يواجه قادة الجيش الروسي انتقادات متصاعدة مصدرها داعمون للكرملين، بسبب الإخفاقات المتتالية في أوكرانيا، وهذه الانتقادات تسعد الغرب، لكن هل اقتربت فعلاً نهاية فلاديمير بوتين كما يتمنى أعداؤه؟
فالحرب في أوكرانيا، التي اندلعت في فبراير/شباط الماضي، دخلت مرحلة خطيرة تواجه فيها القوات الروسية انتكاسات متكررة وشبه يومية، وأصبح الحديث عن إمكانية تحقيق القوات الأوكرانية انتصاراً عسكرياً يصم الآذان في الغرب، بغض النظر عن مدى واقعية ذلك السيناريو.
كما أن قرار بوتين ضم 4 مدن أوكرانية رسمياً إلى الاتحاد الروسي، بعد إجراء "استفتاءات" ندد بها الغرب، لم يؤدّ إلى تراجع الداعمين الغربيين لأوكرانيا عن إمدادها بمزيد من الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية بغرض حسم الحرب.
جنرالات روسيا في مرمى النيران
ففي الوقت الذي تواصل فيه القوات الروسية تقهقرها في جنوب شرقي أوكرانيا، قدّم "الحاكم" الذي عيّنه الكرملين لمنطقة خيرسون التي تحتلها روسيا، اقتراحاً إلى وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو.
وقال كيريل ستريموسوف، الخميس 6 أكتوبر/تشرين الأول: "كثير من الناس يقولون إنَّ وزير الدفاع الذي يسمح للوضع بالوصول إلى هذه الحالة ربما من الأفضل أن يطلق النار على نفسه مثل الضابط (الذي يفشل في أداء عمله)"، بحسب تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم وعلى التلفزيون الحكومي الروسي، طرح فلاديمير سولوفييف، الداعم البارز للكرملين، أسئلة كثيرة على القيادة العسكرية لبلاده، متسائلاً: "من فضلك، اشرح لي ما هي الفكرة العبقرية لهيئة الأركان العامة الآن. هل تعتقد أنَّ الوقت في صالحنا؟ لقد زادوا كمية أسلحتهم زيادة هائلة… لكن ماذا فعلتَ في ذلك الوقت؟".
بعد 7 أشهر من الحملة العسكرية التي تبدو متعثرة، كثّفت وسائل الإعلام الحكومية الروسية والمُشرّعون المؤيدون للكرملين وغيرهم من مؤيدي الحرب الروسية في أوكرانيا انتقاداتهم العلنية للجيش وشخصياته القيادية. وصارت الهجمات الشديدة الصريحة حتى من المسؤولين الروس مثل ستريموسوف، والتي كانت نادرة حتى قبل الحرب، أكثر بروزاً الآن مع فرض قانون يعاقب "تشويه سمعة القوات المسلحة" بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً.
وقالت تاتيانا ستانوفايا، مؤسسة شركة الاستشارات السياسية R. Politik، إنَّ مرور مثل هذه الانتقادات دون عقاب يشير إلى أنَّ الكرملين يوافق عليها ضمنياً ويبحث عن مخرج من وضع يُرثى له على نحو متزايد على خط المواجهة.
وأضافت ستانوفايا للصحيفة البريطانية: "نحن في المرحلة التي تتعامل فيها النخبة مع مسألة كيفية كسب الحرب. لا أحد يشكك في الحرب نفسها، لكن حول كيفية الانتصار، والأساليب التي يجب استخدامها، والتكتيكات، والأشخاص الذين سيقودون الحملة. الكرملين أبلغ النخبة أنَّ الحظر على انتقاد وزارة الدفاع والقوات قد رُفِع".
مع استمرار الحرب واستمرار أوكرانيا، بدعم غربي ضخم، في دفع القوات الروسية للتراجع، أصبح من الصعب الحفاظ على الصورة الوردية التي ترسمها إحاطات وزارة الدفاع.
