"كيف نميز بين مقاتل المقاومة السياسية الواعي المناهض للاستعمار، الذي يُقتل بالسلاح في يده، وبين اللصوص المعارضين للاستعمار؟ الحدود بين الاثنين رفيعة للغاية".
هكذا رد المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، المقرب من دوائر الحكم في باريس، على تحقيق صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، التي زعمت فيه أن من بين الرفات الـ24 الذين استعادتهم الجزائر من فرنسا "لصوص مسجونين"، استناداً إلى وثائق قالت إنها حصلت عليها من "متحف الإنسان" ومن الحكومة الفرنسية.
وفي غياب أي تعليق رسمي من الحكومتين الفرنسية والجزائرية حول ما تضمنه تحقيق "نيويورك تايمز"، يمثل توضيح ستورا، في تصريحه المقتضب لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، إجلاء لبعض الغموض واللبس حول هذا الملف التاريخي المعقد والمتشابك.
ولا تكمن أهمية تصريح ستورا في كونه مؤرخاً متخصصاً في الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر، بل لمتابعته بشكل "رسمي" لملف "الذاكرة" المشتركة بين البلدين.
حيث سبق أن كلفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتقديم تقرير حول ما تسميه باريس "حرب الجزائر"، والذي وجدت بعض توصياته طريقها للتنفيذ.
ورافق ستورا ماكرون، خلال زيارته الأخيرة إلى الجزائر، في أغسطس/آب الماضي، كما رافق رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن، في أوكتوبر/تشرين الأول الجاري، حيث من المنتظر أن يلعب دوراً في تشكيل اللجنة المشتركة للمؤرخين لكتاب التاريخ.
وأحد الأدوار الأساسية التي ستتكفل بها هذه اللجنة، الأولى من نوعها في تاريخ البلدين، توحيد المصطلحات، لأن من يعتبر سجيناً أو لصاً لدى الفرنسيين قد يعتبر بطلاً ومقاوماً لدى الجزائريين، وهذا الإشكال الذي لم تنتبه له نيويورك تايمز وحاول ستورا توضيحه.
"قُطّاع الطرق الشرفاء"
حديث المؤرخ ستورا عن "اللصوص الجزائريين المعارضين للاستعمار الفرنسي" والذين لا يفصلهم عن المقاومين الذين يتمتعون بالوعي السياسي سوى خيط رفيع، يقودنا لتسليط الضوء على نوع مختلف من "المقاومة" التي لم تلق الكثير من الاهتمام من المؤرخين والإعلاميين، رغم أنه كان لها صيتها بين المجتمعات المحلية في زمانها.
ويمكن أن نطلق على هذا النوع من مكافحة الاستعمار بـ"المقاومة الفردية"، التي اشتهر بها رجال حملوا السلاح، واستوطنت غالبيتهم الجبال والغابات الكثيفة، وكانوا ينشطون بشكل فردي أو مع زوجاتهم، يهجمون على أفراد الجيش الفرنسي والمعمرين، ويسلبونهم أموالهم وأسلحتهم ومؤنهم.
ولأنهم كانوا يوزعون ما يستولون عليه من مؤن وأموال على الفقراء، لقبهم الجزائريون بـ"قطاع الطرق الشرفاء"، واعتبروهم رمزاً للشجاعة وتحدي الاستعمار ولو عبر "قطع الطرق" أمام الفرنسيين، الذين سرقوا بلداً بأكمله.
لذلك كان الناس ينشدون القصائد والأغاني في أعراسهم للإشادة ببطولات "قطاع الطرق الشرفاء"، كل فرد باسم، وفي المنطقة التي اشتهر بها.
كانوا في رمزيتهم أشبه بـأسطورة "روبن هود"، لدى الإنجليز والأوروبيين، الذي كان فارساً شجاعاً يجيد رمي السهام، لكنه "خارج عن القانون" ويحارب الظلم.
بينما كانت تصفهم السلطات الاستعمارية بـ"اللصوص"، و"الخارجين عن القانون"، و"قطاع الطرق".. وترصد مكافآت لمن يدلي بمعلومات تساعد على القبض عليهم.
فلم يكن "لقطاع الطرق الشرفاء" تنظيم يجمعهم، أو فكر يشملهم، أو منطقة واحدة ينشطون بها، بل توزعوا على مناطق مختلفة وفي أزمنة متفاوتة.
ولكن ما كانوا يشتركون فيه رفضهم الخضوع للاستعمار، والظلم الذي كان يمارسه على أفراد الشعب الجزائري من خلال الاستيلاء على أراضيهم وفرض ضرائب ثقيلة عليهم والتضييق عليهم في عباداتهم ومعتقداتهم.
وانتشرت ظاهرة "قطاع الطرق الشرفاء" في الفترات التي ضعفت فيها المقاومة الشعبية المنظمة، خاصة بعد انتهاء مقاومة الأمير عبد القادر في 1847، ثم مقاومة الشيخ محمد المقراني في 1871.
وانتعشت المقاومة الفردية أكثر خلال الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945)، عندما فرضت فرنسا التجنيد الإجباري على الجزائريين، ما دفع الكثير من الشباب للفرار إلى الجبال ورفض القتال دفاعاً عن دولة الاحتلال، بل وحملوا السلاح ضده للدفاع عن أنفسهم، أمام مطاردات الجيش الفرنسي لهم.
