تتواصل احتجاجات "النقاب"، التي تعصف بإيران، للشهر الثاني على التوالي، وسط ارتفاع كبير في أعداد الضحايا، وقيام "الباسيج" بالدور الرئيسي في عمليات القمع، فلماذا تتوسع طهران في استخدام "الفصائل المسلحة" غير النظامية؟
كانت الاحتجاجات، التي تطالب بإسقاط المؤسسة الدينية بإيران، قد اندلعت منذ وفاة مهسا أميني، وهي شابة كردية إيرانية، كانت تبلغ من العمر 22 عاماً، في 16 سبتمبر/أيلول، في أثناء احتجازها لدى شرطة "الأخلاق"، لارتدائها "ملابس غير لائقة".
وفي مواجهة أجرأ تحدٍّ للجمهورية الإسلامية منذ ثورة 1979، استخدمت السلطات القوة لقمع أكبر موجة معارضة منذ عام 2019، ولقي ما لا يقل عن 215 شخصاً، بينهم 27 قاصراً حتفهم، وأُصيب المئات واعتقلت قوات الأمن الآلاف، حسبما قالت منظمات حقوقية، وقالت السلطات الإيرانية إنها ستحقق في مقتل المدنيين.
"الباسيج" في مقدمة قمع المحتجين
سقط كثير من الضحايا على أيدي أفراد ينتمون إلى "الباسيج"، وهي قوات مسلحة غير نظامية، لديها قواعد في جميع المساجد المنتشرة بالبلاد، ويُشرف الحرس الثوري الإيراني على قيادة تلك القوات، غير أن معظم أفراد "الباسيج" من المتطوعين.
ولا يتولى الحرس الثوري الإيراني دفع رواتب الأفراد المنتمين إلى الباسيج بطريقة مباشرة، فالحكومة هي المعنيّة بتقديم المساندة الاقتصادية لهؤلاء الأفراد، ومساعدتهم في شغل المناصب بالمكاتب الحكومية وإدارات القطاع العام والجامعات.
ورصد تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني المشاركة الواسعة لتلك الفصائل المسلحة ودورها في قمع احتجاجات إيران. ونقل عن شهود عيان، دون ذكر هوياتهم بطبيعة الحال، بعضاً من تفاصيل تلك المشاركة الدموية.
بينما كانت "إلناز" عائدة من مظاهرةٍ بوسط طهران أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، باغتها 4 رجال جاءوا راكبين على دراجات نارية، فقطعوا طريقها واستوقفوها.
كان الرجال منتمين إلى قوات "الباسيج" شبه العسكرية، التي كانت لها مشاركة محورية في قمع المظاهرات التي اشتعلت في أعقاب وفاة الشابة مهسا أميني بعد اعتقال "شرطة الأخلاق" لها في منتصف سبتمبر/أيلول.
قالت إلناز لموقع Middle East Eye إنها اعتُقلت ونُقلت إلى مسجد الجواد بميدان "هفت تير" بالعاصمة طهران، و"جرُّوني إلى قبو المسجد فوجدت هناك فتيات أخريات قيد الاعتقال، ثم جاء ضابط شرطة وأخذ هواتفنا، وفحص الرسائل النصية بها رسالة تلو الرسالة. كنت قد حذفت بالفعل جميع الرسائل المتعلقة بالاحتجاجات، وأخبرت الضباط أنني اعتُقلت خطأً".
أطلقت السلطات سراح إلناز في النهاية بعد أن بذلت جهدها لإقناعهم بأن اعتقالها كان بناء على مزاعم كاذبة. وتروي أنها "بينما كنت تركض إلى خارج المسجد من الباب الصغير المطل على الميدان، رأت مزيداً من أفراد الباسيج على وشك الدخول إلى المسجد مع معتقلين جدد".
وتتواصل الاحتجاجات داخل إيران وخارجها أيضا، حيث شارك عشرات الآلاف في مسيرات احتجاجية في ألمانيا، تضامنا مع المحتجين الإيرانيين، وسط تصاعد التوتر بين طهران والعواصم الغربية، وبخاصة واشنطن، التي يتهمها النظام الإيراني بتأجيج الاحتجاجات، في إطار "مؤامرة" هدفها إسقاط النظام.
