كشّرت روسيا عن أنيابها وأمطرت مدن أوكرانيا بالصواريخ لأول مرة منذ اندلاع الحرب، لكن أمريكا وحلفاءها ردّوا بإرسال أنظمة دفاع جوي متقدمة لكييف، فهل "بدأت" النهاية بأسرع مما يتخيل البعض؟
كانت عدة انفجارات قد هزّت العاصمة الأوكرانية كييف ومدن لفيف وترنوبل ودنيبرو وغيرها، صباح الإثنين 10 أكتوبر/تشرين الأول، في أعنف هجوم جوي تشنه روسيا منذ بداية الحرب، يوم 24 فبراير/شباط الماضي، وذلك بعد ساعات من اتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا بتدبير "الانفجار الإرهابي"، الذي ألحق أضراراً بجسر كيرتش، الذي يربط بين روسيا وشبه جزيرة القرم.
الرسالة الروسية من القصف الجوي الأعنف موجهة بطبيعة الحال إلى الحكومة الأوكرانية أولاً، وثانياً إلى داعميها الغربيين بزعامة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فكيف جاء الرد؟ وماذا يعني هذا الرد المتحدي بالنسبة لمسار الحرب؟
رسالة بوتين "الانتقامية" والرد الأوكراني-الغربي
لم يكن استهداف جسر القرم المرة الأولى التي "تتجاوز" فيها أوكرانيا "الخطوط الحمراء"، إذ سبقه أيضاً عمليات أخرى داخل روسيا، أبرزها اغتيال ابنة ألكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي الملقب في الغرب بأنه "عقل بوتين"، لكن الانفجار، السبت 8 أكتوبر/تشرين الأول، أصاب شيئاً أكثر أهمية بكثير من الجسر الاستراتيجي، وهو بوتين نفسه، بحسب تحليلات غربية.
وهكذا جاءت رسالة بوتين "انتقامية وشاملة"، فيما يوصف بأنه بداية مرحلة "حرب بلا قواعد"، أي توسيع الحرب بما يشمل استهداف البنية التحتية والمنشآت المدنية الأوكرانية، ومن الممكن أن يشمل الرد حرباً خفية روسية ضد الولايات المتحدة وحلفائها، سواء بتكثيف الحرب السيبرانية، أو استهداف المنشآت المدنية في الدول الأوروبية دون تبني ذلك.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتهم روسيا بمحاولة محو بلاده "من على وجه الأرض"، وأضاف عبر تطبيق المراسلة تليغرام: "إنهم يحاولون تدميرنا ومحونا من على وجه الأرض… تدمير مواطنينا الذين ينامون في منازلهم في (مدينة) زابوريجيا. قتل الأشخاص الذين يذهبون للعمل في دنيبرو وكييف. صافرات الإنذار لا تهدأ في جميع أنحاء أوكرانيا، هناك صواريخ تسقط، للأسف هناك قتلى وجرحى".
أجرى زيلينسكي اتصالاً مع نظيره الأمريكي بايدن، طلب خلاله تزويد كييف "فوراً" بأنظمة دفاع جوي متطورة، وهذا بالتحديد ما حصلت عليه كييف. إذ قال البيت الأبيض تعقيباً على المكالمة الهاتفية بين الرئيسين إن "الرئيس بايدن تعهد بمواصلة تزويد أوكرانيا بالدعم اللازم للدفاع عن نفسها، بما يشمل أنظمة دفاع جوي متقدمة".
وأضاف البيت الأبيض أن بايدن أبلغ زيلينسكي أن الولايات المتحدة وحلفاءها وشركاءها سيواصلون فرض عقوبات على روسيا، "ومحاسبتها على جرائم الحرب والفظائع التي ترتكبها، وتزويد أوكرانيا بالمساعدات الأمنية والاقتصادية والإنسانية".
