تزداد الشواهد التي تكشف عن وجود توتر أو تدهور في العلاقات بين القاهرة وأبوظبي يوماً بعد يوم. أسباب الخلافات المصرية الإماراتية لا ترتبط بملف واحد بعينه، بل هي نتاج اختلاف في المصالح في عدة ملفات سياسية واقتصادية إقليمية.
"عربي بوست" حاول تتبع أسباب هذا التدهور منذ بداياته وإلى أي مرحلة وصل بالفعل.
الدعم مقابل الاستحواذ.. الملف الاقتصادي
نبدأ هنا من آخر التطورات والشواهد. فقد اعترف مسؤول مطلع في الحكومة المصرية في اتصال مع "عربي بوست"، بأن العلاقات بين مصر والإمارات بلغت درجة "التململ" من جانب القاهرة، على حد وصفه.
هذا التململ من القاهرة جاء -حسب المصدر- بسبب الضغوط المتزايدة التي بدأت أبوظبي في وضعها على كاهل النظام المصري في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ عام 2019، حين تحول الدعم المطلق الذي وفرته الإمارات للرئيس السيسي ونظامه منذ نجاحه في الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في صيف 2013، إلى دعم مشروط بشروط صعبة تكلف النظام السياسي المصري فقدان بعض من هيبته السياسية أمام الشعب والمعارضين.
وأشار المصدر إلى أن أكثر ما يقلق القاهرة هو تحول الجانب الإماراتي من الدعم الاقتصادي والمالي لمصر إلى نظام الدعم مقابل الاستحواذ، أي أن القاهرة عليها بيع حصص تمتلكها لشركات ناجحة في قطاعات معينة لشركات إماراتية تمثل في أغلب الأحوال ستاراً لصندوق الاستثمار الإماراتي الذي يعد الذراع الاقتصادية لحكومة أبوظبي.
وأضاف المصدر أن الأمر الذي تسبب في ضيق المسؤولين المصريين من الإمارات هو إصرارها على شراء حصص في شركات معينة في مجالات معينة، وهو أمر حذرت تقارير لجهات سيادية مصرية من استمراره بدعوى أنه يمثل خطراً على السيادة المصرية على المدى البعيد.
القطاع الطبي.. استحواذ إماراتي خطر
وتمتلك الشركات الإماراتية -بحسب تقارير إعلامية– 15 مستشفى، ونحو 100 معمل تحاليل ومركز أشعة، فيما تتحكم في إنتاج الأدوية في سوق تقدر قيمتها بحوالي 45 مليار دولار.
وسبق أن أعلنت مجموعة "ألاميدا" للرعاية الصحية الشريك مع مجموعة "الإمارات للرعاية الصحية"، ضخ 5 مليارات جنيه بالقطاع الطبي المصري على مدى 5 سنوات مقبلة، علماً بأن المجموعة استحوذت عليها في شهر ديسمبر/كانون الأول 2021 مجموعة مستشفيات "كليوباترا" المملوكة بدورها لشركة "أبراج كابيتال" الإماراتية.
ولا يزال هناك جدل حول استحواذ الشركات الإماراتية على المزيد من المستشفيات الخاصة في مصر، وكذلك توجهها للاستحواذ على 5 مستشفيات حكومية، هي المستشفى القبطي، وهليوبوليس، وشيراتون، العجوزة، ومستشفى الجلالة التي أعلنت الحكومة المصرية الشهر الماضي طرحها للبيع.
وأكد مسؤول بجهاز سيادي رفيع لـ "عربي بوست" نفس الأمر، مضيفاً أن الرغبة الإماراتية في الاستحواذ على حصص غير قليلة في شركات بعينها تعمل في قطاعات معينة أمر أثار تدريجياً ريبة جهات سيادية بالفعل.
وأوضح أن جهات أمنية رفيعة حذرت من أن استمرار هذا النهج يمكن أن يدفع الحكومة المصرية إلى مواجهة وضع تجد نفسها فيه غير قادرة على التحكم في قطاعات هامة داخل المجتمع المصري، مثل قطاع الدواء والمستشفيات الذي تتزايد الاستثمارات الإماراتية فيه بشكل يصعب معه الاعتقاد ببراءة نوايا أبوظبي.
وقال المسؤول أيضاً إن ما زاد من ضيق النظام المصري من تغير سياسة أبوظبي، أن ذلك التغير تزامن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر نتيجة تداعيات أزمة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وتناقص احتياطي النقد الأجنبي في البنك المركزي المصري، وهو ما فسره بعض المسؤولين المصريين بأن من كانوا يظنون أنهم إخوة في السراء والضراء يستغلون الظروف الصعبة للضغط على النظام المصري من أجل الاستحواذ على قطاعات مهمة في مفاصل الاقتصاد المصري.
