قد يكون العالم أمام خطر احتمال اندلاع حرب نووية أكثر من أي وقت مضى منذ إلقاء أمريكا القنبلتين الذريتين على اليابان عام 1945، وبينما يثور جدل حول ما إذا كانت روسيا ستستخدم أسلحة نووية تكتيكية أم لا، فإنه لا يُعرف ما هي خيارات الرد الأوكرانية على هجوم نووي روسي، وماذا ستفعل أمريكا وحلفاؤها إذا نفذ الروس تهديداتهم.
ولوحت روسيا مراراً بأنها قد تستخدم الأسلحة النووية في الحرب الأوكرانية، حيث أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه لا يمزح في هذا الأمر، بينما قال رئيس مجلس الأمن القومي والرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف، إن بلاده من حقها استخدام الأسلحة النووية للدفاع عن المقاطعات الأوكرانية الأربع التي ضمتها مؤخراً، فيما دعا رمضان قديروف، رئيس الشيشان، إلى الرد على الانتصارات الأوكرانية باستخدام أسلحة نووية تكتيكية.
ورد الكرملين على دعوة قديروف، بقوله إنه يفضل "نهجاً متوازناً" وليس مدفوعاً بالعواطف فيما يتعلق بمسألة استخدام الأسلحة النووية، فيما بدا أنه رسالة لتهدئة الغرب من مخاوف الحرب النووية، ولكنها تهدئة لا يعرف هل هدفها تقليل التصعيد أم خداع الغرب والأوكرانيين.
فمع استمرار التقدم الأوكراني في مقاطعة خيرسون المجاورة لشبه جزيرة القرم، يزداد خطر الحرب النووية، فخيرسون بعيدة عن الجهد الحربي الروسي الرئيسي المعتمد على الأراضي الروسية، وأي اختراق أوكراني كبير لها يمثل مشكلة عسكرية لموسكو والأخطر يهدد شبه جزيرة القرم التي تعتبرها روسيا خطاً أحمر وسبق أن ضمتها عام 2014، وينظر أغلب الروس ومن ضمنهم المعارضون لبوتين إلى القرم على أنها جزء من روسيا.
وبالفعل بدأ الأوكرانيون يتحدثون بتفاؤل عن تحرير القرم، ومع استمرار مأزق بوتين في ظل قلة عدد الجنود الروس بأوكرانيا، الذين يبلغ عددهم نحو 200 ألفٍ مقابل نحو مليون جندي أوكراني، لأن كييف استدعت الاحتياطي منذ بداية الحرب، فإنه لا يمكن استبعاد أن تتطور الأمور إلى استخدام روسيا أسلحة نووية تكتيكية على الأقل ضد أوكرانيا.
الاقتراب من القرم يفاقم خطر الحرب النووية رغم التهدئة الروسية
يدور الحديث حول استخدام روسيا على الأرجح أسلحة نووية تكتيكية ضد أوكرانيا، كما طالب قديروف، ومن المعروف أن روسيا تمتلك عدداً كبيراً من الأسلحة النووية التكتيكية يقدر بألفي رأس، وهو معدل أعلى كثيراً مما تمتلكه الولايات المتحدة.
مما يزيد من فرص استخدام روسيا أسلحة نووية تكتيكية هو أن أي استخدام واسع النطاق للأسلحة النووية الاستراتيجية من قبل الروس ضد أوكرانيا قد يعرض روسيا وبقية أوروبا وحتى منطقة الشرق الأوسط لإشعاع نووي، وقد يؤدي بدوره إلى رد فعل من الناتو، خاصةً أن المصادر الأمريكية تلمح إلى أنها سوف تعتبر أي تلوث إشعاعي لمناطق بدول الناتو بمثابة هجوم عسكري روسي.
والعقيدة النووية الروسية تتضمن إمكانية استخدام الأسلحة النووية في حال تعرض أراضي البلاد للخطر، وهو أمر يمكن أن يشمل المقاطعات الأربع الأوكرانية التي أعلنت موسكو ضمها مؤخراً، علماً بأن القتال يدور فيها بالأساس، كما أن اثنتين منها- هما دونيتسك وزاباروجيا- نصف أراضيهما يسيطر عليها الأوكرانيون.
كما أنّ توغل الجيش الأوكراني في خيرسون يقربه من القرم، التي أكدت وزارة الدفاع الأمريكية مؤخراً أنها مازالت تعتبرها جزءاً من أوكرانيا في معرض إشارتها إلى أنها لا ترى مشكلة في استهداف كييف لها بأسلحة أمريكية، فيما يشبه الضوء الأخضر الأمريكي لأوكرانيا بمهاجمتها.
لأن روسيا قد لا تفوز في حرب تقليدية
وهناك شعور في الغرب بأن بوتين بدا يقتنع بأنه لا يمكنه الفوز بحرب تقليدية إذا استمر الوضع الحالي، فلقد بدأ الغرب استناداً إلى قاعدته الصناعية والعسكرية الضخمة في دعم أوكرانيا بشكل من شأنه أن يقلب التوازن الاستراتيجي ضد روسيا، كما أنه يُعتقد أن موسكو تعاني من أثر الحظر الغربي على صناعاتها العسكرية.
