في ظلّ استعداد الصين بشكل شبه محسوم لضم تايوان بالقوة إذا لزم الأمر، رغم تصريحات بايدن بأن "أمريكا ستُدافع عن الجزيرة بالقوة"، يبدو أن واشنطن وجدت سلاحاً قد يكون أكثر إيلاماً لبكين، فما هو؟ وكيف قد يردّ شي؟
وكانت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين قد بدأت في التوتر خلال أغلب فترات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شن حرباً تجارية شرسة ضد بكين، لكن ذلك لم يمنع التنين من أن يصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، بينما يعاني الاقتصاد الأمريكي بشدة من التضخم، بفعل تداعيات جائحة كورونا، ثم حرب روسيا في أوكرانيا، وهو ما يحدّ من قدرة واشنطن على استخدام المساعدات الاقتصادية كورقة ضغط كما كان الحال سابقاً، عكس بكين.
ومع تولّي جو بايدن المسؤولية، وحديثه المتكرر بأن "أمريكا عادت لقيادة العالم"، أصبحت "المنافسة" علنيةً بين بكين وواشنطن، وأصبحت الحرب الباردة بينهما أمراً واقعاً، ليعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد، ليحل محل النظام القديم أحادي القطبية، أو بمعنى آخر النظام الذي تقوده أمريكا وتهيمن عليه.
حرب ترامب التجارية لم تنجح، فماذا فعل بايدن؟
على أية حال سعى ترامب أن يُلحق بالصين جروحاً غائرةً من خلال حربه التجارية، لكن تلك الحرب لم تكن فعالة، وبعد نحو عامين من دخوله البيت الأبيض يبدو أن جو بايدن قد وجد السلاح الذي قد يكون فتاكاً ويعيق بكين بالفعل، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، عنوانه "بايدن يعزل الصين عن الرقائق الإلكترونية"، ألقى الضوء على تفاصيل القرارات الأخيرة التي أصدرها الرئيس الأمريكي.
وتسعى واشنطن بشتى الطرق الآن إلى تحقيق هدف رئيسي وهو عرقلة الصين، التي تسير في مسار ثابت نحو إزاحة أمريكا عن مركز القيادة العالمي.
وأخيراً وجدت إدارة بايدن سلاحاً أكثر حدة، ويمكنه أن يعيق طموحات الصين التكنولوجية لما يصل إلى عقد من الزمان. ويتمثل الهدف في رقائق أشباه الموصلات، خاصةً الصنف المتطور المستخدم في الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي.
ولا تحظر ضوابط التصدير الجديدة التي أعلنتها إدارة بايدن هذا الشهر بيع هذه الرقائق إلى الصين فحسب، بل تحظر أيضاً بيع المعدات المتطورة اللازمة لصنعها، وكذلك المعرفة من أي مواطن أمريكي أو مقيم أو حاملي البطاقة الخضراء.
وتدعم رقائق أشباه الموصلات، التي لها عرض بسكويت الرقاقة وحجم الظفر، كل شيء من هواتفنا الذكية إلى أنظمة الأسلحة المتقدمة التي خصّتها الولايات المتحدة بالذكر في ملفها للإعلان عن قيود التصدير.
والأهم من ذلك أنها لا غنى عنها لتقنيات المستقبل؛ مثل الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة، بالإضافة إلى كل صناعة تقريباً من الأدوية إلى الدفاع، وهذه هي أكثر نقطة تستطيع القيود الأمريكية أن تؤذي من خلالها الصين.
قال راج فاراداراجان، العضو المنتدب والشريك الأول في مجموعة بوسطن الاستشارية التي ركزت أبحاثها على صناعة أشباه الموصلات: "يتحدث الناس عنها على أنها النفط الجديد، أو يمكنك اختيار أية عبارة مُستهلَكة أخرى؛ لكنها موجودة ومنتشرة في كل شيء، وهذا أحد الأسباب التي تجعلها نقطة ساخنة".
وضعت الصين طموحات محددة لقطاعها التكنولوجي، مع العديد من الخطط الحكومية على مدى العقد الماضي، التي حددت أهدافاً مثل الاكتفاء الذاتي في التصنيع عالي التقنية بحلول عام 2025، والقيادة العالمية في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وهيمنة معايير الصناعة العالمية بحلول عام 2035. وتستهدف أحدث وسائل الهجوم الأمريكية مباشرةً علامة "صنع في الصين".
