بعد الإعلان عن موافقة لبنان وإسرائيل على مسودة الاتفاق لترسيم حدودهما البحرية، متى تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ؟ ومن الرابح الأكبر؟ وهل الاتفاق "منصف ودائم"، أم أن الأزمة قد تعود للمربع صفر مرة أخرى؟
كانت المفاوضات غير المباشرة بين بيروت وتل أبيب، والتي قادتها وتوسطت فيها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، قد وصلت إلى "نهاية إيجابية"، حسبما أعلن الجانبان، الأربعاء 12 أكتوبر/تشرين الأول، ليبدو أن أكثر من عقد من التوترات في البحر بين لبنان وإسرائيل قد انتهت إلى غير رجعة.
قالت الحكومة الإسرائيلية، بزعامة يائير لابيد، إن المناقشات في الكنيست (البرلمان) ستستغرق أسبوعين على الأكثر، ثم يجتمع مجلس الوزراء لإعطاء الموافقة النهائية على الاتفاق، وفي لبنان ترددت الرسالة نفسها، ما يشير إلى أن الاتفاقية قد تصبح رسمية قبل نهاية الشهر الجاري.
متى يدخل الاتفاق حيز التنفيذ؟
بحسب المسودة، التي اطلعت عليها رويترز، "يدخل هذا الاتفاق حيز التنفيذ في التاريخ الذي تُرسل فيه حكومة الولايات المتحدة إشعاراً يتضمن تأكيداً على موافقة كل من الطرفين على الأحكام المنصوص عليها في هذا الاتفاق".
وفي اليوم الذي ترسل فيه واشنطن هذا الإشعار، سيرسل لبنان وإسرائيل في نفس الوقت إحداثيات متطابقة إلى الأمم المتحدة تحدد موقع الحدود البحرية.
الاتفاق يمثل أول انفراجة دبلوماسية كبيرة بين لبنان وإسرائيل منذ سنوات، لكنه لا يزال محدود النطاق نسبياً، ولا يشمل حلاً للنزاع طويل الأمد حول الحدود البرية بينهما، كما أنه ينص على إبقاء الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ على ما هو عليه، بما في ذلك على طول خط العوامات البحرية المثير للجدل.
وجاء في المسودة: "يعتزم الطرفان حل أي خلافات بشأن تفسير هذا الاتفاق وتطبيقه عن طريق المناقشات التي تقوم الولايات المتحدة بتيسيرها"، ما يعني استمرار دور الضامن لواشنطن.
واجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر، الأربعاء، وأعطى موافقة مبدئية على الاتفاق. وقال مسؤولون إنهم سيقدمونه على الأرجح للمراجعة البرلمانية لمدة أسبوعين، يليها عقد اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي بالكامل للموافقة النهائية، وبعد ذلك يمكن لواشنطن أن تعلن دخول الاتفاق حيز التنفيذ. وترغب حكومة لابيد في إتمام الاتفاق قريباً، لكنها نفت الربط بين تلك الخطوة وبين الانتخابات العامة المقررة أول نوفمبر/تشرين الأول المقبل.
أما في لبنان، فتوقيع الرئيس على مثل هذا النوع من الاتفاقيات حتمي حتى تدخل حيز التنفيذ، وعلى الرغم من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون دون الاتفاق على من يخلفه، وهو الوضع الذي قد يستمر شهوراً، فتصريحات عون والمسؤولين الحاليين في بيروت تعني أن الرئيس قد وقع بالفعل، أي أن الاتفاق ينتظر التوقيع الإسرائيلي ليدخل حيز التنفيذ.
وكان عون قد أعلن، الخميس 13 أكتوبر/تشرين الأول، قبول بلاده لاتفاق الحدود البحرية الذي توسطت فيه الولايات المتحدة مع إسرائيل، قائلاً إن المحادثات وصلت إلى "نهاية إيجابية"، واصفاً الاتفاق بأنه يمثل "إنجازاً تاريخياً" استعاد فيه لبنان 860 كيلومتراً مربعاً من الأراضي البحرية المتنازع عليها، لكنه أصرّ على أنه لا يمهد الطريق لـ"أي نوع من أنواع التطبيع".