واضطرت لروسيا لطلب المساعدة من حلفاء ينتمون للعالم الثالث مثل إيران وكوريا الشمالية. ولن توفر التعبئة الجزئية للجيش الروسي الوسائل لعكس الوضع في ساحة المعركة إلا بعد فترة طويلة لتدريب هذه القوات، وقد تؤدي إلى تفاقم المعارضة لبوتين في الداخل، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
ماذا سيفعل بوتين، هل سيرد بفعلِ ما حذَّر منه مراراً: استخدام الأسلحة النووية، سواء كان هذا الاستخدام ضد هدف في أوكرانيا أو بتفجير نووي في منطقة نائية مثل تفجير في القطب الشمالي، بحيث لا يؤدي إلى خسائر ولكن ليكون بمثابة رسالة تحذيرية؟
الأمريكيون قلقون من هذا السيناريو وبدأوا يبحثون احتمالاته
يؤكد المسؤولون الأمريكيون أن خطر استخدام روسيا أسلحة نووية في أوكرانيا لا يزال منخفضاً، بعد أن اكتشفوا عدم وجود دليل على التعبئة النووية من قبل روسيا، رغم ما أثاره اختفاء الغواصة النووية بيلوغراد من قلق في الغرب.
لكن المسؤولين الأمريكيين قلقون بشأن احتمالية استخدام بوتين الأسلحة النووية، أكثر بكثير مما كانوا عليه في بداية الصراع، حسبما ذكرت صحيفة The Times، وبدأوا في مناقشة سيناريوهات ما بعد الضربة النووية.
ماذا ستفعل أمريكا إذا ضربت روسيا أوكرانيا بالنووي؟ الخيار الأخطر ضربة مماثلة
رداً على تهديد بوتين النووي، توعد الرئيس الأمريكي جو بايدن بردٍّ حاسم، كما قال مستشار الأمن القومي للرئيس جيك سوليفان، إن أي استخدام للأسلحة النووية سيؤدي إلى "عواقب كارثية" على روسيا، وأن هذا تم إبلاغه بشكل محدد في اتصالات خاصة مع موسكو، ولكن لم يوضح هذه العواقب.
ماذا ستكون هذه العواقب بالضبط؟ هذا بالطبع أمر غير معروف للجمهور. قد يكون أحد الخيارات أن ترد الولايات المتحدة بالمثل بضربة سلاح نووي تكتيكية. كما كتب ماثيو كرونيغ من المجلس الأطلسي، فإن "ضربة نووية أمريكية تكتيكية، من المرجح أن تعزز الاستجابة النووية وتردع الخصوم، وتطمئن الحلفاء، وتعيد إنشاء المحرمات العالمية ضد الاستخدام النووي في المستقبل من خلال إظهار أن الدول لا تستطيع استخدام الأسلحة النووية بدون عواقب وخيمة".
وأضاف أنه بخلاف ذلك، "قد يعتبر الحلفاء والخصوم أن رد الفعل الأمريكي ضعيف".
ومع ذلك، قال مسؤولو الإدارة الأمريكية منذ شهور، إنه لا توجد سيناريوهات تقريباً سترد فيها الولايات المتحدة بالأسلحة النووية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وذلك لسبب وجيه- كما يلاحظ كرونيغ- وهو أن أي رد نووي أمريكي على روسيا يمكن أن يبدأ دورة من التصعيد المتبادل تنتهي بحرب نووية عالمية شاملة.
وبالتالي، يكاد يكون من المؤكد أن الناتو لن يرد بضربة نووية مماثلة.
فأي شخص شارك في مناورات حربية رفيعة المستوى للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي على مدى العقود العديدة الماضية يعرف ماذا سيحدث في حال اندلاع حرب نووية، وبالتالي يدرك أنه من الصعب للغاية أن ترد واشنطن أو الناتو بالمثل على بوتين، إذا استخدم أسلحة نووية ضد أوكرانيا، حسب مقال في مجلة The National Interest، كتبه دان جوري نائب الرئيس في معهد ليكسينغتون لأبحاث السياسة العامة الذي عمل عضواً في فريق الانتقال بوزارة الدفاع الأمريكية وشارك في مناورات بشأن الحرب النووية.
بل إن جوري يقول إنه وفقاً لهذه المناورات، فحتى لو كانت القوات الأمريكية أو قوات الناتو هدفاً لمثل هذا الهجوم النووي، فإن الهجوم إن لم يكن هائلاً، فإن الفرق التي تمثل حكومة الولايات المتحدة ودول الناتو في مثل هذه المناورات تختار دائماً عملاً عسكرياً تقليدياً مكثفاً رداً على أي هجوم نووي روسي محدود أو تتراجع.
