يبدو أن الشعور بالانتصار الداخلي لفريق رئيس الجمهورية عقب توقيع ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل لم يستمر طويلاً، بعدما وجه النظام السوري أول "صفعة" للبنان عقب الاتفاق بين لبنان وإسرائيل، على حد وصف محللين ومتابعين.
وكان رئيس الجمهورية ميشال عون أعلن في خطاب، ألقاه يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول، عن إبرام ناجح لاتفاقية حدودية بحرية مع إسرائيل بعد مفاوضات استمرت سنوات، مشيراً إلى أن الخطوة التالية هي التفاوض على الحدود البحرية مع سوريا.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن عون كان يريد من هذا الإعلان تحقيق إنجاز جديد قبيل مغادرته القصر الرئاسي. وبالفعل، جرى اتصال بين رئيس النظام السوري بشار الأسد وعون، واتفقا على السير بالترسيم البحري بين الجانبين.
وعليه جرى تعيين نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب على رأس وفد يتألف من وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، ووزير الأشغال العامة علي حامية، والمدير العام للأمن العام عباس إبراهيم، بهدف إجراء محادثات مع دمشق.
كان من المفترض أن يتوجه هذا الوفد إلى العاصمة السورية الأسبوع الماضي، لكن النظام السوري كان له وجهة نظر مختلفة، بعدما أعلن النظام عن إلغاء هذه الزيارة.
غضب سوري من بيروت
وبحسب مصدر لبناني قريب من نظام الأسد؛ فإن دمشق عبر سفارتها في بيروت أرسلت إلى الخارجية اللبنانية رسالة مفادها أنه ليس هذا هو "الوقت المناسب"، وأن المشكلة الأساسية هي أنه لم يقم أي عضو من الوفد اللبناني بالاتصال بالسلطات السورية لتنظيم هذه الزيارة، وأن لبنان اختار تحديد موعد دون تنسيق، وتم كل شيء على عجل، قبل أيام قليلة من نهاية ولاية عون التي دامت 6 سنوات.
ويؤكد المصدر أن هناك انزعاجاً سورياً من لبنان الذي لم يتخذ أية خطوات لتطبيع العلاقات مع دمشق طوال الأعوام الماضية، ولم يتصل أي رئيس حكومة لبناني بالمسؤولين السوريين، بمن فيهم نظيره السوري.
وكذلك لم يتم حتى الآن تعيين سفير لبنان الجديد في سوريا رغم انتهاء ولاية السفير سعد زخيا قبل عام.
وعليه -بحسب المصدر اللبناني المقرب من دمشق- فإن القيادة السورية تود معرفة المُستوى الدّبلوماسيّ للسّفير اللبنانيّ الجديد في دمشق، إذ عيّنت سوريا أخيراً أيمن سوسان، الدّبلوماسي العريق، الذي عمل لسنوات مستشاراً لوزير الخارجية الأسبق وليد المعلم، سفيراً لدى لبنان خلفاً لعلي عبد الكريم علي، وهي ستعتبر أيّ تمثيل لبنانيّ لا يتساوى مع مستوى سوسان الدّبلوماسي استخفافاً دبلوماسياً بها.
وتشير المعلومات إلى أن الأزمة ازدادت حينما طلب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل زيارة دمشق ولقاءه الأسد ومسؤولين سوريين، شريطة عدم الإعلان عنها. الأمر الذي أغضب السوريين وأدى إلى إلغاء الزيارة بشكل نهائي.
بالمقابل، فإن النظام السوري -وفق المصدر- يريد إجماعاً لبنانياً على استئناف المفاوضات والبدء بمناقشات جدية لترسيم الحدود مع سوريا، وليس قراراً من جانب واحد من رئيس انتهت ولايته.
سوريا تعود للمشهد اللبناني
بالمقابل يشير مصدر حكومي لـ"عربي بوست" إلى أن كل هذه الاعتبارات يمكن ربطها بمحاولة سورية للعودة إلى المشهد اللبناني.
ما تفضله دمشق هو أن يتم هذا التنسيق مع رئيس جديد على علاقة جيدة بنظام، وبالتالي، لا يكفي تحالف عون الاستراتيجي مع حزب الله لإعطائه "إنجازاً" كهذا في السياسة، فصحيح أن حزب الله مؤثر إلى حد كبير بالمشهد السوري، لكن للنظام حساباته الخاصة في لبنان.
فيما حزب الله -بحسب المصدر- لا يريد مساعدة ميشال عون وجبران باسيل في هذا الأمر لأسباب داخلية، أبرزها أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يرفض حتى الآن دعم ترشيح سليمان فرنجية، مرشح حزب الله والنظام السوري المفضل للرئاسة، ناهيك عن رفضه تسهيل عملية تشكيل حكومة نجيب ميقاتي.
موسكو مقابل واشنطن
بالمقابل، يشير المحلل السياسي إبراهيم ريحان إلى أن روسيا تُهيمن على الجانب السّوري المُتاخم للمنطقة المُتنازع عليها بين لبنان وسوريا في البحر، والتي تبلغ 1000 كيلومتر مربع.
