أعلن حزب المحافظين البريطاني، الإثنين 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022، فوز المرشح من أصول هندية، ريشي سوناك، بالانتخابات الداخلية، ليصبح زعيم الحزب الجديد، وأول رئيس وزراء لبريطانيا من أصول هندية.
فمن هو ريشي سوناك الذي يستعد لتولي منصب رئيس وزراء بريطانيا في ظروف عصيبة للغاية؟
كانت تراس قد أعلنت استقالتها قبل أيام، بعد 45 يوماً فقط من فوزها بالمنصب في انتخابات داخلية لأعضاء حزب المحافظين، تم إجراؤها في أعقاب إجبار جونسون على الاستقالة يوم 7 يوليو/تموز الماضي، بعد أن حاصرته الفضائح من كل جانب، واستقال كثير من الوزراء، وعدد كبير من المسؤولين في الحكومة.
استقالة جونسون فتحت الباب على الصراع داخل حزب المحافظين لاختيار خليفة له، وتقدم 11 مرشحاً لتجري عملية التصويت من جانب أعضاء حزب المحافظين، على عدة مراحل، شهدت قبل الأخيرة منها انحصار المنافسة بين سوناك وتراس، وأُعلنت النتيجة النهائية يوم 5 سبتمبر/أيلول الماضي، بفوز تراس بتركة جونسون الثقيلة.
من هو ريشي سوناك؟
يبلغ سوناك من العمر 42 عاماً، فهو من مواليد عام 1980 في مدينة ساوثهامبتون، وترجع أصول عائلته إلى الهند؛ حيث هاجر أجداده من ولاية البنغاب الهندية إلى شمال إفريقيا في بداية الأمر، ثم هاجر والداه إلى بريطانيا في ستينيات القرن الماضي. وكان والده يعمل طبيباً بينما كانت والدته تمتلك وتدير صيدلية.
ودرس سوناك في إحدى المدارس المرموقة وهي وينشستر كوليدج وبعدها التحق بجامعة "أكسفورد"، التي تخرج فيها عام 2001. وعمل سوناك محللاً في شركة الخدمات المصرفية الاستثمارية، غولدمان ساكس، حتى عام 2004.
وحصل سوناك على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ستانفورد، وهناك التقى بزوجته، أكشاتا مورثي، وهي ابنة نارايانا مورثي، الملياردير الهندي وأحد مؤسسي الشركة العملاقة في مجال التكنولوجيا، "إنفوسيس". وهكذا كوَّن سوناك ثروة ضخمة، بفضل نجاحه في مجال الأعمال إضافة إلى حصة زوجته في شركة والدها، وتقدر ثروته بحو 730 مليون جنيه إسترليني (877 مليون دولار) هذا العام. ونشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً عنوانه "هل ثروة سوناك البالغة 730 مليون إسترليني تجعله أغنى من أن يصبح رئيساً للوزراء؟".
بدأت رحلة سوناك مع السياسة قبل 12 عاماً، عندما انضم لحزب المحافظين، وفي عام 2014، اختير مرشحاً للحزب لمجلس العموم عن دائرة ريتشموند في شمال يوركشاير، وهو المقعد الذي شغله زعيم الحزب الأسبق ويليام هيغ لفترة طويلة، وفاز بالمقعد ثم أُعيد انتخابه للبرلمان في عامي 2017 و2019، وصوت ثلاث مرات لصالح خطط رئيسة الوزراء تيريزا ماي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وكان أول منصب حكومي رفيع المستوى يشغله سوناك هو رئيس السكرتارية بوزارة المالية في يوليو 2019، أي الرجل الثاني في الوزارة، وعينه فيه جونسون، كمكافأة على الدعم القوي الذي أظهره ريشي لجونسون للفوز بزعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة.
وشهدت فترة توليه منصب الرجل الثاني في وزارة المالية تصاعداً لافتاً في التوتر بين الوزير، ساجيد جافيد، ورئيس الحكومة جونسون، وعندما استقال جافيد في فبراير/ شباط 2020، اختار جونسون سوناك ليحل محله، وكان وقتها في التاسعة والثلاثين من عمره، ليصبح رابع أصغر شخص يتولى هذا المنصب على الإطلاق.
هل فشل جونسون في إقناعه بالانتظار؟
بعد أن استقالت ليز تراس، التي تسبب برنامجها الاقتصادي في كارثة أطاحت بقيمة الجنيه الإسترليني، وأثارت الذعر في الأسواق، بعد ستة أسابيع فقط قضتها في المنصب، أعلن جونسون أنه سيسعى للعودة إلى منصبه، وقطع إجازة في الكاريبي لينافس على زعامة الحزب ورئاسة الحكومة.