ماذا "ربح" لبنان من الاتفاق؟
الاتفاق لا يركز بشكل عام على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بشكل كامل، وإنما يتعلق الأمر بمنطقة تبلغ مساحتها حوالي 860 كيلومتراً مربعاً، فيما يُعرف باسم "المنطقة الاقتصادية الحصرية" لكل دولة، وتقع هذه المنطقة خارج الحدود البحرية ولكن للدولة حقوق خاصة لما بداخلها.
وتعطي الصفقة الجديدة للبنان السيطرة على حقل قانا للغاز، في وسط المنطقة المتنازع عليها، لكنها تعطي إسرائيل نسبة من أي أرباح مستقبلية من حقل قانا، تبلغ نحو 17% من الأرباح، بحسب الوثائق المسربة لمسودة الاتفاق. بينما تسيطر إسرائيل على حقل غاز كاريش، الذي يقع جنوباً، وهو أقرب إلى حقلي الغاز تامار وليفياثان المملوكين لإسرائيل.
وعلى الرغم من أن لا أحد يعرف على وجه التحديد قيمة كمية الغاز الموجودة في حقل قانا، إلا أنها تقدر حاليًا بحوالي 3 مليارات دولار (3.08 مليار يورو). وقد يدر ذلك على لبنان ما بين 100 مليون دولار (103 مليون يورو) و200 مليون دولار في السنة، بحسب تقرير لموقع DW الألماني.
لبنان لا يزال بعيداً عن إنتاج أي غاز من حقل قانا، إذ أبرمت بيروت اتفاقاً مع شركة الطاقة الفرنسية العملاقة "توتال" لاستخراج الغاز من الحقل، ولكن هناك حاجة إلى مزيد من أعمال الاستكشاف والبنية التحتية قبل أن يجني لبنان من حقل قانا أي أموال، ولن يحدث هذا على الأرجح حتى قرب نهاية هذا العقد.
مايك عازار، المحلل المقيم في واشنطن والمحاضر السابق في الاقتصاد الدولي في كلية جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، كتب على تويتر: "هذه الصفقة لا تغير من الأمور بشكل كبير فيما يتعلق باكتشاف واستغلال احتياطيات النفط والغاز في لبنان … [كان الاتفاق] في نهاية المطاف أكثر ربحية لإسرائيل. ما حصل عليه لبنان هو تجنب المشاكل التي لا يستطيع التعامل معها في الوقت الحالي".
جذور النزاع على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ترجع إلى عام 2007، عندما وقَّعت الأولى اتفاقية فتح الحدود البحرية مع قبرص، وهو ما فتح الباب أمام احتمال تعديل حدود المنطقة البحرية بين إسرائيل ولبنان. ورغم أن البرلمان القبرصي صدَّق على الاتفاقية عام 2009، فإن لبنان لم يصدّق عليها حتى الآن.
وفي عام 2010، وقَّعت إسرائيل وقبرص اتفاقية تنفيذية لتحديد المنطقة الاقتصادية الحصرية بينهما، واعتمدت قبرص فيها على اتفاقيتها مع لبنان عام 2007 في تحديد الحد الشمالي لحدودها البحرية.
وكنتيجة لهذه الاتفاقية، حدث تداخُل بين الحدود البحرية الشمالية التي تقول إسرائيل إنها حدودها من جهة وبين الحدود البحرية الجنوبية للبنان من جهة أخرى، وانتقد لبنان الاتفاقية البحرية بين إسرائيل وقبرص، معتبراً إياها اعتداءً على حقوقه السيادية الخالصة في تلك المنطقة.
ورغم ذلك قامت إسرائيل بإيداع تلك الإحداثيات البحرية المتنازع عليها لدى الأمم المتحدة على أنها حدود تل أبيب البحرية، وكان ذلك في يوليو/تموز 2011. وتبلغ مساحة المنطقة المتنازع عليها 860 كيلومتراً مربعاً، يوجد فيها حقل كريش للغاز الطبيعي.
وترجع جهود الوساطة الأمريكية في الملف إلى بداية الأزمة، وكان فريدريك هوف، الدبلوماسي الأمريكي الذي كان مكلفاً بالوساطة بين إسرائيل ولبنان من عام 2010 حتى 2012، قد قال لموقع ميدل إيست آي البريطاني: "قبل أكثر من 10 سنوات، قضيت أنا وفريقي في الخارجية الأمريكية وقتاً طويلاً للغاية لدراسة كيف توصل لبنان وإسرائيل إلى تلك الإحداثيات، واقتنعنا أن كلاً منهما لديه وجهة نظر سليمة، رغم استخدامهما معايير مختلفة".