وسبق أن تقدم نائب برلماني مصري بطلب إحاطة إلى رئيس الوزراء لإيقاف الاستحواذات الخليجية على مرافق القطاع الصحي في مصر، بدعوى أن ما يحدث يبدو أقرب لمحاولة الاحتكار والسيطرة الكاملة على هذا السوق، ما يؤدي للسيطرة على ما تبقى من كفاءات طبية داخل مصر في هذه المستشفيات.
وأشار النائب إلى أن الاحتكار يمثّل خطراً داهماً على منظومة التأمين الصحي الشامل المزمع تطبيقها تدريجياً في محافظات مصر؛ لأنه يقلص من قدرة صندوق التأمين الصحي التفاوضية على أسعار الخدمات الطبية.
في نفس السياق كان جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية في مصر قد طالب في بيان أصدره في شهر يناير/كانون الثاني 2021، بوقف صفقات الاستحواذ في القطاع الطبي، باعتبارها تؤدي إلى خلق كيان احتكاري في سوق الرعاية الصحية، من خلال تعزيز هيمنة مجموعة كليوباترا على المستشفيات الخاصة في محافظتي القاهرة والجيزة.
سد النهضة.. أسباب سياسية وراء الخلافات
المسؤول بالجهاز السيادي المصري أكد أن الخلافات بين القاهرة وأبوظبي التي تفاقمت في الشهور الماضية ليست اقتصادية فقط، ولكنْ هناك أبعاد سياسية أيضاً ساهمت في زيادة الهوة بين البلدين.
واعترف بأن العلاقات لم تعد دافئة وودية كما كانت في السنوات الأولى من حكم الرئيس السيسي.
وأوضح المسؤول المطلع أن الصدمة الأهم في مسيرة العلاقات بين البلدين كانت سياسية وليست اقتصادية، وتمثلت في الدور الإماراتي المتزايد في إثيوبيا بطريقة تخالف المصالح المصرية هناك.
فقد قدمت أبوظبي دعماً مؤثراً للحكومة الفيدرالية بقيادة آبي أحمد ضد قوات تيجراي في شمال البلاد، مع وجود تقارير استخباراتية عن أن أبوظبي وفرت جسراً جوياً عسكرياً لقوات الحكومة الفيدرالية مكّنها من إخماد تمرد قوات التيجراي التي كانت تقترب من العاصمة أديس أبابا.
كما أن هناك معلومات عن ارتفاع عدد رحلات الطيران الخاصة بين الإمارات وإثيوبيا، والتي يعتقد أنها تنقل دعماً لوجستياً من الإمارات لحكومة آبي أحمد.
انفجر الخلاف بين القاهرة وأبوظبي في ملف العلاقات الملتبسة مع أديس أبابا في مارس/آذار من العام الماضي 2021، حين تحدث الرئيس المصري في خطاب متلفز موجهاً تهديداً مبطناً لإثيوبيا بشأن السد وحرمان مصر من حصتها التاريخية في مياه النيل.
تسابقت أغلب الدول العربية، ومنها السعودية، في اليوم التالي لذلك الخطاب لإصدار بيانات تأييد للموقف المصري، إلا أن أبوظبي أصدرت بياناً "يدعو إلى مواصلة الحوار بين الأطراف"، وهو ما أكد على أن القاهرة لا يمكنها التعويل على أبوظبي كحليف حقيقي في ذلك الملف الوجودي.
الخلافات المصرية الإماراتية بدأت منذ سنوات وتفجرت مؤخراً
مصدر آخر مطلع في الحكومة المصرية قال لـ "عربي بوست" إن الخلافات بين القاهرة وأبوظبي ليست وليدة الشهور الماضية فقط ولم تنشأ بسبب موقف الإمارات في إثيوبيا أو الضغط على الحكومة المصرية لبيع حصص مهمة في شركات معينة.
لكن الخلافات تعود -بحسب المصدر- إلى سنوات ماضية، لكنها كانت مكتومة لا يعرفها إلا القريبون من دوائر صنع القرار في البلدين.
وأشار إلى أن السبب الرئيسي في نشوب الخلافات بين الطرفين هو التباين في رؤية كلا البلدين لطبيعة الدور الإقليمي لكلا منهما، إذ سعى الطرف الإماراتي -بحسب المسؤولين المصريين- لاستخدام ثقل مصر ومؤسساتها من أجل الحصول على دور إقليمي أكبر يتناسب مع التطلعات السياسية للشيخ محمد بن زايد (ولي عهد أبوظبي في ذلك الوقت).