رسالة أمريكية حادة اللهجة لبكين
دانييل غيرستين، باحث السياسات البارز في مؤسسة راند، الذي عمل سابقاً في مديرية العلوم والتكنولوجيا بوزارة الأمن الداخلي الأمريكية، قال للمجلة الأمريكية: "أعتقد أنَّ هذا يمثل أيضاً جزءاً من الإشارة إلى الصين، أننا لن نُسلِّم لمنحها القيادة العالمية في بعض هذه المجالات الحيوية، نحن لا نريد أن نخسر ونصبح مدينين بالفضل، إذا صح التعبير، للنُّهج الصينية".
وتمثل صناعة أشباه الموصلات حجر الزاوية في تلك الاستراتيجية، وقد خطت الصين خطوات كبيرة في الماضي القريب. إذ وفقاً لجمعية صناعة أشباه الموصلات تسهم الصين الآن بنسبة 35% من السوق العالمية، لكن هذا الرقم يعكس المبيعات النهائية للرقائق الجاهزة لشركات الإلكترونيات، التي لدى العديد منها عمليات تصنيع كبيرة تتركز في الصين، لكن لا تزال الولايات المتحدة تهيمن على الأجزاء الأهم، والأعلى تقنية في العملية؛ مثل تصميم الرقائق والإنتاج الأوّلي.
وبينما يمكن للصين الاحتفاظ بمكانتها عند الطرف الأدنى من نطاق الصناعة وإنتاج رقائق الجيل الأقدم، تظل متخلفة في أحدث الأبحاث والتصميم والتكنولوجيا المتقدمة، التي تستهدفها قيود التصدير التي تفرضها إدارة بايدن. ومن المحتمل الآن أنَّ الصين أصبحت مضطرة لتأجيل أهدافها في تلك المراحل لعدة سنوات.
وأحد الأسباب المهمة لهشاشة الصين في تلك النقطة، فضلاً عن جهودها المضنية لتحقيق الاستقلال فيها، هو مدى ترابط سلسلة التوريد العالمية لأشباه الموصلات. فغالباً ما تُصمَّم الرقائق في بلد وتُصنَّع في آخر، باستخدام آلات من إنتاج بلد ثالث، وتختبرها دولة رابعة. وأخيراً تُجمَّع وتُوضَع في أجهزة إلكترونية في بلد خامس، وحتى أحياناً يزيد عدد الدول والخطوات بينها قليلاً عن ذلك.
وتحاول الولايات المتحدة التحوط من رهاناتها على تلك الجبهة أيضاً، بتمرير قانون الرقائق والعلوم هذا العام، الذي يوفر حوافز بقيمة 52 مليار دولار- معظمها للشركات التي أقامت مصانع للرقائق على أراضي الولايات المتحدة- ومئات المليارات من الدولارات لتعزيز قدراتها البحثية والتطويرية. وأجرى بايدن جولات في شمال ولاية نيويورك هذا الشهر، للترويج لتأثير القانون، بما في ذلك في مصنع IBM قبل يوم واحد من الإعلان عن ضوابط التصدير، ومنشأة Micron يوم الخميس، 27 أكتوبر/تشرين الأول.
وبالنسبة للولايات المتحدة، يُعتبَر بناء نظام التصنيع البيئي الخاص بها آمناً من زاوية احتمالات الفشل. أما بالنسبة للصين فالأمر الآن أصبح ضرورة مطلقة.
كيف يمكن أن تردّ الصين؟
جوردان شنايدر، كبير المحللين في مجموعة Rhodium Group، قال لفورين بوليسي: "هذا جهد سيستغرق مئات المليارات من الدولارات، وكمية لا تُصدَّق من المواهب الهندسية والطاقة لإعادة إنشاء سلسلة توريد لأشباه الموصلات لا تتضمن التكنولوجيا الأمريكية… وسلسلة التوريد هذه معولمة للغاية، لكنها أيضاً متخصصة جداً، بحيث لا يوجد في أية خطوة فيها سوى عدد قليل من الشركات في العالم التي يمكنها تنفيذها، وإذا كنت محجوباً نوعاً ما من أية خطوة من هذه الخطوات فلا يمكنك صنع رقائق".