ماذا "ربحت" إسرائيل؟
الصفقة تعني أن شركة اينيرجين، المتعاقدة مع إسرائيل، يمكنها أن تبدأ العمل في حقل كريش على الفور تقريباً دون خوف من التعرض للهجوم، ومن المفترض أن تكون إسرائيل قادرة على البدء في جني الأموال من حقل الغاز الطبيعي في غضون أسابيع.
ومن الناحية السياسية، يرى لابيد أن الصفقة ستعزز الاستقرار الإقليمي. مها يحيى، مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط ومقره بيروت، أكدت في تعليق لها هذا الأسبوع لموقع DW أن "الاتفاق يعني أن البلدين لديهما الآن مصالح اقتصادية في الحفاظ على حالة الهدوء على طول مناطقهما الحدودية المشتركة" بحسب ما قالت. وربما يكون هذا هو الأهم بالنسبة لإسرائيل.
من جانبه، أشار هيكو ويمين، المحلل في مجموعة الأزمات إلى أن حقل كريش من الناحية المالية هو أصغر حقول الغاز التي تعمل عليها إسرائيل. وأوضح أنه "في حالة ما إذا كان الأمر قد وصل إلى مرحلة الصدام الفعلي لكانت البنية التحتية [لحقول الغاز] بأكملها معرضة للخطر"، وأضاف: "هذا السيناريو غير مطروح الآن. لذا، بالطبع، فإن ذلك يعد فوزاً مهماً من الناحية الأمنية".
لكن بشكل عام يرى أغلب المحللين أن إسرائيل أيضاً تخلت على الأرجح عن أراضٍ أكثر مما أرادت في البداية، إلا أنها ستستفيد أكثر على المدى القصير من مبيعات الغاز في ظل ظروف أمنية أفضل. على الجانب الآخر، حصل لبنان على أرض، لكنه لن يتمكن من استغلالها على الفور.
لكن ماذا لو فاز نتنياهو؟
موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو الرافض للاتفاق واضح ومعلَن، وهو ما يطرح تساؤلات مهمة بشأن ما قد يحدث إذا ما فاز التكتل اليميني الذي يقوده في الفوز بانتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، ومن ثم العودة إلى رئاسة الحكومة.
فقد اتهم نتنياهو حكومة لابيد "بالاستسلام لابتزاز حزب الله"، وأقسم رئيس الوزراء الأطول بقاء في المنصب في إسرائيل على إلغاء الصفقة، إذا عاد إلى السلطة بعد الانتخابات المقبلة.
وفي لبنان، قال محللون في قطاع الطاقة إن التفاصيل الخاصة ببلدهم تترك الكثير للنقاش بشأنه. وأشار عازار إلى أنه من الواضح أنه سيتم التفاوض على العديد من التفاصيل في المستقبل. وأضاف أن هناك أيضاً حقيقة أنه عندما يتعلق الأمر بتسوية هذه الأمور، فإن لبنان وإسرائيل لا يتحدثان مع بعضهما البعض بشكل مباشر، مما يترك شركات الطاقة في هذه المهمة الصعبة.
الدبلوماسي الأمريكي عاموس هوكشتاين، الذي يتنقل بين البلدين، لأن لبنان وإسرائيل لا يتحدثان رسمياً مع بعضهما البعض، وتمت الصفقة عبر سلسلة من الرسائل من البلدين إلى الولايات المتحدة والأمم المتحدة، وصف الاتفاق بأنه "تاريخي".
ويتفق معه مراقبون، حيث يشيرون إلى أن الصفقة تشكل سابقة تاريخية، وقال ويمين لـDW: "السبب في ذلك أن إسرائيل وأحد جيرانها – الجار الذي لا يعترف بإسرائيل رسمياً – توصلا إلى حل بناء للصراع"، وأضاف: "بالطبع، إنهم لا يتحدثون مباشرة مع بعضهم البعض… لكن في النهاية، وجدوا حلاً دبلوماسياً يرضيهم. وهذا بالتأكيد حدث تاريخي".