ليبيا.. بداية الخلافات
لكن جهات سيادية مصرية -بحسب المصدر- تصدت لتلك المساعي، خصوصاً إثر ظهور اختلاف المصالح بين القاهرة وأبوظبي في بعض الملفات المهمة، وعلى رأسها الملف الليبي، بعدما كشفت تقارير استخباراتية مصرية عن تواصل أطراف إماراتية مع حكومة فايز السراج في طرابلس المدعومة من تركيا، في وقت كانت مصر تضع ثقلها ودعمها ورهانها السياسي بالكامل على اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الشرق الليبي.
يعد الملف الليبي ذروة التعاون بين الجانبين المصري والإماراتي، لكنه أيضاً كان بداية بذور الشقاق بينهما.
فقد دعمت القاهرة وأبوظبي بشكل منسق اللواء المتقاعد خليفة حفتر في حربه ضد حكومة طرابلس المعترف بها دولياً. ووصل التعاون بين الجانبين إلى مستوى غير مسبوق، حيث كان يعمل ضباط إماراتيون في ليبيا لمساعدة حفتر بالتنسيق مع مصر، إضافة إلى إنشاء قاعدة إماراتية في ليبيا وتهريب السلاح بتمويل إماراتي عبر الأراضي المصرية لشرق ليبيا.
لكن الخلافات نشبت بسبب اختلاف الرؤى، إذ كانت مصر قلقة من أن زيادة عدم الاستقرار في جارتها الغربية يمكن أن تشكل تهديداً محتملاً لأمنها.
بالنسبة للإمارات، لم تكن مخاوف مصر من عدم الاستقرار في ليبيا بالأهمية نفسها، كون أبوظبي تركز على ما تعتبره مخاطر فكرية بدلاً من المخاطر الأمنية التقليدية.
كما تفيد مؤشرات بأن القاهرة لم تكن متحمسة لهجوم حفتر على طرابلس عام 2019 الذي أنهى عملية التسوية؛ لأنها لم تكن واثقة بقدرته على حسمه، بعكس الإمارات التي شجعته على الهجوم ودعمته. كما تورطت الإمارات في هجمات الطائرات المسيّرة على طرابلس والتي أسفرت عن خسائر كبيرة بصفوف المدنيين.
حينها، تهرب حفتر من المسؤولين المصريين، بينما استمر في التشاور مباشرة مع مسؤولين إماراتيين، بحسب مسؤولين مصريين.
بعد ذلك اتسعت شقة الخلاف في الملف الليبي، مع تزايد القلق المصري من تزايد نفوذ الإماراتي في الشرق الليبي الذي تعتبره مصر ساحة طبيعية لنفوذها. لتبدأ مصر في تعزيز نفوذها في الشرق أمنياً.
التطبيع الإماراتي مع إسرائيل
مع حدوث التطبيع الإماراتي مع إسرائيل، ظهرت مجموعة خلافات أخرى. القلق المصري ظهر جلياً عندما سعت الإمارات لإيجاد بديل لقناة السويس، من خلال الحديث عن إنشاء خطوط سكك حديدية وأنابيب نفط وغاز تربط الخليج بالموانئ الإسرائيلية على البحر المتوسط، وهو ما يمثل خطاً أحمر عند النظام المصري.
تسبب النشاط الإماراتي فيما يتعلق بالتطبيع بالمنطقة في توتر علاقة أبوظبي بالقاهرة. يمكن ملاحظة أعراض هذا التوتر في امتناع مصر عن إرسال وزير خارجيتها لحضور توقيع اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين في البيت الأبيض.
مشكلة أخرى ظهرت لمصر تتمثل في أن يؤدي التقارب الإماراتي-الإسرائيلي إلى تعاون البلدين في قضايا تهم مصر، من بينها السودان والقرن الإفريقي والبحر الأحمر.
فقد أصبحت الإمارات وسيطاً رئيسياً، ومهندساً أساسياً للترتيب الأمني في البحر الأحمر، الذي يشهد منافسة قوية، مع وجود قاعدة إماراتية في إريتريا جنباً إلى جنب مع قواعد أخرى في بربرة بوساسو على أرض الصومال.
تغير موقف الإمارات من مصر
في الجهة المقابلة، نقل دبلوماسي إماراتي عمل في مصر لفترة عن مسؤول أمني في بلده قوله إن فتور العلاقات بين البلدين في الفترة الأخيرة يرجع إلى سبب أساسي، وهو اكتشاف أبوظبي أن كل الوعود التي قدمها الرئيس المصري للإمارات غير حقيقية، وأن ما يفعله الرجل على الأرض يخالف تماماً ما يقوله في اجتماعاته المغلقة.