ولبريطانيا نظام فريد في اختيار رئيس الوزراء في حالة استقالة شاغل المنصب، إذ لا يتم إجراء انتخابات عامة، كما يحدث في أغلب ديمقراطيات العالم، لكن يتولى الحزب صاحب الأغلبية اختيار خليفة للمستقيل. ويسعى المرشحون للمنصب إلى الفوز بدعم أغلبية أعضاء الحزب في البرلمان، وفي حالة عدم حصول أحدهم على الأغلبية، تجرى عملية تصويت ويتم فيها استبعاد الحاصلين على أقل الأصوات، ثم تجرى انتخابات على مستوى أعضاء الحزب في المرحلة الأخيرة، وهذا ما حدث مع تراس.
لكن هذه المرة الأمور مختلفة؛ إذ لابد من حسم الأمور سريعاً قبل يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول، وبالتالي فإن من يسعى للفوز بالمنصب عليه أن يحظى بدعم 100 عضو على الأقل من أعضاء حزب المحافظين في البرلمان، والبالغ عددهم 357 عضواً.
وأعلن جونسون وسوناك وبيني موردنت سعيهم للفوز بالمنصب، وتحدثت تقارير عن عقد جونسون لقاء "سرياً" مساء السبت 22 أكتوبر/تشرين الأول مع سوناك، أشارت التكهنات إلى أن الهدف منه هو إقناع سوناك بعدم دخول المنافسة حتى تحسم الأمور لصالح جونسون.
وقال جونسون إنه حصل بالفعل على دعم 102 من النواب، لكنه فشل في إقناع سوناك والمنافسة الأخرى بيني موردنت بالعمل معاً "من أجل المصلحة الوطنية"، وأضاف في بيان صدر في ساعة متأخرة من مساء الأحد: "لذلك أعتقد أن أفضل شيء هو أن أسحب ترشيحي وأدعم من ينجح. أعتقد أن لديَّ الكثير لأقدمه، لكني أعتقد أن هذا ببساطة ليس الوقت المناسب".
ويعني هذا ببساطة أن الطريق أصبح ممهداً أمام سوناك ليحل محل تراس، وسط توقعات بأن يعلن ذلك رسمياً الإثنين 24 أكتوبر/تشرين الأول، دون الحاجة لإجراء اقتراع يشارك فيه أعضاء حزب المحافظين، المقدر عددهم بنحو 200 ألف شخص.
ماذا ينتظر رئيس حكومة بريطانيا الجديد؟
توجد حالة إجماع بين المحللين والمراقبين على أن مهمة سوناك كرئيس للوزراء لن تكون سهلة، بل على الأرجح ستكون أقرب إلى طريق مفروش بالأشواك، على الرغم من الثقة التي يبديها في قدرته على الخروج بالبلاد من عنق الزجاجة الخانق.
إذ تعهد سوناك بمعالجة "الأزمة الاقتصادية العميقة" في البلاد "بنزاهة ومهنية ومساءلة". وأضاف الرجل، الذي يتهمه أنصار جونسون بالتسبب في إنهاء فترة رئيس الوزراء السابق التي امتدت لثلاث سنوات: "أريد إصلاح اقتصادنا، وتوحيد حزبنا، وتقديم المساعدة لبلدنا". وكانت استقالة سوناك من حكومة جونسون قد أدت إلى تمرد لم يسبق له مثيل من الوزراء.
ويبدو أن سوناك يعوّل على الشعبية العريضة التي اكتسبها خلال العامين الماضيين كوزير للمالية في مواجهة التحديات الصعبة التي فرضتها جائحة كورونا؛ إذ كان قد أسس برنامج دعم اقتصادي واسع النطاق خصص حوالي 330 مليار جنيه إسترليني (400 مليار دولار) في شكل أموال طارئة للشركات، كما دعم رواتب العمال بهدف الاحتفاظ بالوظائف وتخفيف عبء الإغلاق على الأفراد والشركات على حد سواء.
لكن الوضع الآن مختلف تماما؛ إذ تسببت تراس في تغذية المخاطر والمخاوف تجاه الاقتصاد البريطاني من خلال سياساتها، التي لاقت انتقادات حتى من الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو ما يعني أعباء اقتصادية ثقيلة لمن سيخلفها.
إذ تعيش المملكة المتحدة اليوم في ظل عدة مخاطر اقتصادية على رئيس الحكومة المقبل إيجاد حلول لها، بينما يتربص بالاقتصاد العالمي ركود قد يبدأ من الولايات المتحدة ويمتد شرقاً. وتعيش أسواق المال البريطانية ضعف ثقة، فيما يتواصل تأثر الجنيه ولو جزئياً بتوترات مالية واقتصادية تسببت بها تراس من خلال خطتها المالية "اللاغية".