مكالمة أخرى بين بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتز، نتج عنها موافقة برلين على إرسال أنظمة دفاع جوي متقدمة، كانت تطلبها كييف منذ بداية الحرب، وذلك بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
ستُسلِّم ألمانيا أول 4 أنظمة دفاع جوي متقدمة إلى أوكرانيا "في الأيام القليلة المقبلة"، وتتكون صواريخ "إيريس تي إس إل إم" من 8 صواريخ أرض-جو محمولة على شاحنات، ويمكنها إسقاط الطائرات أو الصواريخ على مدى يصل إلى 25 ميلاً (40 كيلومتراً) وارتفاع 12 ميلاً (19 كيلومتراً).
وتحدث شولتز عن تلك البطاريات المُوجّهة بالرادار، والتي تبلغ تكلفتها التقديرية 140 مليون يورو للقطعة الواحدة، قائلاً إنها "ستُمكن أوكرانيا من حماية مدينة بأكملها من الغارات الجوية الروسية".
تحذيرات روسية مباشرة لأمريكا والغرب
ليس سراً أن الحرب الطاحنة على الأراضي الأوكرانية هي نتاج لأزمة جيوسياسية بين روسيا والغرب، الساعي لضم كييف إلى حلف الناتو، فيما تعتبره موسكو تهديداً لأمنها القومي، ومنذ اندلاع المواجهة، في فبراير/شباط الماضي، يقدم الغرب بقيادة أمريكا مساعدات عسكرية ضخمة للأوكرانيين، مع المحافظة في الوقت نفسه على عدم تجاوز خطوط حمراء معينة؛ تفادياً لعدم تحول الأمور إلى حرب مباشرة بين موسكو وواشنطن.
ففي البداية رفضت واشنطن تزويد كييف بطائرات حربية أو فرض منطقة حظر طيران تغطي المناطق الغربية من أوكرانيا، أو تزويد الأوكرانيين بأنظمة صواريخ بعيدة المدى، حتى يتجنب الأمريكيون وحلفاؤهم في الاتحاد الأوروبي مخاطر تحول الأمور إلى حرب مباشرة مع الدولة الأكثر تسليحاً نووياً في العالم، وثاني أقوى جيوش الأرض؛ أي روسيا.
اشتكى زيلينسكي طويلاً من هذا الموقف الغربي، وكادت الحرب أن تتوقف فعلاً بعد توصل موسكو وكييف إلى اتفاق سلام قبل أشهر، لكن بايدن وحلفاءه أقنعوا الرئيس الأوكراني بمواصلة الحرب، وهو ما حدث بالفعل، ومعه ارتفعت وتيرة المساعدات الغربية لكييف بصورة لافتة، وتوقفت شكاوى زيلينسكي وتحولت إلى نبرة متحدية، وثقة في تحقيق الانتصار على الدب الروسي.
ثم بدأ الأوكرانيون بالفعل بمساعدة الغرب عسكرياً ولوجستياً ومعلوماتياً، في تحقيق انتصارات لافتة في ميدان المعركة، ليجبروا القوات الروسية على الانسحاب من خاركيف، ثم تواصلت تلك الضغوط الأوكرانية، ولا تزال، ما وضع الجنرالات الروس في مرمى نيران الانتقادات الحادة داخلياً، وأصبح بوتين في مأزق حقيقي.
لم تنجح خطوة بوتين التصعيدية في إجراء "الاستفتاءات" وضم 4 مدن أوكرانية رسمياً إلى أراضي الاتحاد الروسي في إقناع زيلينسكي وداعميه الغربيين بفتح قنوات اتصال، لإيجاد مخرج دبلوماسي لإنهاء الحرب، بل رفع الرئيس الأوكراني راية التحدي، وأعلن عدم التفاوض مطلقاً مع موسكو، ما دام بوتين رئيساً، ووقع قانوناً رسمياً بهذا المعنى.
والثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول، وجَّه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف تهديداً مباشراً للولايات المتحدة والناتو، مفاده أن موسكو لن تصمت على "تدخل الغرب المتزايد في أوكرانيا".
