يتخصص الإيرانيون في صنع نسخ مُقلَّدة عن أنظمة الأسلحة المتطورة المُنتَجة في دول أخرى، على أساس الهندسة العكسية لهذه الأسلحة. ورغم أن بعض المنتجات النهائية لا تلبي المعايير الغربية، وقد لا تكون جيدة، لكن إيران تعتقد أنَّ النتائج كافية بالنسبة لها. تماماً مثل طائراتها المسيّرة التي تصنعها بأقل تكلفة لتكون بديلاً لسلاح الجو، والتي أصبحت خلال السنوات الأخيرة سريعة التطوُّر في البناء والانتشار بالمنطقة، لكنها الآن تتجاوز تلك المساحة نحو صراع أوسع عنوانه أوكرانيا.
طائرات إيران المسيّرة في سماء أوكرانيا
خلال الأسابيع الأخيرة، أمطرت روسيا العاصمة الأوكرانية كييف، بالعشرات من طائرات "كاميكازي" المسيرة الانتحارية -وهو لفظ يشير إلى الطائرات الانتحارية اليابانية في الحرب العالمية الثانية- لتصيب البنية التحتية للطاقة الأوكرانية في مقتل، وتدمر عشرات المباني، وتقتل وتصيب مئات الأشخاص.
وتقول أوكرانيا إن هذه الطائرات الانتحارية المدمرة، هي طائرات مسيّرة إيرانية الصنع من طراز شاهد-136 وهي طائرات تنطلق نحو هدفها قبل اندفاعها بسرعة وانفجارها عند الارتطام، حيث تحركت كييف في وقت سابق نحو قطع العلاقات مع إيران بسبب توريد هذه الطائرات لروسيا.
ومنذ يوليو/تموز الماضي، حذّرت وزارة الخارجية الأمريكية من أن إيران تخطط لمنح روسيا أسلحة لاستخدامها ضد أوكرانيا"، وترى واشنطن أن "هناك الآن أدلة كثيرة على استخدام الطائرات الإيرانية المسيّرة لمهاجمة المدنيين والأهداف العسكرية الأوكرانية"، على الرغم من النفي الإيراني.
لكن هذه الطائرات البدائية لا تثير غضب أوكرانيا فحسب، فقد قال دبلوماسيون غربيون، الأربعاء، 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022، إن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تعتزم طرح قضية نقل أسلحة إيرانية إلى روسيا خلال اجتماع مغلق لمجلس الأمن الدولي، بعد أن اتهمت كييف موسكو باستخدام طائرات مسيرة إيرانية ضد أهداف مدنية.
وأظهرت رسالة، اطلعت عليها وكالة رويترز، أن أوكرانيا دعت خبراء الأمم المتحدة لفحص ما تقول إنها طائرات مسيّرة إيرانية الأصل، استخدمتها روسيا لمهاجمة أهداف أوكرانية في انتهاك لقرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي صادق على اتفاق 2015 النووي الإيراني.
فيما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في الوقت نفسه، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين أن إيران أرسلت مدربين إلى "أراض محتلة" في أوكرانيا لمساعدة الروس في التغلب على مشاكل في أسطول الطائرات المسيّرة الذي اشتروه منها.
وأفادت الصحيفة بأن المدربين الإيرانيين يعملون من قاعدة عسكرية روسية في شبه جزيرة القرم؛ حيث يوجد عدد كبير من الطائرات المسيّرة منذ تسلمها من إيران، مشيرة إلى أن المدربين من الحرس الثوري الإسلامي، الذي تعتبره واشنطن منظمة إرهابية.
لماذا تثير طائرات إيران "البدائية" غضب الغرب؟
شكل الحديث عن "شراء روسيا طائرات مسيرة إيرانية" لاستخدامها في حرب أوكرانيا واحدة من مفارقات هذه الحرب، فمن الغريب أن تشتري روسيا، الدولة العظمى صاحبة ثاني أقوى جيش في العالم، أسلحة من دولة نامية معزولة كإيران، كانت تقلد منذ عقودٍ الأسلحة الروسية والغربية القديمة.
وألقت تقييمات منسوبة لقادة عسكريين أمريكيين نشرت في أغسطس/آب الماضي، شكوكاً حول قدرات الطائرات المسيرة الإيرانية التي حصلت عليها روسيا، حتى قبل البدء باستخدامها، وقالت هذه التقارير إن العسكريين الروس محبطون من الأداء الذي أظهرته في التجارب الأولية.
ولكن بعد بدء استخدامها، ظهرت تقارير منسوبة لعسكريين أوكرانيين تتحدث عن أن الطائرات من دون طيار الإيرانية تشكل تهديداً جديداً لأوكرانيا.
وبدأت روسيا خلال شهر سبتمبر/أيلول في استخدام طائرات انتحارية "كاميكازي" مسيرة في جنوب أوكرانيا، بما في ذلك ضد ميناء أوديسا أكبر موانئ البلاد، ومدينة ميكولايف القريبة، وسط تقديرات مبكرة بنشر مئات منها من قبل الكرملين في شبه جزيرة القرم وغيرها من المناطق الأوكرانية في جنوب البلاد، حسب تقرير لصحيفة the Guardian البريطانية.