كيف تعثر الجيش الروسي في أوكرانيا؟
في بداية الصراع، ادعى المتحدث باسم الوزارة إيغور كوناشينكوف أنَّ روسيا دمرت عدداً من الطائرات بدون طيار تركية الصنع من طراز "تي بي 2" أكثر مما نشرته أوكرانيا في أي وقت مضى، وأعلن الاستيلاء المفترض على أكثر من 20 قرية عدة مرات. وخيّم التفاؤل على بوتين، الذي أصر على أنَّ "العملية الخاصة" تسير حسب الخطة.
لكن منذ سبتمبر/أيلول، عندما حررت القوات الأوكرانية مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة خاركيف الشرقية، صار من المستحيل تجاهل الحقائق على الأرض.
كان ألكسندر دوغين، الملقب بأنه "عقل بوتين"، قد وصف الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف بأنه "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
لكن على أية حال، تردد دوي الهزائم الروسية لأول مرة على تليغرام -تطبيق الوسائط الاجتماعية الذي يعمل بمثابة معمل الاختبار لروايات الكرملين- من المراسلين الحربيين الموجودين في الخطوط الأمامية.
وعلى الرغم من أن هؤلاء المراسلين يدعمون جهود روسيا لكسب الحرب، فإنَّهم صاروا في حد ذاتهم مؤثرين. والتقت مجموعة منهم بوتين في يونيو/حزيران، بينما حضر البعض احتفالاً فخماً في الكرملين الأسبوع الماضي شهد ضماً أحادياً لأربع مناطق أوكرانية.
ومع ذلك، استمرت النشوة حول ضم المناطق الأوكرانية الأربع أقل من 24 ساعة، قبل أن تستولي أوكرانيا على بلدة ليمان الرئيسية في منطقة دونيتسك الشرقية، ليخسر بوتين ما أعلنها للتو أراضي روسية جديدة.
والآن يلقي مراسلو الحرب باللوم على وزارة الدفاع؛ لعدم صدقها بما فيه الكفاية بشأن عيوبها والصعوبات التي واجهتها في ساحة المعركة.
كتب ألكسندر كوتس، مراسل حرب في صحيفة Komsomolskaya Pravda المؤيدة للكرملين، على تليغرام: "نحن بحاجة إلى فعل شيء بشأن النظام الذي لا يحب فيه الرؤساء سماع الأخبار السيئة ولا يحب مرؤوسوهم إزعاجهم".
وردد رمضان قديروف الانتقادات باتهام جنرال بارز بإفساد دفاع ليمان. وقال رجل الشيشان القوي إنَّ كبار ضباط الجيش كانوا يكذبون على بوتين بشأن مدى سوء المجهود الحربي.
وأيّد تصريحات قديروف، الذي نشر القوات الشيشانية في أوكرانيا وعيّنه بوتين هذا الأسبوع قائداً للجيش، يفغيني بريغوزين، الذي اعترف الآن -بعد سنوات من الإنكار- بإدارة مجموعة فاغنر شبه العسكرية. وبريغوزين، الملقب بطاهي بوتين، كان يجند السجناء للقتال في أوكرانيا.
هل يعني هذا أن نهاية بوتين اقتربت فعلاً؟
بافل لوزين، المحلل العسكري الروسي المستقل، قال إنَّ الهجمات على القيادة العسكرية تشير إلى صراع على السلطة؛ الذي تسعى فيه القوات غير النظامية مثل قوات الشيشان بقيادة قديروف وفاغنر إلى زيادة نفوذها على حساب الجيش.
وأضاف لوزين للصحيفة البريطانية: "إنهم يبحثون عن أشخاص يلومونهم. الجيش منهك وضعيف، بل يزداد ضعفاً، ويتحول تدريجياً إلى قوة عسكرية غير نظامية. والكرملين خائف من جنوده. هذا هو السبب في أنَّ كل من شارك مباشرةً في الحرب، لكن لا يخدم في الجيش، يحاول إلقاء اللوم على الجيش في الهزيمة".
