قد يشكل الانسحاب الروسي من خيرسون، نجاحاً تكتيكياً لموسكو رغم الإهانة التي ألحقها بالجيش الروسي، وفي الوقت ذاته قد يسبب هذا الانسحاب مأزقاً لأوكرانيا، وسط تساؤلات هل تكون معركة خيرسون بداية لحل دبلوماسي للأزمة أم تفتح الباب لتصعيد أكثر خطورة؟
وبدأ مسؤولون أمريكيون بارزون في حثِّ كييف على التفكير في إجراء محادثات سلام مع روسيا لاستباق التراجع المتوقع في الشتاء لوتيرة تقدم القوات الأوكرانية، خاصة أن كييف قد استعادت السيطرة على خيرسون وتمكنت من الظفر بأحد أكبر انتصاراتها في الحرب حتى الآن، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
لماذا تحثّ أمريكا أوكرانيا على التفاوض بعد معركة خيرسون؟
يأتي حديث واشنطن عن اغتنام الفرصة لإحداث انعطاف محتمل في مسار الحرب متأثراً بعدة عوامل: منها اقتراب فصل الشتاء، وتفاقم المخاوف من التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وإمداد أوكرانيا بالفعل بأسلحة ومعدات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، فضلاً عما شهدته الحرب حتى الآن من عشرات آلاف الضحايا في كلا الجانبين.
وتعهدت الولايات المتحدة وحلفاؤها بمواصلة المساندة العسكرية لأوكرانيا، إلا أن مسؤولين بارزين في واشنطن بدأوا في التساؤل علناً عن مقدار الأراضي التي يمكن لأي من الجانبين السيطرة عليها، وما تكلفة ذلك. وفي الوقت نفسه، يبدو أن بعض المسؤولين الأوروبيين أكثر تفاؤلاً من غيرهم بشأن قدرة أوكرانيا على تعزيز موقفها.
هكذا يوفر هذا الانسحاب المهين ميزات عسكرية للروس
ورغم أن انسحاب الروسي من خيرسون المدينة الرئيسية الوحيدة التي سيطرت عليها موسكو منذ بداية الحرب في فبراير/شباط 2022، يمثل نكسة سياسية للروس، خاصة بعد ضمهم للإقليم لأراضيهم، إلا أنه يحسن موقفهم العسكري، لأن وجود قواتهم في خيرسون كان يمثل مشكلة لوجستية وعسكرية، لأن نهر دنييبر الضخم كان يفصل القوات الروسية بالمدينة عن المناطق الرئيسية التي تسيطر عليها موسكو في أوكرانيا، الأمر الذي كان يعرقل نقل الإمدادات لهذه القوات، خاصة في ضوء تدمير كييف لعدد كبير من الجسور الرئيسية على النهر أو إخراجها من الخدمة، الأمر الذي جعل دفاع الروس عن المدينة صعباً.
ولكن الآن أصبح نهر دنييبر هو بمثابة خط دفاع الروس الرئيسي بعد انسحابهم لضفته الشرقية، ما يصعب على الأوكرانيين التقدم لتحرير مزيد من أراضيهم في جنوب شرق البلاد.
حلفاء أوكرانيا يرون أنه أصبح صعباً عليها تحقيق اختراقات كبيرة
ويرى بعض حلفاء الولايات المتحدة في الناتو أن أوكرانيا يصعب عليها تحقيق اختراقات كبيرة في وقت قريب، لأنها تهاجم مناطق أكثر تمدناً وأشد قرباً من روسيا، فضلاً عن أن القوات الروسية بقيت في هذه المناطق مدة طويلة، وتمكنت من تحصين الدفاعات فيها.
إلا أن بعض المسؤولين يثقون بقدرة أوكرانيا، ويرون أن الأفضل ألا يتوقف القتال بعد معركة خيرسون، لا سيما بعد أن عززت أوكرانيا ترسانتها من أنظمة الدفاع الجوي.
ويقول جون إراث، كبير مديري السياسات في "مركز الحد من التسلح وعدم الانتشار" الأمريكي، إنه بعد إعلان الرئيس فلاديمير بوتين، في سبتمبر/أيلول الماضي أن خيرسون هي مدينة "روسية إلى الأبد"، أظهر الانسحاب الروسي من خيرسون ضعف إمكانات موسكو وسعيها لتجنب مزيد من الخسائر.