وخلال ذلك الوقت، نشرت روسيا طائرات مسيرة إيرانية من طرازي "شاهد" و"مهاجر" بأعداد أكبر في مناطق أوكرانية عدة، مما أدى إلى نتائج مدمرة، حسب صحيفة Politico الأمريكية. وضرب بعضها مواقع قتالية وحطم دبابات وعربات مصفحة ، بينما ضرب البعض الآخر البنية التحتية المدنية.
لماذا لجأت روسيا لشراء الطائرات المسيَّرة الإيرانية؟
لطالما كانت الطائرات من دون طيار المسلحة سمة من سمات الصراع في أوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022. ولدى روسيا، التي تمتلك 1500 إلى 2000 طائرة من دون طيار للمراقبة العسكرية، عدد قليل نسبياً من الطائرات من دون طيار الهجومية من النوع الذي يمكنه ضرب أهداف بدقة في عمق أراضي العدو.
وبصفة عامة، رغم أن روسيا تُعد ثاني أهم دولة منتجة للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة، فإنها متأخرة في مجال الطائرات المسيرة، مثلها مثل عدد من القوى الغربية المتقدمة عسكرياً مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
على النقيض من ذلك، استخدمت أوكرانيا الطائرات من دون طيار المقاتلة التركية الصنع لإحداث دمار في الدروع والشاحنات والمدفعية الروسية منذ الأسابيع الأولى من الصراع.
بينما تستخدم روسيا بشكل أساسيٍّ الطائرة المسيرة المحلية الصنع "Orlan-10" الأصغر والأبسط من بيرقدار التركية، والتي تحتوي هذه الطائرات من دون طيار أيضاً على كاميرات، ويمكنها حمل قنابل صغيرة.
وبدأت روسيا الحرب بآلاف من هذه الطائرة، ويعتقد أنه قد تبقى بضع مئات منها فقط جراء الخسائر المختلفة، حسبما قال الدكتور جاك واتلينج المتخصص بالشأن الروسي في المعهد الملكي البريطاني المتحد للخدمات البحثية، لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "BBC".
وقال أليكس كوكشاروف، محلل مخاطر يركز على روسيا وأوكرانيا لموقع Middle East Eye البريطاني: "بينما طوّرت روسيا طائرات مراقبة من دون طيار مُصنَّعة محلياً، إلا أنها تفتقر إلى قدرات إنتاج طائرات من دون طيار قتالية".
وأضاف: "مع خضوع معظم قطاع الصناعات الدفاعية الروسية حالياً للعقوبات الغربية، فإن قدرتها على ابتكار وتطوير وإنتاج أنواع جديدة من الأسلحة، بما في ذلك الطائرات المسيرة القتالية محدودة". ولدى روسيا دولتان فقط يمكن أن تلجأ إليهما "لسد فجوة القدرات" في الطائرات القتالية من دون طيار: الصين وإيران.
لكن الصين لديها علاقات اقتصادية وثيقة مع الولايات المتحدة، ولا تريد توريد طائرات من دون طيار مقاتلة، لأن ذلك قد يستدعي عقوبات أمريكية. ولذا من من الواضح أن روسيا التي تعاني من محدودية قدرات طائراتها المسيرة المحلية الصنع، وأيضاً قلة عددها مع استمرار المعارك، قررت اللجوء لطهران، في مواجهة سيل الأسلحة الغربية المتدفق للغرب.
وأدَّى الجمع بين سلاح الجو والمستشارين العسكريين الروس، جنباً إلى جنب مع القوات البرية الإيرانية في سوريا، إلى تحويل مسار الحرب السورية لصالح نظام بشار الأسد. وقال مارك كاتز، الأستاذ بجامعة جورج ماسون الأمريكية وخبير العلاقات الروسية في الشرق الأوسط، موقع Middle East Eye البريطاني: "لو كنتُ مكان الإيرانيين الآن سيكون عليّ الشعور بسعادة بالغة بأن أكون أنا وللمرة الأولى المدرب وليس المتدرب مع الروس".
ماذا ستفعل أوكرانيا حيال هذا التحدي الجديد؟
تطالب كييف حلفاءها الغربيين بتقديم أنظمة متخصصة لإسقاط الطائرات المسيرة الانتحارية قبل وصولها لأهدافها، وفي مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول، قالت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، خلال زيارة غير معلنة لمدينة أوديسا الأوكرانية، إن ألمانيا ستسلم أول نظام من بين 4 أنظمة دفاع جوي متطورة، من طراز "أي أر إي إس-تي" إلى أوكرانيا، في الأيام المقبلة، للمساعدة في التصدي لهجمات الطائرات المسيرة.