وحاول جيش التحرير الجزائري عند تفجير الثورة في 1954، تجنيد "قطاع الطرق الشرفاء" في صفوفه، والاستفادة من خبرتهم في القتال وحرب العصابات التي تعتمد على كمائن والكر والفر، ناهيك عن معرفتهم الدقيقة بالمناطق الجبلية والغابية الوعرة التي ينشطون بها، وهو ما أشار له العقيد الطاهر الزبيري، في الجزء الأول من مذكراته "آخر قادة الأوراس التاريخيين".
جمامجم لصوص أم مقاومين؟
يكشف المؤرخ ستورا بوضوح أن جماجم ما وصفتهم "نيويورك تايمز" باللصوص، ليسوا سوى مقاومين للاستعمار، وإن كانوا يفتقدون للوعي السياسي والتنظيم العسكري الذي يتيح لهم القضاء على المنظومة الاستعمارية، لكنهم قاوموه بكل ما يملكون من أدوات ووسائل حتى وإن كانت بسيطة ومحدودة.
وتعكس المقاومة الفردية للاستعمار الفرنسي الجو العام الذي ساد في منتصف القرن التاسع عشر، من رفض للشعب الجزائري للاحتلال بكل الوسائل الممكنة.
وحتى عند حديث الصحيفة الأمريكية عن جماجم 3 جنود جزائريين خدموا في الجيش الفرنسي تسلمتهم الجزائر ضمن 24 جمجمة، يحتاج إلى بحث وتعميق.
إذ إن العديد من قادة جيش التحرير الجزائري خدموا في الجيش الفرنسي، وتم تجنيدهم بالقوة، على غرار أحمد بن بله، أول رئيس للجزائر، ومحمد بوضياف، منسق للثورة، ومصطفى بن بولعيد، أول قائد للمنطقة العسكرية الأولى في الثورة (الأوراس).
واستفاد هؤلاء القادة من الخبرة العسكرية في الجيش الفرنسي ومن القتال في أوروبا والهند الصينية لبناء تنظيم عسكري تمكن خلال أقل من ثماني سنوات من طرد الاستعمار من البلاد.
كما كان لجيش التحرير عيون وجواسيس داخل الجيش الفرنسي، لعبوا دوراً مهماً بتزويد قادة الثورة بالمعلومات والسلاح والذخيرة.
لذلك ليس بالضرورة أن كل من خدم في الجيش الفرنسي كان عميلاً أو خائناً؛ بل قد يكون بطلاً بالمنظور الجزائري، بحسب الدور الذي قام به في المساهمة بتحرير الجزائر.
فالجيش الفرنسي كان يقطع رؤوس الجزائريين الذين قاوموه أو رفضوا الخضوع لسلطته لجعلهم عبرة لغيرهم، ولم يعرف عنه قطع رؤوس من خدموا في صفوفه.
ومن يمكنه الإجابة بدقة حول هوية الجماجم الـ24، هي اللجنة المشتركة للمؤرخين، خاصة أن الخارجية الفرنسية لم تنفِ صحة ما جاء به تحقيق نيويورك تايمز، بل رمت الكرة في سلة الجزائريين، عندما أوضحت في ردها أن قائمة الجماجم التي تم إرجاعها "تمت الموافقة عليها من قبل الطرفين".
ما وراء الأكمة
حيث وقع البلدان في 26 يونيو/حزيران 2020، على اتفاقية تم بموجبها استلام جماجم 24 جزائرياً، بعد أسبوع فقط، ما يوحي أن الأمر أخذ طابع الاستعجال، خاصة أن تاريخ الاستلام في 2 يوليو/تموز 2020، يتوافق مع عيد الاستقلال في 5 يوليو من كل عام، رغم أن الملف أخذ أشهراً طويلة من البحث والنقاش على مستويات عدة.
ويومها، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون: "مضى على حرمانهم من حقهم الطبيعي والإنساني في الدفن أكثر من 170 سنة، يتقدمهم الشريف بوبغلة والشيخ أحمد بوزيان، زعيمِ انتفاضة الزعاطشة، والشريف بوعمار بن قديدة، ومختار بن قويدر التيطراوي، وإِخوانهم، من بينهم جمجمة شاب مقاومٍ لا يتعدى عمره 18 سنة من قبيلة بني مناصر يدعى محمد بن حاج".
فالقضية بالنسبة للرئيس الجزائري تتجاوز مجرد أنهم مقاومون، بل تتعلق بحق كل جزائري وإنسان في الدفن، بل واعتبر أن الأمر لا يتعلق فقط بجماجم الجزائريين بل بدفن رفات المنفيين منهم، قائلاً: "ستلتحق بهذه المجموعة الأُولى باقي رفات الشهداء المنفيين أمواتاً، فالدولة عازمة على إتمامِ هذه العملية".
فالمعركة الدبلوماسية لاسترجاع جماجم ورفات الجزائريين والمقاومين خلال الحقبة الاستعمارية متواصلة، وإن أخذت طابع السرية، رغم أن باريس تستعمل ملف الذاكرة لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وأمنية في ملفات أخرى، مثل رغبتها في زيادة إمدادات الغاز الجزائري بأسعار تفاضلية.
كما أن تسريب الحكومة الفرنسية لهذا الملف لصحيفة أمريكية يفهم منه رغبة البلدين في ممارسة ضغوط على الجزائر للتخلي عن تحالفها مع روسيا، واتخاذ موقف متشدد من الحرب في أوكرانيا، وهذا ما يفسر الصمت الجزائري، الذي ردت عليه عملياً من خلال إجراء مناورات مع البحرية الروسية في البحر الأبيض المتوسط.