إذ تمثل الخسارة في معركة خيرسون، بحسب إراث، "أسوأ هزيمة" عسكرية لروسيا منذ حرب أفغانستان، كما أنها شكل من أشكال "الإذلال العسكري" للقوات الروسية. ومن الواضح الآن أن مساعيها لتجنيد 300.000 من جنود الاحتياط لم يفعل شيئاً يُذكر لتغيير ساحة المعركة لكفة موسكو، بخلاف إهدار الأرواح دون داعٍ
ولكن كييف قد تطمح لنقل الحرب للقرم
ويمكن أن تؤدي سيطرة الأوكرانيين على مدينة خيرسون والجزء الغربي من المقاطعة التي تحمل الاسم ذاته لتشجيع كييف على المخاطرة بالتقدم نحو القرم، أو على الأقل قصف شبه الجزيرة التي ضمتها موسكو عام 2014.
وقد يعني ذلك تصعيداً لا يرغبه رعاة كييف الغربيين بما فيهم الأمريكيون؛ لأن القرم مسألة حساسة بالنسبة للروس، ويعتبرها حتى المعارضون لبوتين جزءاً من روسيا، وبالتالي الدفاع عن القرم له شعبية مقارنة بالمقاطعات الأربع التي ضمتها موسكو مؤخراً.
الجيش الأمريكي يرى أن النصر الكامل لا يلوح لأي من الطرفين
في حديث ألقاه الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، خلال فعالية أقامتها منظمة "النادي الاقتصادي بنيويورك "يوم الأربعاء 9 نوفمبر/تشرين الثاني، قال: "يجب أن يقر الجانبان بأن النصر العسكري، بالمعنى الحقيقي للكلمة، أمر لا يمكن تحقيقه بالوسائل العسكرية، لذلك يتعين علينا اللجوء إلى وسائل أخرى. وهناك فرصة هنا، أو بالأحرى مقدمات فرصة، للتفاوض".
ولما كان من المستبعد أن تحقق أوكرانيا مكاسب كبيرة في ساحة المعركة خلال الأسابيع المقبلة، فإن بعض الولايات المتحدة وبعض المسؤولين الأوروبيين بدأوا بالحديث عن احتمال ظهور ضغوط عامة تُطالب بالتوصل إلى تسوية بين الجانبين.
وقال مسؤول من أوروبا الغربية: "نقول للأوكرانيين إن إقرار الموعد المناسب لإجراء محادثات في أيديهم، لكن يستحسن لو فعلوا ذلك في وقت قريب".
أما المسؤولون الأمريكيون فلا يرون أن الوقت الحالي هو الوقت المناسب لإجراء محادثات، لكن كثيراً منهم يذهب إلى أن الأسابيع والأشهر القادمة توفر فرصة للحديث بشأن إجراء مفاوضات.
هناك خوف من تراجع قدرة الغرب على إمداد كييف بالذخائر
يُتزامن ذلك مع مخاوف من الولايات المتحدة وبعض حلفائها بشأن نقص مخزونات الناتو من الأسلحة، لا سيما بعض أنواع الذخيرة التي تتعرض للاستنزاف بوتيرة لا يمكن تحملها. ويشير بعض المسؤولين إلى أن المساندة العسكرية الأمريكية لأوكرانيا هذا العام تقترب قيمتها الآن من 19 مليار دولار، وقد تجاوزت المساعدات الأوروبية بكثير.
في اليوم نفسه الذي تحدث فيه الجنرال ميلي عن فرصة لإجراء محادثات، أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أن الأمور قد تكون مهيأة لإجراء محادثات عما قريب، وقال: "ننتظر لنرى قرار أوكرانيا بشأن ما إذا كانت مستعدة للتسوية مع روسيا أم لا. سيلعق كل جانب جراحه، ويقرر… ما الذي ينوي فعله خلال الشتاء، وهل هو مستعد للتنازل أم لا".
واشنطن تدعو كييف لوضع شروط منطقية، فهل تنصاع لها؟
واقترحت واشنطن على أوكرانيا بأن تُظهر على الأقل انفتاحها على حل تفاوضي لإرضاء بعض الحلفاء الغربيين من ثقل الدعم المقدم لكييف وتداعيات الحرب على اقتصادات الغرب وأوروبا تحديداً. وقالت مصادر مطلعة إن جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، نقل تلك الرسالة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ومساعديه في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، وقال لهم إن كييف ستكون لها أفضلية إذا أظهرت انفتاحها على إجراء مفاوضات خاصة بعد نجاحها في معركة خيرسون.
وقال دبلوماسيان أوروبيان اطلعا على المناقشات إن سوليفان أوصى فريق زيلينسكي بالبدء في وضع مطالب واقعية وتحديد أولوياتهم في المفاوضات، وإعادة النظر فيما أعلنته أوكرانيا سابقاً من أن غايتها هي استعادة شبه جزيرة القرم، أي كامل الأراضي التي ضمتها روسيا إليها منذ عام 2014.