وأشار الدبلوماسي في حديثه لـ"عربي بوست" إلى أن الصدمة الأولى التي تلقتها أبوظبي من السيسي كانت في تراجعه عن المشاركة الفعالة في الحرب في اليمن، رغم وعوده بأن الجيش المصري سيشارك ضمن قوات تحالف دعم الشرعية.
وأضاف الدبلوماسي أن ما تفعله أبوظبي حالياً من ربط للدعم بالحصول على صفقات استحواذ أمر طبيعي منطقي جداً من الناحية الاقتصادية، مشيراً الى أن الدعم السخي الذي قدمته الإمارات لمصر منذ الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين كان مدفوعاً بالرغبة المشتركة في حصار المد المتزايد لتيار الإسلام السياسي في دول المنطقة.
وأشار إلى أن الأمر اختلف حالياً، ومن الطبيعي بعد تجاوز خطر الإسلام السياسي، ظهور بعض الاختلافات في مصالح البلدين وأولوياتهما السياسية، لكن ذلك لا يقلل من عمق العلاقات التي تعود إلى عقود طويلة ما يجعلها قادرة على استعادة حيويتها في المستقبل القريب، على حد وصفه.
محاولات تحجيم مصرية
نتيجة لما سبق، ظهرت عملية تحجيم للنفوذ الإماراتي داخل مصر، بحسب مسؤولين مصريين. البداية كانت من إخفاق الصحفي عبد الرحيم علي، رئيس تحرير جريدة البوابة ومؤسس مركز دراسات الشرق الأوسط، والذي يوصف بأنه أهم رجال الإمارات في مصر، في انتخابات مجلس النواب، وقبل ذلك سُرب تسجيل صوتي له، بطريقة تشير إلى غضب مؤسسات الدولة المصرية عليه.
كما يمكن ملاحظة موقف القاهرة من النفوذ الإماراتي داخل مصر مما حدث مع رجل الأعمال المصري صلاح دياب، الذي تربطه علاقات عائلية وثيقة بالسفير الإماراتي القوي في واشنطن، يوسف العتيبة، والذي ألقت قوات الأمن القبض عليه في الأول من سبتمبر/أيلول الماضي، قبل إطلاق سراحه لاحقاً.
كما أجبرت السلطات المصرية دياب على التنازل عن جزء من حصته في مشروع تنموي ضخم، وتقليص عمل صحيفة "المصري اليوم" المستقلة بشكل كبير، والبدء في الإعداد لاتفاق يقضي بتنازله عن الصحيفة لإحدى الشركات الإعلامية المملوكة للدولة.
انعكست حالة التوتر السياسي بين القاهرة وأبوظبي على مراكز الأبحاث والمنصات الإعلامية الإماراتية في مصر، التي دعمتها أبوظبي بقرابة مليار دولار منذ 2013.
وعلم "عربي بوست" من مصادر في جهاز سيادي أن تعليمات واضحة صدرت في القاهرة لمراقبة عمل مراكز الدراسات بمصر، الممولة من الإمارات، وكذلك بعض الوسائل الإعلامية الأخرى، بعدما تبين أنها تؤدي "وظيفة استخباراتية" وخرجت عن نطاق العمل الإعلامي، على حد تعبيره.
بحسب المصدر، تم رصد اقتصار نشاط بعض مراكز الدراسات على عمل ما يسمى في العمل البحثي "تقرير حالة"، ويقصد به رصد مواقف الشارع المصري تجاه قرارات سياسية معينة، مثل موقف القيادة السياسية من أزمة سد النهضة، وقياس شعبية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الشارع، وغيرها من الحالات التي اعتبرتها الأجهزة السيادية أموراً استخباراتية وليست إعلامية.
سبق التحرك المصري قرارات إماراتية بخفض الإنفاق على المشروعات الإعلامية التي تمولها في القاهرة، وأدى إلى الاستغناء عن مئات من الباحثين والإعلاميين المصريين المتعاونين. كان السبب المعلن للتخفيض في كل مرة هو الظروف الاقتصادية، لكن مصادر داخل هذه المراكز أكدت لـ "عربي بوست" أن السبب الحقيقي هو عدم توفيق تلك المنصات في أداء المهمة المنوطة بها، وهي توجيه الرأي العام المصري بما يخدم السياسة الإماراتية في قضايا محلية وإقليمية بعينها.