تجعل المعالم الأثرية التي لا تقدّر بثمن من مصر وجهة للسائحين من شتى بقاع الأرض، وتعتبر كنزاً ثميناً، لكن يبدو أن التغير المناخي، الذي يهدد مستقبل البشرية، يعصف أيضاً بماضيها.
وتناول تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية عنوانه "تداعيات مدمّرة للتغير المناخي على المعالم الأثرية الثمينة في مصر"، تفاصيل ما تتعرض له الآثار المصرية من خطر داهم يهدد بتدميرها، والأسباب المتعددة لذلك الخطر.
فحين عثر عالم الآثار البريطاني، هوارد كارتر، على مقبرة توت عنخ آمون في وادي الملوك بمصر منذ نحو 100 عام، كان يعيش في منزل مبني من الطوب اللبن، محاط بصحراء شديدة الجفاف، وكان ذلك الجفاف أحد الأسباب التي صانت تلك المقابر والمومياوات والمعابد الشاهقة من الضرر والتدمير لأكثر من 3 آلاف عام.
تحوَّل منزل كارتر بعد ذلك إلى متحف تحيط به حديقة خضراء، تستمد ماءها من نهر النيل. وهدأت حدة الفيضانات السنوية لنهر النيل بعد بناء السد العالي بأسوان عام 1970، فأتاح ذلك تحويل الزراعة بالبلاد من موسمية إلى دائمة. وزاد اعتماد الفلاحين على مياه النيل لغمر الحقول المزروعة بالبرسيم وقصب السكر والخضراوات، التي لطالما كانت غذاء لسكان البلاد المتزايد عددهم كل عام.
عوامل بشرية تهدد الآثار المصرية
إلا أن هذه المياه أخذت تتسرب إلى الأساسات الحجرية للمعابد الهائلة في الأقصر ومنزل كارتر وغيره من البيوت المبنية بالطوب اللبن، واختلطت بالملح الداخل في تكوين التربة والحجارة التي امتصت المياه إلى أعلى كأنها قصبة مص، فتبدَّد الحجر الرملي إلى رمل، وتصدَّع الحجر الجيري، وطالت آثار الانهيار أقدم المعالم والأقرب عهداً منها.
استؤنف افتتاح منزل هوارد كارتر، المعروف باسم "بيت كارتر"، الأسبوع الماضي، بعد إحاطته بمنطقة عازلة خالية من المياه ونباتات الحديقة المتعطشة لها، وقد خضع لعملية ترميم استغرقت عامين لتثبيت أساسات هيكله وتزويده من الداخل بأثاث وأعمال فنية من حقبة كارتر.
على الرغم من أن معابد الكرنك ومدينة هابو الأثرية الشهيرة محمية الآن بمضخات مياه عملاقة، تمتص المياه الجوفية وتصرفها بعيداً عن المعالم، فإن المخاطر لم تنقطع، فقد أشار سكان المنطقة وعلماء آثار إلى تزايد وتيرة العواصف المطيرة بفعل التغير المناخي، وما أعقبه ذلك من تآكل حجارة الآثار وذهاب الألوان القديمة للمنحوتات، حتى إن بعض حجارة المعبد قد تشققت إلى نصفين، وأتت الرطوبة على بعضها، فصارت أشبه بكتل الرمال المسحوقة، فضلاً عن تلك التي نالت الرطوبة منها بالكامل.
قال عبده غابة، الذي نشأ في قرية القرنة الجديدة، الواقعة على الضفة الغربية للنيل مقابل الأقصر، "حتى لو لم يكن الناس هنا قد ذهبوا إلى مدارس [لم يتلقوا تعليماً نظامياً]، فإنهم يدركون بفطرتهم أنك إذا أسأت معاملة الأرض، فإنها تعود للرد على السوء الذي فُعل بها".
استذكر عبده غابة أول عاصفة مطيرة شهدها في حياته بمدينة الأقصر، فيروي أنها كانت في مطلع التسعينيات، وأن كبار أهل القرية كانوا مقتنعين بأن السماء تبكي من ملوثات المصانع القريبة، وتنتقم من البشر الذين آذوها.
