في يناير/كانون الثاني 2005، كان محمود عباس -الذي بلغ من العمر آنذاك 70 عاماً- قد أطلق للتو حملته الانتخابية لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية. وعند وصوله إلى مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة، رفعه على الأكتاف حشد متحمس يبلغ عدده نحو 10 آلاف شخص. ورغم أنَّ عباس لم يتمتع بشخصية جذابة مثل سلفه ياسر عرفات، الذي توفي قبل شهرين حينها، لكنه قوبل بالترحيب باعتباره مصلحاً ورجل سلام.
وبعد بضعة أسابيع، فاز عباس، الذي يُشَار إليه عادةً بكنيته "أبو مازن"، بالرئاسة بأغلبية كبيرة. وأسعد فوز عباس، وهو مهندس رئيسي لعملية أوسلو للسلام، الإسرائيليين والأمريكيين؛ فعلى عكس عرفات، شجب أبو مازن بشدة عنف ما كانت آنذاك الانتفاضة الثانية المتراجعة، أو الانتفاضة الفلسطينية.
وأحاط الكثير من الأمل بمستقبله، ومستقبل فلسطين بشكل عام. لكن بعد ما يقرب من عقدين من الزمان، لم تعد اتفاقيات أوسلو تخاطب الواقع السياسي على الأرض. ولا تحظى حركة فتح التي يتزعمها أبو مازن ومنظمة التحرير الفلسطينية، المليئة بالفساد، إلا بدعم ضئيل بين الأجيال الشابة، والسلطة التي يشرف عليها تعمل مع إسرائيل لقمع شعبها، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وترسل السلطة الفلسطينية قواتها لملاحقة قادة النقابات ونشطاء وصحفيين، وحتى المواطنين العاديين الذين تجرأوا على كتابة منشورات انتقادية على الشبكات الاجتماعية، بينما عزز عباس على مر السنين سيطرته على الهيئات المؤسسية وتهميش البرلمان الفلسطيني المنحل. ونُقِلت سلطات البرلمان التشريعية رسمياً في عام 2018؛ ما سهل تعيين حلفاء في المناصب العليا في منظمة التحرير الفلسطينية.
ويبلغ الرئيس من العمر الآن 87 عاماً، وصحته متردية. ودخل إلى المستشفى مرتين هذا الصيف، وبين الحين والآخر ينشر الإنترنت شائعات عن وفاته. وهو آخر عضو على قيد الحياة من الجيل المؤسس للحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى حد تعبير كتاب سيرته الذاتية، أبو مازن "عاش تاريخ شعبه"، وستمثل وفاته لحظة مهمة في القصة الفلسطينية.
السؤال المحير في فلسطين
لكن ما سيأتي بعد ذلك هو سؤال محير؛ إذ لم تُعقَد انتخابات فلسطينية منذ 16 عاماً، ولم يعين عباس قط خليفة رسمياً. وقلة هم الذين يؤمنون بنجاح الاتفاق الذي تُوصِّل إليه بوساطة في الجزائر الأسبوع الماضي لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في غضون عام واحد.
والآن، في نهاية عهد مخيب للآمال، لا يزال من غير الواضح ما سيحدث في الأيام والأسابيع التي تلي وفاته. يمكن أن تحدث عدة سيناريوهات -بعضها عنيف-، ما يجعل الدولة الفلسطينية، التي كافح من أجلها حين كان أصغر، بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى.
وفي حالة استقالة أبو مازن أو وفاته، ينص القانون الفلسطيني على أن يصبح رئيس مجلس النواب رئيساً مؤقتاً ويصدر مرسوماً بالانتخابات خلال 60 يوماً. ومع ذلك، فإنَّ الانقسام بين فتح وحماس عام 2006 يعني أنَّ هذا شبه مستحيل، ولا توجد آليات مؤسسية واضحة لإدارة الانتقال.
وبدلاً من ذلك، من المتوقع على نطاق واسع أن يتولى حسين الشيخ، مؤيد عباس، الذي عُيّن في مايو/أيار أميناً عاماً للجنة التنفيذية للسلطة الفلسطينية، السلطة ورئاسة منظمة التحرير الفلسطينية. وكان الرجل البالغ من العمر 60 عاماً مسؤولاً سابقاً عن التنسيق مع إسرائيل، ومتهماً بالفساد والاعتداء الجنسي -وهي مزاعم نفاها-، ولا يحظى بشعبية كبيرة.