إذ شارك عشرات الآلاف في مسيرة ببرلين، السبت، 21 أكتوبر/تشرين الأول، تعبيراً عن دعمهم للمحتجين في إيران، وقدرت الشرطة عدد المشاركين في المسيرة بـ80 ألفاً، وخلالها لوح المحتجون بأعلام إيران وحملوا لافتات كتب عليها "النساء، الحياة، الحرية". وقال المنظمون إن إيرانيين جاءوا من الولايات المتحدة وكندا وجميع دول الاتحاد الأوروبي للمشاركة في المسيرة.
وقالت الناشطة في مجال حقوق الإنسان، فاريبا بلوش، بعد أن ألقت كلمة في الحشد "من زاهدان إلى طهران أضحي بحياتي من أجل إيران". والمدينتان الإيرانيتان اجتاحتهما الاحتجاجات. ورد الحشد بهتاف "الموت لخامنئي" في إشارة إلى الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي.
وقال نشطاء مناوئون للحكومة إن مسيرة برلين هي المظاهرة الأكبر إلى الآن التي يشارك فيها إيرانيون في الخارج ضد الجمهورية الإسلامية.
وقالت محتجة لرويترز، ذكرت أن اسمها مارو "أشعر بأنني في أحسن حال، لأننا هنا لنقول نحن معكم، نحن مع كل الشعب الإيراني. أنا صوت مهسا أميني".
لماذا تضع إيران "الباسيج" في الواجهة؟
منذ بداية الاحتجاجات المناهضة للحكومة في 15 سبتمبر/أيلول، وكثير منهم قُتل على أيدي أفراد منتمين إلى الباسيج، غير أن البيانات الصادرة عن الحكومة ووسائل إعلام رسمية تشير أيضاً إلى مقتل وإصابة عدد غير مسبوق من المنتمين إلى قوات الباسيج، ما يؤكد أن تلك القوات كانت لها مشاركة كبيرة في قمع الاحتجاجات.
التقارير الواردة من إيران حتى الآن تشير إلى أن عدد القتلى من أفراد الباسيج في هذه الاحتجاجات أعلى من نظرائه في أي انتفاضة أخرى شهدتها البلاد منذ الثورة الإيرانية عام 1979. وأوردت وكالة أنباء تسنيم، التابعة للحرس الثوري الإيراني، أن فرداً من الباسيج ورائداً في الحرس الثوري الإيراني قُتلا بمدينة بيرم جنوبي البلاد في 14 أكتوبر/تشرين الأول، أثناء محاولتهما اعتقال مواطنين كتبوا شعارات مناهضة للحكومة على جدران المدينة.
كما نشرت صحيفة "إيران" اليومية الحكومية الأسبوع الماضي قائمة بأسماء أفراد القوات المسلحة والمجموعات شبه العسكرية الذين قُتلوا منذ بداية موجة المظاهرات الجارية في البلاد. وأوردت الصحيفة مقتل 17 فرداً من الباسيج و7 ضباط مسلحين خلال الشهر الأول من الاحتجاجات.
وتحدث موقع ميدل إيست آي البريطاني مع عالم سياسة إيراني، رفض الكشف عن هويته، والذي قال إن السلطات زادت من اعتمادها على الباسيج لقمع الاحتجاجات في السنوات الماضية، لأن المؤسسة فقدت المناصرة الاجتماعية لها "إذ لطالما كانت الباسيج قوة مهمة ضمن أدوات القمع التي يستخدمها النظام، إلا أن حضورها ازداد لأن هذا النظام السلطوي لم يعد بإمكانه الثقة بضباط الشرطة ثقةً كاملة".
وقال عالم السياسة الإيراني إن الحرب العراقية الإيرانية كانت المرة الأخرى الوحيدة التي تكبدت فيها القوات شبه العسكرية عدد قتلى أكبر من القوات الرسمية. غير أن "الانتشار الواسع لقوات الباسيج له فائدتان للنظام: أولاً؛ إضافة قوة بشرية جاهزة للقتال إلى آلة القمع القائمة للنظام. وثانياً؛ إتاحة التنصل من جرائمه بإلقاء اللوم على القوات شبه العسكرية".
وكانت وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية (إرنا)، في 15 أكتوبر/تشرين الأول، قد ذكرت أن 850 فرداً من الباسيج قد أُصيبوا في العاصمة وحدها. ونقلت وكالة الأنباء عن العميد حسن حسنزاده، قائد قوات الحرس الثوري في طهران، قوله إن 185 فرداً من مصابي قوات الباسيج بالعاصمة أصيبوا في ليلة واحدة. غير أنه لم يوضح التفاصيل الدقيقة للأمر ولا موعد حدوثه ولا مكانه. وقال حسنزاده إن 3 من أفراد الباسيج قُتلوا في مواجهات مع المتظاهرين. ولم يتيسر لموقع MEE التحقق من تلك البيانات من مصدر مستقل.