ومع ذلك، استبعد ضابط سابق في الأجهزة الأمنية أن تدفع النكسات العسكرية الأجهزة الأمنية الروسية إلى التخلي عن المجهود الحربي، على الرغم من مخاوفهم. وقال الضابط: "ربما لم يعجب زملائي السابقون في البداية بما يحدث. لكن الآن كل ما يهتمون به هو ما إذا كنا سنفوز. بدء الحرب كان سيئاً بما فيه الكفاية، لكن إذا خسرنا فستكون أسوأ".
يتمثل أحد الردود المحتملة في تصعيد الجيش الروسي من خلال مهاجمة البنية التحتية الحيوية الأوكرانية، وهو مطلب قديم لمراسلي الحرب على تليغرام. واقترح قديروف استخدام أسلحة نووية تكتيكية الأسبوع الماضي.
وقال ضابط الأمن السابق: "يمكنك أن تشرح للناس أننا في حالة حرب وأنهم هاجمونا. لن يتذكر أحد كيف بدأت الحرب. وكلما طالت مدتها، قلّ عدد الأشخاص الذين سيهتمون. والناس العاديون سيعتقدون أنها مبررة".
في ظل هذه الصورة المرتبكة، يلوح أحد المخارج الممكنة من الوضع الحالي وهو انهيار نظام بوتين، حسب ما يتمناه زعماء الغرب خاصةً الرئيس الأمريكي جو بايدن، ويستند بعض المحللين إلى إشارات الاستياء التي ظهرت مؤخراً في صفوف النخب الروسية حيال الهزائم في أوكرانيا، لا سيما الانتقادات اللاذعة التي صدرت عن قديروف ومؤسس مجموعة فاغنر شبه العسكرية القريبة من الكرملين إيفغيني بريغوجين.
كما انتقد عدد من المسؤولين والمشرفين على الدعاية الروسية حملة التعبئة الجزئية التي دفعت عشرات آلاف الروس إلى الفرار من البلاد، معتبرين أنها كانت فوضوية واعتباطية.
وأشارت الباحثة بمعهد كارنيغي، تاتيانا ستانوفايا، إلى أن النخب الروسية خلافاً لبوتين لا تعتبر أن أوكرانيا تطرح "مشكلة وجودية" لروسيا، بحسب تقرير لموقع فرانس24.
وكتبت ستانوفايا في مجلة "فورين بوليسي" هذا الأسبوع، أن "المسألة الجوهرية تكمن في معرفة ما إذا كانت النخب الروسية والمجتمع عموماً مهيئين للحاق به في رحلته إلى الجحيم، أم أن بوتين فتح الطريق لسقوطه بنفسه بتصعيد رهانه الكارثي في أوكرانيا".
والجمعة 7 أكتوبر/تشرين الأول، نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تقريراً قالت فيه إن أحد أفراد الدائرة المقربة من بوتين عبّر له صراحة عن عدم موافقته على قيادة الحرب في أوكرانيا، لكن مصادر في أجهزة الاستخبارات لفتت رداً على أسئلة الصحيفة إلى عدم وجود مؤشرات على مخاطر بإطاحة النظام.
ماري دومولان، الباحثة بمجلس العلاقات الأوروبية، قالت للموقع الفرنسي: "يجب ألا نعتبر تمنياتنا واقعاً"، مشددة على أن التوتر بين "الأجنحة داخل النظام" لا يطال الرئيس الروسي نفسه. وختمت: "لا أحد يعلم متى سيحصل ذلك، ووفق أي سيناريو، ومن سيأتي بعد بوتين".
وأكدت تاتيانا ستانوفايا، من مؤسسة شركة الاستشارات السياسية R. Politik، المعنى نفسه، بقولها لصحيفة The Financial Times، إنَّ المسؤولين عن الحرب على جميع المستويات سيكافحون للعثور على إجابات جيدة لبوتين. وأضافت: "هذا مدمر للغاية للنظام. المشكلة لم تتغير: كيف يمكن لروسيا أن تربح الحرب وبأي ثمن؟ وهذا السؤال يخيف الجميع على حد سواء؛ لأنه لا توجد إجابة".