ويواصل مسؤولو الإدارة الأمريكية، ومنهم سوليفان، التصريح علناً بأن واشنطن لن تضغط على كييف لاتخاذ المسار الدبلوماسي، وهو أمر مربك لحلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن مسؤولين أوروبيين قالا إن مسؤولين بوزارة الخارجية الأمريكية طمأنوا الشركاء الأوروبيين الأسبوع الماضي بأن الأمور ستشهد تحولاً في نهج التعامل مع الأزمة.
أمريكا تريد إبقاء بعض العقوبات على موسكو
وقال سوليفان، يوم الخميس 10 نوفمبر/تشرين الثاني: "إن مهمتنا هي تعزيز موقف الأوكرانيين في ساحة المعركة ليكونوا في أفضل وضع ممكن على طاولة المفاوضات حين تُتاح فرصة اللجوء إلى الدبلوماسية. غير أنه استدرك قائلاً: "لكن الولايات المتحدة لا تضغط على أوكرانيا، ولا تلح عليها لقبول أمور معينة".
في غضون ذلك، قالت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، في لقاء أجرته بإندونيسيا، أثناء حضور قمة مجموعة العشرين، إن بعض العقوبات المفروضة على روسيا قد تبقى سارية حتى بعد توقيع اتفاق سلام نهائي مع أوكرانيا، ما يشي بأن الولايات المتحدة ستسعى لفرض ضغوط طويلة الأمد على الاقتصاد الروسي.
ولكن أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية والشمالية تتطلع لهزيمة كاملة لروسيا
من جانب آخر، استدل زيلينسكي وكبار مساعديه بالانتصارات الأوكرانية الأخيرة ولاسيما معركة خيرسون للتحذير علناً من أن المضي إلى محادثات سلام مع الرئيس الروسي الآن ربما يتطور إلى تنازل لا مبرر له. وقال بعض الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة إن كييف ليس لديها سبب وجيه للاستجابة لمطالب بوتين ما دامت القوات الأوكرانية تتقدم في ساحة المعركة.
ويرى مسؤولون أوروبيون (لاسيما من دول أوروبا الشرقية والشمالية) أن أوكرانيا يمكن أن تستعيد أراضي أخرى إذا استمرت إمدادات الأسلحة الغربية في التدفق إليها، وهو أمر يعزز موقفها في المفاوضات النهائية. وجاء تعهد واشنطن بتقديم 400 مليون دولار أخرى من المساعدات الأمنية لأوكرانيا ليزيد من ثقة الأوروبيين باستمرار مساندة الولايات المتحدة للجيش الأوكراني.
وقال أرتيس بابريكس، وزير دفاع لاتفيا: "يجب على الغرب أن يتجنب أي ضغط على أوكرانيا للقبول بأمر معين؛ لأننا نعلم أن هذه الحرب كانت روسيا مَنْ بدأتها، ويمكن لهذه الحرب أن تنتهي في دقيقة واحدة إذا قررت موسكو إيقافها".
وأشار مسؤولون في بعض الدول الأوروبية، معظمهم من دول أوروبا الشرقية والشمالية، إلى أن الضغط علناً لإجراء محادثات قد يضعف مساعي التقدم الأوكرانية، ويساعد روسيا في تقسيم التحالف الغربي الداعم لكييف.
ويبدو أن بوتين تنازل عن بعض شروطه
في المقابل، قال بوتين إن روسيا منفتحة على محادثات السلام، وزعم أنه إذا أمرت واشنطن الرئيسَ الأوكراني بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، فإنه سيفعل ذلك. ويرى مسؤولون غربيون أن الانتكاسات الأخيرة في ساحات القتال لاسيما معركة خيرسون، حملت الكرملين على التراجع علناً عن بعض شروطه المسبقة للمحادثات، مثل قبول ضم روسيا للأراضي الأوكرانية. مع ذلك، قال مسؤولون أوروبيون وأمريكيون إنهم لا يرون إشارات يعتد بها على اهتمام الكرملين بإجراء محادثات جادة مع أوكرانيا.
في هذا السياق، قال مشاركون في اجتماع أجراه وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الكبرى في وقت سابق من هذا الشهر، إن الوزراء اتفقوا على ترك الأمر لأوكرانيا كي تقرر متى تكون الظروف العسكرية والسياسية مناسبة للسعي إلى وقف إطلاق النار ومواصلة المفاوضات.
وقال الوزراء في بيان بعد ذلك إن الدعوات التي أصدرها الكرملين لإجراء محادثات سلام ليست جديرة بالثقة بها؛ لأن بوتين واصل تصعيد الحرب بعدها.