ورغم إقرار ريابكوف بأن الدخول في صراع مباشر مع الولايات المتحدة وحلف الناتو ليس في مصلحة موسكو، إلا أنه قال "نحذر ونأمل أن يدركوا خطر التصعيد غير المنضبط في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى".
تحذيرات ريابكوف جاءت بعد ساعات من قول المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن روسيا منفتحة على الدبلوماسية، لكن تشجيع واشنطن "للطابع العدواني" لأوكرانيا يعقد الجهود الدبلوماسية لحل الصراع.
وكتبت زاخاروفا على موقع الوزارة على الإنترنت "نكرر مرة أخرى، للجانب الأمريكي بوجه خاص: المهام التي نحددها في أوكرانيا سيتم إنجازها.
"روسيا منفتحة على الدبلوماسية والشروط معروفة جيداً. وكلما طال أمد تشجيع واشنطن لطابع كييف العدواني، وتشجيع الأعمال الإرهابية للمخربين الأوكرانيين بدلاً من منعها، كان البحث عن حلول دبلوماسية أكثر صعوبة".
هل يمكن أن تنهزم روسيا فعلاً؟
على الجانب الآخر يصر المسؤولون في إدارة جو بايدن على أن الولايات المتحدة ستواصل إمداد أوكرانيا بالأسلحة، وقال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، لشبكة (إيه.بي.سي): "ما يمكنني قوله هو أن السيد بوتين هو من بدأ هذه الحرب والسيد بوتين هو من بإمكانه أن ينهيها اليوم، ببساطة عن طريق نقل قواته إلى خارج البلاد".
واتهم كيربي الرئيس الروسي بعدم إظهار اهتمام بالتوصل لحل دبلوماسي، مضيفاً: "على العكس… باستدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط ومن خلال ضمه سياسياً أو على الأقل محاولة ضم أربع مناطق أوكرانية، فقد أظهر كل دلالة على إصراره على التصعيد، لهذا السبب وبمنتهى الصراحة نتواصل كل يوم تقريباً مع الأوكرانيين، وسنستمر في إمدادهم بالمساعدات الأمنية".
الولايات المتحدة قدمت، حتى الآن، مساعدات عسكرية لأوكرانيا تقدر بأكثر من 16.8 مليار دولار، وها هي ألمانيا قد تخلت عن ترددها، وقررت إرسال أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، رغم أن كييف كانت قد طلبت تلك الأنظمة من الشركة الألمانية المصنعة لها قبل أشهر.
وترسم هذه التطورات صورة مقلقة للغاية بشأن ما هو قادم بطبيعة الحال، فبايدن وباقي الزعماء الغربيين رفعوا راية التحدي، وقرروا مواصلة الحرب الأوكرانية حتى هزيمة الروس وطردهم إلى ما قبل حدود 24 فبراير/شباط، بل يؤكد زيلينسكي أن "تحرير القرم"، التي ضمتها روسيا عام 2014، هدف رئيسي أيضاً.
لكن هذا السيناريو يبدو غير مرجح من الأساس، بإجماع المحللين السياسيين والعسكريين الغربيين أنفسهم، وبحكم المنطق العسكري البسيط، فالجيش الروسي ثاني أقوى جيوش العالم، وتمتلك روسيا الترسانة النووية الأقوى عالمياً، ومن غير المتصور أن يقبل بوتين ذلك السيناريو دون اللجوء لما لديه من "أنظمة تسليح استراتيجية"، كما قال من قبل.
فعلى الرغم من الانتصارات الميدانية الأوكرانية، الواضح أن هناك ثقة روسية في تحقيق الانتصار في نهاية المطاف، والأغلب أن بوتين لن يتراجع أو يقبل بهزيمة عسكرية؛ لأن هذا ببساطة يعني نهايته شخصياً.
هل تستعد إدارة بايدن لحرب "نهاية العالم"؟
الغريب هنا هو أن بايدن كان قد قال، قبل أيام قليلة، إن تهديد بوتين باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا يجعل العالم أقرب إلى معركة "أرماجيدون" (معركة بين الخير والشر ينتهي عندها العالم) للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية.