يعمل غابة الآن في مؤسسة معنية بتوثيق المقابر القديمة في وادي الملوك وتسجيل تفاصيلها الدقيقة باستخدام ماسحات ضوئية متطورة ثلاثية الأبعاد. وقال: "أريد الحفاظ على القبور والمعابد وحمايتها من الزوال، علينا أن نحميها لتبقى في المستقبل".
التغير المناخي.. المتهم الأبرز
من جهة أخرى، بدأت في مصر الأسبوع الماضي فعاليات مؤتمر المناخ السنوي للأمم المتحدة، واستدعى ذلك تسليط الضوء على أزمة التغير المناخي وتداعياتها شديدة الوطأة على مصر.
تشتد الحرارة في مصر بمعدل أسرع مرتين تقريباً من بقية العالم، وتنقص مياه نهر النيل عاماً بعد آخر، وقد أضرَّ ارتفاع مياه البحر بالكثير من المحاصيل الزراعية في منطقة الدلتا، علاوة على أن مدينة الإسكندرية، الواقعة على ساحل البحر المتوسط معرضة للغرق لارتفاع منسوب مياه البحر.
وفي غضون ذلك، فإن التأثيرات الهائلة للاحتباس الحراري على الآثار المصرية الشهيرة بدأت في الظهور بالفعل، فقد اجتمعت آثار التغير المناخي في الأقصر مع عوامل النشاط البشري الممتدة على مدى قرون؛ لتؤدي إلى تداعيات مدمرة على المناطق الأثرية. وقد حذَّر عالم المصريات ووزير الآثار السابق، زاهي حواس، من أن المقابر في وادي الملوك "ستختفي تماماً" في غضون قرن، إذا لم تُحمى من السياحة الجماعية وإهلاك النشاط البشري للمنطقة.
يقول علماء الآثار إن الخراب لحق ببعض المعالم الأثرية، حتى بدت آثاره ظاهرة للعيان، وأشاروا إلى أن معالم أخرى، مثل قلعة قايتباي في الإسكندرية، معرضة للغرق الكامل بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر.
أما في مدينة أسوان جنوبي البلاد، فإن درجة الحرارة تتجاوز 38 درجة مئوية معظم أوقات السنة، وزاد على ذلك التغير المناخي، فتفاقم إنهاك الآثار الجرانيتية القديمة، إذ يتمدد الجرانيت تحت أشعة الشمس الحارقة، وينكمش في هواء الليل، فتنمحي نقوشه خلال ذلك، ويتشقق في النهاية.
بقيت الآثار المصرية محفوظة أمداً طويلاً لجفاف هواء البلاد وانخفاض الكثافة السكانية، إلا أن وتيرة التدهور البطيئة تسارعت في عهد محمد علي باشا، فقد زادت الحداثة من معدلات السكان وضاعفت مساحة الأراضي المزروعة، وتضمن ذلك زيادة الاعتماد على المياه وتزايد النشاط الصناعي في الأقصر وفي مصر عموماً.
ظنَّت السلطات المصرية وعلماء الآثار الأجانب أنهم يحسنون صنعاً حين أزالوا الأنقاض التي تراكمت على مدى قرون بمعابد الكرنك في أثناء عمليات الترميم التي جرت في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن الكشف عن مزيد من التماثيل العظيمة وقواعد الأعمدة الشاهقة زاد من إقبال السياح على المنطقة وأمعن في إنهاكها.
ورغم أن السد العالي أوقف فيضانات النيل السنوية، فإن عمليات الحفر أدت إلى زيادة تسرب مياه الفيضانات الغنية بالملح والمعادن إلى مجمع المعبد كل عام، فزاد تآكل حجارته. ولم تخف حدة الأضرار إلا بعد تركيب مضخات صرف المياه في عام 2006.
أما في منطقة أهرام الجيزة، فقد تسببت أنظمة الري والصرف الزراعي القريبة في ارتفاع كميات المياه الجوفية هناك أيضاً، ومن ثم أشار خبراء إلى أن المنطقة تحتاج إلى مضخات لسحب المياه وإنقاذ أبو الهول من المياه الجوفية التي أخذت تتراكم بالقرب من قاعدته.