ولا تجد موسكو أو دمشق أيّ جدوى سياسيّة أو اقتصاديّة لترسيم الحدود مع لبنان؛ إذ يتيح الترسيم للبنان بدء العمل في البلوكين 1 و2، بينما لن تستطيع موسكو ودمشق القيام بأيّ عملٍ بسبب العقوبات الغربيّة على روسيا والشّركات الرّوسيّة، وكذلك عقوبات قانون قيصر الذي يحظر التعامل الاقتصاديّ والتجاريّ مع النّظام السّوريّ.
يُضاف إلى ذلك أنّ روسيا قد تُفضّل أن تترك الحدود اللبنانيّة السّوريّة ورقةً للمناورة مع الغرب، الذي يبحث عن أيّ نقطة غازٍ تكون بديلاً للغاز الرّوسيّ. وبالتّالي لن تُفوّت فرصة التضييق على أيّ بئر مُحتمل في البلوكَيْن 1 و2.
في إطار متصل يشير مصدر لبناني حكومي إلى أن موسكو تنتظر أن يطلب منها لبنان لعبَ دور في ترسيم الحدود البحريّة الشّماليّة، تماماً كما فعل مع الولايات المُتحدة لترسيم الحدود جنوباً مع إسرائيل.
هذا الأمر -إن حصلَ- قد يُسبّب إحراجاً سياسيّاً للبنان الذي أعطى ضمانات لواشنطن بأنّ حواره مع الجانب السّوريّ لن يتعدّى الأمور التقنيّة المطلوبة لترسيم الحدود، وأنه لن يعطي للملف مع السوريين أي طابع سياسي إقليمي.
في هذا الإطار يرى ريحان أن النظام السوري لم يوقّع على "اتفاقيّة الأمم المُتحدة لقانون البحار"، وهذا ليسَ تفصيلاً، خصوصاً أنّ لبنان يريد أن ينطلق بعمليّات الترسيم بناءً على الاتفاقيّة.
وفي حال لم يُوافق الجانب السّوريّ، فإنّ لبنان سيجد صعوبةً في اللجوء إلى التحكيم الدّوليّ بسبب غياب التوقيع السّوريّ على الاتفاقيّة، وبالتّالي قد يستغرق اللجوء إلى القانون الدّوليّ سنوات طويلة تتجاوز الوقت المطلوب في هذه المسألة.
شهية الأسد
في هذا السياق، تشير الكاتبة ملاك عقيل لـ"عربي بوست" إلى أن هناك ثمناً يطلبه الأسد، والذي يمكن أن يتمدّد إلى فتح ملف النزاع براً بين لبنان وسوريا، والنزاع حول مزارع شبعا وباقي النقاط البرّية الملتبسة.
وتشير عقيل لوجود استياء سوري من استبعاد النظام السوري تماماً عن ملف الترسيم البحري مع إسرائيل، ومن التجاهل الرسميّ الكامل لوجود آلاف السوريين ممّن لا يعلمون شيئاً عن مصير ودائعهم في المصارف اللبنانية، والتي لم يتبرّع أحد في الدولة اللبنانية بتقديم تفسير لِما حدث.
وتؤكد عقيل أنّ سوريا لن تقبل بعد الآن تعاطي لبنان معها بفوقية، وأنّ الممرّ الإلزامي هو عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين، والتي يمكن أن تؤثّر على كلّ الملفّات العالقة؛ من التهريب على الحدود، إلى التنسيق الأمني وملفّات الكهرباء والطاقة، وبعد كلّ ذلك يمكن الجلوس معاً لتشريح الدخول الروسي إلى منطقة النزاع بين لبنان وسوريا.
مخاطر مقبلة
بالتوازي يشير المحلل السياسي منير الربيع في حديثه لـ"عربي بوست" إلى أن تأجيل البحث في ملف ترسيم الحدود مع سوريا إلى فترة لاحقة، لن يكون مرتبطاً فقط بسعي دمشق لتكون صاحبة تأثير في العهد الرئاسي الجديد، أو مع الرئيس الذي يفترض انتخابه.
ويقول إنه لا بد من العودة إلى الأصل؛ إذ لم يكن إعلان عون عن الاستعداد للبحث في ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا إلا نتاجاً أو انعكاساً لدعوات متعددة من قبل خصومه، الذين شددوا على التوجه سريعاً لترسيم الحدود مع دمشق. وما دفعه إلى الاستعجال هو سعيه لتسجيل إنجاز جديد في سجله.
ويرى الربيع أن المخاطر الناجمة عن تلك الدعوات سيكون لها هدف آخر، وهو التصويب في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق الناقورة على سلاح حزب الله، وأن الحزب قد اعترف بإسرائيل، وأنه لا بد من الذهاب إلى البحث في الاستراتيجية الدفاعية لضم سلاح الحزب إلى الدولة.
هذا بحد ذاته يفتح الباب أمام إعادة البحث في ملف ترسيم الحدود البرية مع دمشق، ولا سيما ما يتعلق بمزارع شبعا، والاعتراف الرسمي السوري بلبنانيتها. وهذا ما لا تبدو سوريا جاهزة له.