وأضاف الرئيس الأمريكي أن احتمال الهزيمة يمكن أن يجعل بوتين يائساً بما يكفي لاستخدام أسلحة نووية، معتبراً أنها أكبر مخاطرة منذ المواجهة بين الرئيس الأمريكي جون كنيدي والرئيس السوفييتي نيكيتا خروشوف، بسبب الصواريخ الروسية في كوبا في عام 1962.
وقال بايدن في نيويورك "لم نواجه احتمال اندلاع أرماجيدون منذ كنيدي وأزمة الصواريخ الكوبية". ومضى قائلاً "لأول مرة منذ أزمة الصواريخ الكوبية لدينا تهديد مباشر باستخدام الأسلحة النووية، إذا ظلت الأمور على نفس المسار الذي تمضي فيه. (بوتين) لا يمزح عندما يتحدث عن استخدام محتمل لأسلحة نووية تكتيكية أو أسلحة بيولوجية أو كيماوية، لأنه يمكن القول إن أداء جيشه متراجع بشكل ملحوظ".
وبعد هذا الحديث الخطير من جانب بايدن، ظهرت تقارير إعلامية تتحدث عن شراء الحكومة الفيدرالية الأمريكية أدوية علاج مضادة للتسمم الإشعاعي بقيمة 290 مليون دولار، بحسب ما أعلنته وزارة الصحة الأمريكية صباح الثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول.
الدواء هو نيبليت، المصمم لعلاج المرضى الذين يعانون من التعرض الحاد للإشعاعات الضارة، وهو ما يحدث عندما يتعرض الشخص لجرعة عالية من الإشعاع تتخلل الجسم بالكامل، وتصل إلى الأعضاء الداخلية خلال ثوان قليلة، فيعمل نيبليت على تحفيز الجهاز المناعي للتصدي للآثار القاتلة لذلك التعرض، بحسب بيانٍ لوزارة الصحة، نشرته مجلة Business Insider.
ورفضت وزارة الصحة الأمريكية التعليق على سؤال لرويترز بشأن علاقة هذا المخزون من العلاج باحتمال اندلاع مواجهة نووية بين موسكو وواشنطن، ولفتت الوزارة إلى أن هذا الإجراء يتم بشكل دوري منذ عام 2004، في إطار قانون الدرع البيولوجي الصادر حينها، والهادف إلى الاستعداد لأي طوارئ بيولوجية أو كيماوية أو نووية.
على أية حال، سارع البيت الأبيض إلى التخفيف من وقع تصريحات بايدن بشأن "حرب نهاية العالم"، حيث قال كيربي إن الولايات المتحدة ليس لديها أي مؤشر على أن بوتين اتخذ قرار استخدام الأسلحة النووية، وليس هناك أي داع لتغيير الموقف الاستراتيجي الأمريكي.
وفسر كلام بايدن، المشهور بكونه ماكينة "زلات اللسان"، قائلاً: "الرئيس كان يشير إلى الاحتمالات عالية الخطورة التي يتم تناولها الآن.. عندما تكون لديك قوة نووية حديثة، وقائد هذه القوة النووية الحديثة على استعداد لاستخدام خطاب غير مسؤول بالطريقة التي فعلها السيد بوتين".
لكن بطبيعة الحال أثار بيان وزارة الصحة الأمريكية بشأن تخزين علاج مضاد للإشعاع كثيراً من التساؤلات، حتى وإن كان الإجراء اعتيادياً، لكن المؤكد أن التوقيت ليس كذلك.
فماذا لو وجد بوتين نفسه قريباً من الهزيمة فعلاً؟ قليلون هم من يعتقدون أن الرئيس الروسي لن يلجأ إلى "الخيار النووي"، فهل تستعد إدارة بايدن لهذا السيناريو، الذي يبدو أنه قد "بدأ" بالفعل؟ الأيام القليلة المقبلة قد تحمل الإجابة.