وقال حسين الشيخ، في مقابلات، إنه يجب انتخاب الزعيم الفلسطيني المقبل، لكن فقط إذا سمحت إسرائيل لسكان القدس الشرقية المحتلة بالتصويت، وهو أمر غير مرجح. كما شدد على أهمية علاقة السلطة بإسرائيل، وفُسِّرَت زيارة لواشنطن في وقت سابق من هذا الشهر على أنها دعم البيت الأبيض للشيخ لخلافة أبو مازن.
خلفاء محتملون
ويوجد العديد من المتنافسين الآخرين على المنصب الأعلى داخل حركة فتح شديدة الانقسام، بما في ذلك الموالي لعباس، ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات العامة، ومحمود العالول، نائب رئيس فتح.
ولا يزال أحد المنافسين اللدودين، مروان البرغوثي، الذي يقضي 5 أحكام بالسجن مدى الحياة في سجن إسرائيلي، يحظى بشعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني، وأعلن أنه سيرشح نفسه للرئاسة من زنزانته في انتخابات 2021 الملغاة. وصار محمد دحلان، وهو عدو آخر يعيش في منفى اختياري في أبوظبي، فاعلاً إقليمياً مؤثراً للغاية، ويُعتقَد أنه يحتفظ بصلات مع فصائل مسلحة في كل من الضفة الغربية وغزة.
وقد يؤدي الصراع على السلطة داخل الحزب إلى تأجيج التوترات التي تجتاح الضفة الغربية؛ إذ تتصادم الفصائل الفلسطينية المُشكّلة حديثاً مع القوات الإسرائيلية وقوات السلطة. ومن الاحتمالات الواردة في حالة حدوث فراغ كبير في السلطة، اندلاع حرب أهلية أو انتفاضة على غرار الربيع العربي ضد السلطة، أو انتفاضة ثالثة ضد إسرائيل.
كيف تنظر إسرائيل إلى الأوضاع؟
وبحسب الصحيفة البريطانية تُجهِّز إسرائيل نفسها لجميع هذه السيناريوهات، على الرغم من عدم وجود تقارير عن إجرائها تدريبات عسكرية منذ عام 2018. ووفقاً لصحيفة Yedioth Ahronoth الإسرائيلية، فإنَّ خطة الجي الإسرائيلي التي تحمل الاسم الرمزي "غروب الشمس" تتعامل مع النتائج التي تلي وفاة عباس مباشرة، بما في ذلك نشر قوات كبيرة في جميع أنحاء الضفة الغربية والعمليات المحتملة لإنقاذ إسرائيليين.
وصُمِّمَت خطة ثانية، يُشار إليها باسم "لعبة صراع العروش"، للوضع الذي تحاول فيه الفصائل الفلسطينية المسلحة والفصائل السياسية المتنافسة السيطرة على مناطق مختلفة من الضفة الغربية.
وتقول الدكتورة حنان عشراوي، التي استقالت من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في عام 2020 لأنَّ النظام السياسي بحاجة إلى "تجديد وتنشيط"، إنَّ التركيز على ما سيحدث "في اليوم التالي لحكم أبو مازن" يحجب حقيقة أنَّ مشروعه السياسي فشل بالفعل.
وأضافت: "الوضع على منحدر زلق مستمر. وهذا ليس خطأ عباس بالكامل؛ فنحن نعيش في ظل احتلال قاسٍ متعمد، وبُذِل كل جهد لإفشال السلطة الفلسطينية وتقديمها على أنها مقاول من الباطن من أجل تحقيق الأمن الإسرائيلي".
وتابعت: "كلما كان النظام أضعف، انغلق على نفسه وصار أكثر قمعاً. لا أعرف الشكل الذي سيتخذه المستقبل… يمكن أن يكون سلمياً. لكن كلما طال الوقت لرؤية تغيير حقيقي، تزداد احتمالية العنف. وإذا لم تسمح بالطرق الديمقراطية السلمية لنقل السلطة، سيجد الناس وسائل أخرى للتعبير عن أنفسهم".
حتى لو كان الانتقال إلى حقبة ما بعد أبو مازن سلساً، وحتى لو أُجرِيَت انتخابات حرة ونزيهة في الوقت المناسب، التي تنتصر فيها فصائل فتح الإصلاحية أو الأحزاب السياسية الجديدة، سيظل أمام الإدارة المقبلة مشكلات كبيرة. وستبقى الانقسامات العميقة في السياسة الفلسطينية، وطبيعة علاقة السلطة بإسرائيل، من القضايا العالقة.