وعاد التضخم في المملكة المتحدة خلال سبتمبر/أيلول الماضي ليسجل ذروة 4 عقود، عند 10.1% وهي ذات النسبة التي سجلتها الأسواق في يوليو/تموز الماضي، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
ولم تنجح جهود بنك إنجلترا في تنفيذ 7 زيادات على أسعار الفائدة، بخفض التضخم، وسط توقعات بمزيد من التشديد النقدي الذي سينفذه البنك لما تبقى من العام الجاري. وقفزت أسعار الغذاء في المملكة المتحدة إلى قمة 4 عقود، بينما يحاول البريطانيون إدارة نفقاتهم من خلال رزمة إجراءات، أبرزها التوجه نحو الأطعمة المجمدة أو المجففة بدلاً من الطازجة، فيما بدأ يغيب الإفطار التقليدي عن موائد عديد العائلات.
فقد صعد بنك إنجلترا بأسعار الفائدة 7 مرات منذ ديسمبر/كانون أول 2021 من مستوى 0.10% إلى 2.25% في الوقت الحالي. وأبطأت أسعار الفائدة المرتفعة محاولات الأسواق إنعاش وتيرة النمو بعد عامين صعبين بسبب جائحة كورونا، فيما بدأت تظهر بوادر أزمات تسببت بها الفائدة المرتفعة على سوق العقارات.
وتشكل سوق العقارات في المملكة المتحدة أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن ظهور مؤشرات على أزمة في سوق العقارات ناجمة عن تراجع الطلب بسبب ارتفاع الرهون العقارية أن الاقتصاد سيواجه مزيداً من الضغوط في 2023.
موقف بريطانيا من الحرب في أوكرانيا
ولا يمكن إغفال أثر الحرب الروسية الأوكرانية الواضح تماماً على الأسواق المحلية في بريطانيا؛ إذ لا تزال أسعار الطاقة تسجل مستويات مرتفعة عما كانت عليه في عام 2021.
وتدريجياً بدأت بريطانيا تخفيف وارداتها من مشتقات الطاقة الروسية واستبدالها بمصادر الطاقة من أسواق أخرى، أبرزها الأسواق الأمريكية، كالنفط والغاز والمشتقات. إلا أن الولايات المتحدة تواجه ارتفاعاً في أسعار النفط والمشتقات، ما يهدد بإبطاء حجم الصادرات إلى أسواق أوروبا بما فيها السوق البريطانية.
وسيكون رئيس الحكومة الجديد مطالباً بضرورة توقيع عقود للتزود بالوقود والغاز من مصادر متنوعة، تجنباً للوقوع في أزمة طاقة تضاف إلى الأزمات الأخرى التي خلفتها حكومة "تراس".
فقدت الأسواق العالمية الثقة بالاقتصاد البريطاني مؤقتاً بسبب الخطة المالية التي أعلنت عنها تراس، ودفعت وزير الخزانة فيها كواسي كوارتنغ لتقديم استقالته، واستبداله بالوزير الجديد جيرمي هانت.
وعلى الرغم من قيام هانت بالتراجع عن الخطة المالية لسلفه، إلا أن الأسواق لا تزال بانتظار خطوات جدية لاستعادة الثقة بالحكومة الجديدة من جهة، وخططها المالية من جهة أخرى.
لكن هذه الأجواء المتوترة لا تعطي الصورة الكاملة عن أسباب ما تعيشه الحكومات البريطانية من تخبط وعدم استقرار؛ إذ يرى كثير من المحللين أن السبب الجوهري وراء ما تعانيه بريطانيا يمكن تلخيصه في "بريكست" أو مغادرة الاتحاد الأوروبي، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي، عنوانه "ما الذي كسر بريطانيا؟"
فاستقالة تراس السريعة، ومن قبلها استقالة جونسون رغم قيادته حزب المحافظين لتحقيق الأغلبية البرلمانية في انتخابات 2019، ليست إلا أعراضاً ظاهرية للمرض العضال الذي أصيبت به البلاد نتيجة لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وليس متوقعاً أن يحدث الشفاء من هذا المرض على المدى القريب أو المتوسط.
"هناك سبب واحد جوهري وواضح لمتاعب بريطانيا، وهو بريكست"، بحسب ما قاله ماتياس ماثيجيز، الزميل المختص بأوروبا في مجلس العلاقات الخارجية، لموقع Vox، مضيفاً أن التصويت على بريكست، الذي جرى عام 2016، قد تسبب في انقسام عميق داخل البلاد وخلق هويات سياسية جديدة، كما أطلق العنان لتداعيات اقتصادية سلبية أشبه بالزلزال العنيف، الذي لا تزال توابعه تقع كل فترة، دون أن يكون لأحد سيطرة عليه.