لكن لا تزال هناك بعض الأسئلة دون إجابة، منها كيفية تطبيق القيود في الممارسة العملية، ففي كثير من الحالات تمنح القيود الشركات خيار التقدم للحصول على تراخيص لاستخدام التكنولوجيا الأمريكية وبيعها.
قال فاراداراجان: "ليس من الواضح ما إذا كانت التراخيص ستُرفَض، بل من المحتمل جداً منحها، وبالتالي سيؤدي ذلك فقط إلى تأخير وإبطاء بعض الأشياء".
السؤال الكبير الآخر هو ما إذا كانت الصين ستردّ وكيف ستفعل ذلك، انتقدت بكين ما وصفته بـ"إساءة استخدام" ضوابط التصدير، وحذرت من أنَّ القيود قد "تأتي بنتائج عكسية" في نهاية المطاف على واشنطن، لكن ردها حتى الآن كان مجرد تنديد، بعيداً عن التعريفات المتبادلة التي كانت سمة مميزة لحرب ترامب التجارية.
لكن باستخدام أشباه الموصلات على وجه التحديد، فإنَّ الفجوة الهائلة بين القدرات التكنولوجية الأمريكية والصينية تعني أنَّ بكين ليس لديها الكثير للرد. وفي حين أنَّ الصين تمثل جزءاً كبيراً من سوق رقائق العُقدة الكاملة- أقدم وأكبر أشباه موصلات ليست متطورة لكنها تُستخدَم في منتجات مثل السيارات– لكنها ليست ضرورية، ومن المحتمل أن ينتقل الإنتاج إلى مكان آخر دون الكثير من الاضطراب.
قال راج فاراداراجان، العضو المنتدب والشريك الأول في مجموعة بوسطن الاستشارية التي ركزت أبحاثها على صناعة أشباه الموصلات: "إذا حظرت الولايات المتحدة بيع أشباه الموصلات إلى الصين، وقالت الصين إنها بالمثل ستحظر أشباه الموصلات، فليس هناك الكثير من الأشياء التي تصنعها في هذا المجال التي يمكنها حظرها ليكون الرد متكافئاً".
وفي جميع الحالات، الصين محصورة في الزاوية، وأية خطوة تتخذها بكين في الوقت الحالي لعزل نفسها عن سلسلة التوريد العالمية قد تضر بفرص العمل والصادرات في البلاد، وهما عاقبتان لا تستطيع تحملهما مع معدل نمو اقتصادي حالي يبلغ 3%، وهو أقل بكثير من توقعات الحكومة، وليس بالأمر الذي يسهل الخروج منه.
وتفضح الإجراءات داخل الصين في الأسابيع التي تلت الإعلان عن ضوابط التصدير الأمريكية حالة عدم اليقين حول الخطوات التالية التي يجب فعلها. وبحسب تقارير، عقدت الحكومة الصينية اجتماعات طارئة مع أكبر شركات أشباه الموصلات في البلاد لتقييم تأثير القيود. وذكرت صحيفة The Financial Times البريطانية أنَّ إحدى الشركات الرائدة الصينية Yangtze Memory Technologies طلبت بالفعل من العديد من الموظفين الأمريكيين المغادرة.
وستضطر الصين إلى مضاعفة جهودها المستمرة منذ سنوات، لبناء نظام أشباه موصلات خاص بها، وقد تنجح في تحقيق هدفها المتمثل في الاكتفاء الذاتي على المدى الطويل، لكن على المدى القصير من المحتمل أن تشعر بألم هذه القيود.
علّق كبير المحللين في مجموعة Rhodium Group جوردان شنايدر قائلاً: "ستواجه الشركات الصينية وقتاً صعباً للغاية، في محاولة تجاوز هذه الحدود بدون التكنولوجيا الأمريكية، لكن أي جهد لفعل ذلك لمجرد الوصول إلى مستوى 2022 المُستهدَف قد يستغرق عقداً أو أكثر. وحتى مع كل هذا الجهد ليس من الواضح أنها ستنجح".