيس.
واتهمت أسرة أبو عاقلة إدارة بايدن بـ"التماهي مع إسرائيل ومحاولة طمس أي مخالفات ترتكب من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي"، كما تلقت الأسرة دعماً من قبل عشرات من أعضاء الكونغرس الأمريكي.
واستمع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إلى شهادة علنية بشأن مقتل أبو عاقلة بينما قالت لينا أبو عاقلة، التي قادت حملة عائلتها، الأسبوع الماضي: "الافتقار إلى المساءلة وانعدام العدالة هو ما دفعني إلى الدفاع عن عمتي شيرين".
وأشادت عائلة أبو عاقلة بقرار فتح تحقيق أمريكي بشأن مقتل شيرين أبو عاقلة، وقال بيان: "هذه خطوة مهمة" وأعربت عن أملها في "تحقيق مستقل وموثوق وشامل بحق". وأشار البيان إلى أن الأسرة كانت تطلب تحقيقاً أمريكياً "منذ البداية".
وأضافت: "هذا ما يجب على الولايات المتحدة فعله عندما يُقتل مواطن أمريكي في الخارج، خاصة عندما يُقتل، مثل شيرين، على يد جيش أجنبي".
كما رحب السيناتور الأمريكي كريس فان هولين بالتحقيق، وهو الذي سبق أن انتقد بشدة فشل إسرائيل في تقديم تفسير مناسب لما حدث. وكتب على تويتر: "هذه خطوة متأخرة لكنها ضرورية ومهمة في السعي لتحقيق العدالة والمساءلة في مقتل الصحفية والمواطنة الأمريكي شيرين أبو عاقلة بالرصاص"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وجاء في رسالته: "بصفتها أمريكية، كان من حق السيدة أبو عاقلة التمتع بالحماية الكاملة الممنوحة للمواطنين الأمريكيين الذين يعيشون في الخارج".
أعضاء بالكونغرس كانوا غاضبين من نتائج تحقيق الجيش الإسرائيلي
في مايو/أيار 2022، كتب 57 مشرعاً أمريكياً رسالة إلى مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر وراي ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، تدعو إلى إجراء تحقيق في وفاة أبو عاقلة، باعتبارها مواطنة أمريكية.
ويبدو أن نتائج التحقيق الذي أجراه الجيش الإسرائيلي وظهرت نتائجه في سبتمبر/أيلول الماضي زادت الطين بلة.
في حين أن الجيش الإسرائيلي لم يستبعد احتمال أن يكون جندي إسرائيلي قد أطلق النار على أبو عاقلة، إلا أنه أشار إلى أن السيناريو الأكثر احتمالاً هو أن نيراناً فلسطينية تسببت في مقتلها، وذلك في الاستنتاجات النهائية لتحقيقه، التي نشرت في 5 سبتمبر/أيلول.
خلص الفريق الإسرائيلي إلى أنه حتى لو أطلق جندي إسرائيلي النار على أبو عاقلة، فذلك لأنه اعتبرها هدفاً (دون إشارة لإجراء تحقيق مع هذا الجندي أو تحديد هويته)، وبالتالي لا ينبغي فتح تحقيق جنائي، حسبما قرر المدعي العام للجيش الإسرائيلي.
ولم يحاول التحقيق تقديم أدلة بشأن التثبت من أن القتل كان عشوائياً أم عمدياً.
وأثار تقرير الجيش الإسرائيلي في سبتمبر/أيلول انتقادات سياسية كبيرة في الولايات المتحدة، ورفض بعض المشرعين الأمريكيين الكبار رفضوا نتائج التحقيق الإسرائيلي وطالبوا إدارة بايدن باتخاذ خطواتها الخاصة، وتعيين لجنة أمريكية مستقلة للتحقيق.
فحتى بالنسبة للمصادر الأمريكية المحابية لإسرائيل فإنهم يشككون في مصداقية التحقيق الإسرائيلي.
ويبدو ادعاء الجيش الإسرائيلي بأن جندياً إسرائيلياً ظن بالخطأ أن شيرين أبو عاقلة مسلح فلسطيني، واهياً للغاية، لأن التقارير الاستقصائية من قبل وسائل الإعلام تظهر بوضوح أن أبو عاقلة كان ترتدي خوذة وسترة مميزة تحمل علامة PRESS.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الجنود الإسرائيليين تعرضوا بالفعل لإطلاق النار من قبل مسلحين فلسطينيين، فقد وجدت نفس التقارير الصحفية أن الرصاص لم يتم إطلاقه قرب المكان الذي تمركز فيه الصحفيون، بمن فيهم شيرين أبو عاقلة.
ودعا بعض المشرعين إلى "محاسبة" الجندي المسؤول عن مقتل أبو عاقلة، إضافة لمطالبة مسؤولين أمريكيين آخرهم نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية فيدانت باتيل بمراجعة "سياسات وممارسات الجيش الإسرائيلي المتعلقة بقواعد الاشتباك".
هل هي رسالة لنتنياهو وحلفائه المتطرفين أم مجرد خطوة رمزية؟
جذبت وفاة أبو عقلة اهتماماً إعلامياً كبيراً على مستوى العالم. لم تكن أبو عاقلة صحفية معروفة فحسب، بل كانت أيضاً مواطنة أمريكية، إلى جانب أن الحادث وقع في عهد إدارة أمريكية حريصة على إثبات أنها تروج لنهج متوازن في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حسب موقع lawfare blog.
كما أن نتائج التحقيق الإسرائيلي أغضبت الأمريكيين على ما يبدو.
ولكن قد يكون هناك عامل إضافي، وراء قرار فتح تحقيق أمريكي في مقتل شيرين أبو عاقلة، مرتبطاً بفوز اليمين الإسرائيلي المتطرف في الانتخابات الأخيرة، واحتمال مشاركته بقوة في الحكومة المنتظرة بقيادة بنيامين نتنياهو.
فقد يكون الهدف إرسال رسالة لهذه الحكومة، بأن عليها التخفيف من غلواء تطرفها وأن عهد الحصانة المطلقة التي تتمتع بها إسرائيل قد ولى ولو جزئياً، أو على الأقل تسعى إدارة بايدن للإيحاء بذلك حتى لو لم تفعل واقعياً.
وعلى الرغم من أن القادة الأمريكيين والإسرائيليين قد تبادلوا تصريحات قوية بشأن أبو عاقلة في الماضي، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين يعتقدون أن فتح تحقيق أمريكي في مقتل شيرين أبو عاقلة هو مجرد إجراء رمزي، حسبما قالت مصادر إسرائيلية لصحيفة Haaretz الإسرائيلية، حيث زعموا أنه من غير المرجح أن يمضي التحقيق دون موافقة من وزارة الخارجية الأمريكية وموافقة الحكومة الإسرائيلية.