يرى لوك جابولد، مدير المركز الفرنسي المصري لدراسات معبد الكرنك، إن "معابد الكرنك في خطر، لأنها شديدة القدم"، والمطر الغزير، على ندرته، تهديد متزايد الخطورة.
كيف يمكن إنقاذ الآثار المصرية؟
يعمل الفريق البحثي الذي يقوده جابولد، على ترميم بقايا المنحوتات المتضررة وإعادة تجميعها، في هياكل من الجير والرمل، وصيانة جوانبها الأربعة من تسرب مياه المطر، ومحاولة تقديمها للزوار في حالتها الأصلية. ومع ذلك، فإنها تبقى معرضة للرطوبة من الجانبين، فضلاً عن قيود التمويل وضيق الوقت، والمخاوف من انهيار أجزاء أخرى من المعبد.
في مدينة هابو، عمل فريق من علماء الآثار الأمريكيين وعمال الحجارة المصريين على التصدي للأضرار الناجمة عن تسرب المياه منذ تسعينيات القرن الماضي.
قال بريت ماكلين، كبير باحثي علم النقائش بمركز "المعهد الشرقي" التابع لجامعة شيكاغو الأمريكية، إن "الماء والملح أشد أعداء هذه الآثار. بقيت هذه الآثار حتى الآن، لأنها كانت محمية بالجفاف".
تم تركيب مضخات بتمويل أمريكي في عام 2009 تحت المنطقة الممتدة من مدينة هابو إلى المعبد الجنائزي لسيتي الأول (معبد أبيدوس)؛ للحيلولة دون تسرب مزيد من المياه الجوفية إلى الأساسات. ومع ذلك، يقول علماء الآثار إن المنطقة تحتاج إلى عقود من العمل للحد من آثار الأضرار التي وقعت بهيكل المنطقة قبل عام 2009. علاوة على أن الأمطار الغزيرة تهطل على المنطقة من حين لآخر، منها مرتان هذا العام حتى الآن، وهي مصدر رطوبة لا تستطيع المضخات امتصاصها.
تسبب الناس عن غير قصد، في تغيير ملحوظ آخر بالمنطقة في السنوات الأخيرة، فقد انتشر الحمام في جميع أنحاء مدينة هابو، وتلطخت جدران المعابد بفضلاته الحمضية، التي تلحق الضرر بالأحجار. وحدث ذلك بعد أن أجبرت الحكومة المصرية أهالي قرية قريبة على الخروج منها؛ أملاً في تعزيز حماية الآثار، إلا أن حمام القرية بقي بالمنطقة، وانتقل إلى المعبد.
ومع ذلك، تظل السياحة الوافدة بأعداد كبيرة هي مصدر التأثير البشري الأوضح على آثار الأقصر، فمقبرة توت عنخ آمون، على سبيل المثال، كان يرتادها آلاف السياح يومياً قبل جائحة كورونا عام 2020.
سعت الحكومة إلى قدر من التوازن بين الحفاظ على السياحة وصيانة الآثار من أضرار النشاط البشري، فاستعانت بـ"معهد غيتي لحفظ التراث" الأمريكي؛ لتركيب نظام تهوية لتخفيف الرطوبة الناتجة عن العرق والتنفس، وإجراء إصلاحات أخرى. وافتُتح المشروع في عام 2019.
أشرفت "مؤسسة فاكتوم"، التي تتخذ من مدريد الإسبانية مقراً لها، على مشروع ينتهج سبيلاً آخر للحفاظ على الآثار، فأنشأت نسخة طبق الأصل من مقبرة توت عنخ آمون، بحيث يمكن للسائحين زيارتها وتقليل الضغط على المقبرة الأصلية. وافتتحت المقبرة المستنسخة لزوار "بيت كارتر" منذ عام 2014، وتأمل المؤسسة استنساخ مزيد من المقابر الأثرية.
لخصت علياء إسماعيل، مديرة المشروع، رؤيتها للغاية من عمل المؤسسة بالقول: "نحن نحاول توثيق العجائب لكيلا تضيع إلى الأبد إذا أصابت العالم كارثة ما".