إلى أين تتجه احتجاجات إيران؟
ذكرت صحيفة "إيران" أن قتلى الباسيج تنوعت أماكن مقتلهم بين المدن التي شهدت مظاهرات في جميع أنحاء إيران، ومنها طهران ومشهد وشيراز وتبريز وأرومية وكرج.
وكشفت الصحيفة الإيرانية عن مفاجأة مفادها أن أحد قتلى الاحتجاجات من جانب النظام كان ضابطاً يخدم في جيش البلاد. وأكد ضابط جيش متقاعد أن بعض ضباط الجيش يتطوعون فى قوات الباسيج أيضاً، ويشاركون في الأعمال الموكلة إليها لتلقي مكافآت الحكومة.
وقال الضابط المتقاعد لموقع MEE: "لقد كنت فرداً متطوعاً في قوات الباسيج لبضع سنوات، واستمر انتمائي إليها حتى عندما كنت ضابطاً في الجيش الرسمي. كنا نضطر إلى إقامة كمائن تفتيش وإدارتها، لكني لم يكن يعجبني إيقاف سيارات الناس العاديين وتفتيشهم، فتوقفت بعد مدةٍ عن العمل مع الباسيج. ومع ذلك فإن الواقع أن كثيراً من مسؤولي الجيش هم أفراد منتمون إلى الباسيج أيضاً".
في غضون ذلك، أكدت تقارير نشرها مقربون من المؤسسة الحاكمة في طهران أن الباسيج يشارك في الحملات التي تشنها قوات الأمن على المحتجين. وفي منشور على موقع إنستغرام، روى جواد موجويي، صانع أفلام وثائقية له علاقات وثيقة بالمرشد الأعلى لإيران، تفاصيل اعتقاله الوحشي على أيدي قوات الباسيج.
وكتب موجويي، الذي كان شقيقه قائداً في قوات الباسيج بمدينة كرج: "لكزني شخص من الخلف، فسقطت على الأرض، وتناوب 10 منهم على ضربي وركلي في رأسي وصدري… [ثم] ألقوا بي في سيارة شرطة".
تمثل الاحتجاجات في إيران أحد أكثر التحديات جرأة للقيادة الدينية منذ ثورة 1979، وحتى إن لم تكن قريبة من الإطاحة بالحكومة التي نشرت أجهزتها الأمنية القوية لإنهاء مظاهر الاحتجاج.
وحذر خامنئي، الجمعة الماضية، من أنه لا ينبغي لأحد أن تواتيه الجرأة للتفكير أن بإمكانه اجتثاث الجمهورية الإسلامية، متهماً خصومها بإشعال الاضطرابات.
ووقع بعض من أكثر الاضطرابات دموية في مناطق تقيم فيها أقليات عرقية تشكو مظالم من الدولة منذ وقت طويل. وتشمل هذه المناطق إقليم سستان وبلوخستان في جنوب الشرق وعاصمته زاهدان.
واتهم الحرس الثوري الإيراني، السبت، مولوي عبد الحميد، وهو رجل دين سني بارز في زاهدان، بالتحريض ضد الجمهورية الإسلامية وحذره من أن ذلك قد يكلفه ثمنا باهظا بعد أن قال رجل الدين، في خطبة الجمعة، إن مسؤولين بينهم الزعيم الأعلى يتحملون المسؤولية عن مقتل العشرات في زاهدان الشهر الماضي.
ووجه عبد الحميد اتهامات مباشرة لمسؤولين، من بينهم الزعيم الأعلى خامنئي، قائلاً إنهم "مسؤولون أمام الله" عن القتلى الذين سقطوا يوم 30 سبتمبر/أيلول الماضي، ووصف قتلهم بأنه مذبحة، قائلاً إن الرصاص أُطلق على الرؤوس والصدور.
وأفاد بيان مقتضب على موقع "سباه نيوز" الإخباري الرسمي للحرس الثوري "السيد عبد الحميد، بأن تشجيع الشباب وتحريضهم ضد جمهورية إيران الإسلامية المقدسة قد يكلفك ثمناً باهظاً! هذا هو التحذير الأخير!".