وقالت لامبرخت لقناة "إيه أر دي" التلفزيونية إنه "في غضون أيام سنقدم نظام الدفاع الجوي أي أر إي إس-تي الحديث للغاية"، وأضافت: "إنه مهم للغاية للتصدي للطائرات المسيرة بشكل خاص".
وكانت أمريكا والعديد من الدول الأوروبية قد زوّدت أوكرانيا بالأسلحة المتطورة منذ بدء الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية، في فبراير/شباط 2022، وكان لهذه الأسلحة دور كبير في إجبار القوات الروسية على الانسحاب من محيط العاصمة كييف بداية الحرب، إضافة إلى انسحابها من مناطق أخرى استراتيجية مثل خاركيف.
لكن يبدو أن حرب الطائرات الانتحارية رخيصة الثمن قد أدخلت الحرب الروسية الأوكرانية مرحلة جديدة لم يعرفها الغرب من قبل، خصيصاً أن الصواريخ الباليستية الروسية مكلفة بشكل كبير، ولا توجد مقارنة بين تكلفتها وتكلفة الطائرات الإيرانية البدائية.
ويبدو أن روسيا تلجأ لضربات الطائرات المسيرة الانتحارية، أو طائرات "كاميكازي"، لأنها البديل الأقل تكلفة، حيث تمطر موسكو بها العاصمة كييف، مستهدفة البنية التحتية، لا سيما التدفئة والكهرباء. ويدرك بوتين أنه مع حلول فصل الشتاء، يحتاج إلى محاولة إلحاق هذا الألم بالأوكرانيين في محاولة لحملهم على التراجع شرق البلاد، كما تقول مجلة foreign policy الأمريكية.
"ثورة" الطائرات المسيّرة الإيرانية
كان الجنرال كينيث ماكنزي جونيور، قائد القيادة المركزية الأمريكية، قد حذّر في أبريل/نيسان الماضي، من أنَّ "المنطقة تتحول إلى ساحة اختبار للطائرات من دون طيار بفعل إيران التي نشرت هذه الطائرات بحرية في الشرق الأوسط".
وجاءت اللحظة التي غيَّرت نظرة المنطقة إلى الطائرات من دون طيار في سبتمبر/أيلول 2019، عندما هاجمت إيران منشآت النفط السعودية؛ مما أسفر عن أضرار جسيمة في موقع لشركة أرامكو السعودية، أكبر شركة نفط في العالم، وتعطيل صادرات النفط من المملكة لعدة أشهر.
وأذهل النجاح الكبير للحرس الثوري الإيراني- الضربة المُنسّقة بالطائرات المُسيَّرة وصواريخ كروز على أهداف تبعد حوالي 1000 كيلومتر- خبراء عسكريين في إسرائيل والغرب. وبالنسبة للإيرانيين، لا يهم أنَّ العديد من طائراتهم المُسيَّرة لم تصل إلى أهدافها على ما يبدو. بل كان التأثير على الوعي أهم، كما تقول صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
ووفقاً لمسح نُشِر هذا العام على موقع Iran Primer، بدأ الإيرانيون في عام 2004 في نقل طائرات مُسيَّرة وقطع غيار إلى شركائها في 4 أجزاء على الأقل من الشرق الأوسط: لبنان والعراق واليمن وقطاع غزة. وهُرِّبَت كذلك طائرات من دون طيار إلى فنزويلا، التي ترتبط حكومتها بعلاقة صداقة مع إيران.
وقضت طهران سنوات عديدة في الاستثمار في تطوير القذائف والصواريخ في مختلف المجالات. لكن المشكلة هي أنَّ الصاروخ الباليستي ثقيل ومربك وغير مرن. صحيح أنه رادعٌ مهم، لكنه صاخب بعض الشيء، ولا يسمح بإنكار الهجوم مثلما يمكن مع الطائرات من دون طيار.
لكن مع وجود طائرات مُسيَّرة، "تصبح الأحلام أسهل"، حسبما يقول مصدر عسكري في إسرائيل. ويتأثر استخدام الإيرانيين للطائرات من دون طيار بما فعله الأمريكيون، والإسرائيليون تحديداً، معهم في وقت سابق، في ما يسمى بالحرب بين الحربين.
ومن زاوية التشغيل، الطائرات المُسيَّرة سهلة التشغيل نسبياً، وتتطلب أطقم إطلاق صغيرة وسهلة التنقل بين القطاعات والمؤسسات. إضافة إلى أنه من السهل تدريب الجنود على تشغيلها، ويمكن إطلاقها بطرق مختلفة ومن مجموعة متنوعة من المنصات.
ومن الناحية الاستراتيجية، يمكن مضايقة الخصم دون استفزاز ردٍّ قاسٍ يشعل حرباً. إلى جانب ذلك، الطائرات المُسيَّرة هي أيضاً بديل للطائرات المقاتلة الإيرانية، التي ببساطة غير موجودة، باستثناء طائرات الفانتوم الأمريكية القديمة التي يعود تاريخها إلى زمن الشاه.