ولذلك يبدو أن المسؤولين الروس يعتقدون أن بإمكانهم إطلاق سلاح نووي ضد أوكرانيا دون التعرض لخطر كبير من الانتقام العسكري من الناتو، حسبما ورد في تقرير صحيفة The New York Times.
كتب الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، في منشور على شبكة Telegram الاجتماعية: "لن يموت الديماغوجيون الأجانب والأوروبيون في نهاية العالم النووية". "لذلك سوف يبتلعون استخدام أي سلاح في الصراع الحالي بأوكرانيا".
هل يمكن أن تقصف أمريكا الجيش الروسي بأسلحة تقليدية؟
تبقى هناك فرص الرد العسكري الأمريكي الأخرى مثل استخدام الأسلحة التقليدية ضد المواقع التي سخرج منها الضربات النووية أو أهداف عسكرية روسية في أوكرانيا أو تستخدم لخدمة الجهد الحربي الروسي.
وكان المدير السابق للاستخبارات الأمريكية، الجنرال المتقاعد ديفيد بتريوس، قد تكهن بأنه في حال توجيه موسكو ضربة نووية لأوكرانيا فإن إدارة بايدن ستقود الناتو في جهد عسكري جماعي "للقضاء على كل قوة تقليدية روسية يمكننا رصدها وتحديدها في ساحة المعركة بأوكرانيا وأيضاً في شبه جزيرة القرم وكل سفينة روسية في البحر الأسود"، وهو تكهن يضعف من احتمالاته أنه خرج مسؤول سابق، وقد يكون طلب منه لإضفاء غموض مقلق للروس حول رد الفعل الأمريكي، ويمكن التنصل منه وقت الحاجة.
ولكن أي هجوم على القوات الروسية سيظل يعتبر هجوماً على روسيا، حسبما قال هانز كريستنسن، مدير مشروع المعلومات النووية في اتحاد العلماء الأمريكيين.
وأضاف أنه "سيكون نوعاً ما بمثابة نصف خطوة، إذا صح التعبير، حيث سيصبح بإمكانك أن تقول للروس: نحن نرد ولكن ليس بتهديد أراضي روسيا نفسها، ولكن لإخباركم بأنه إذا واصلتم القيام بذلك، فإن المرحلة التالية ستكون أكثر جدية".
ومع ذلك، فحتى الرد العسكري التقليدي، الذي يحتمل أن يتم دون موافقة الكونغرس الأمريكي، من شأنه أن يؤدي إلى صدام مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، "وبالتالي يعرض العالم لخطر الحرب العالمية الثالثة".
ولذا يجادل أندرياس كلوث في "بلومبرغ"، بأن بوتين قد يستنتج أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للرد باستخدام الأسلحة النووية.
الخيار الأرجح مضاعفة تسليح أوكرانيا، إذا ظلت قادرة على المقاومة
وعلى الأغلب فإن الرد الأمريكي في حال استخدام بوتين الأسلحة النووية سيكون مضاعفة الدعم لأوكرانيا، وتزويدها بأسلحة تقليدية أكثر وأفضل، وتوسيع العقوبات الاقتصادية على روسيا، وجعلها دولة منبوذة.
كان هذا فحوى تحذير بايدن في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أي من حيث الجوهر، سيسعى الغرب إلى الاستمرار في الاستراتيجية التي أدت إلى استخدام بوتين الأسلحة النووية في المقام الأول. هذا هو تعريف الجنون: فعل الشيء نفسه مرة أخرى وتوقع نتيجة مختلفة، حسب دان جوري.
وقد يطور الأمريكيون استراتيجيتهم لدعم كييف بإعطاء القوات الأوكرانية أسلحة التقليدية أطول في المدى لتضرب بها كييف بعض الأهداف الحيوية الروسية من ضمنها مصادر إطلاق الأسلحة النووية.
إن توفير معدات عسكرية غربية إضافية لأوكرانيا، وضمن ذلك المزيد من أنظمة المدفعية الصاروخية الأمريكية من طراز HIMARS، والصواريخ بعيدة المدى، والطائرات بدون طيار المتقدمة، والمدرعات الثقيلة، وحتى مقاتلات F-16، سيضمن قدرة أوكرانيا على الرد على الهجوم الروسي. لكنه لن يوفر رادعاً كافياً لموسكو أو يدمر قدراتها على شن هجمات نووية أخرى.
كما يحتاج هذا السيناريو إلى أن تظل أوكرانيا قادرة على الاستمرار في الحرب بعد الضربة النووية الروسية المفترضة، علماً بأن اليابان الدولة التي كانت معروفة خلال الحرب العالمية الثانية برفضها العميق للاستسلام واستعداد جنودها للموت دفاعاً عن الوطن والإمبراطور، استسلمت بعد إلقاء قنبلتين نوويتين بدائيتين بمعايير العصر الحالي.
اتخذ قادة اليابان هذا القرار رغم أن بلادهم ذات طبيعة جزرية وعرة تمكنها من المقاومة، وكان الأمريكيون لا يملكون سوى مخزون ضئيل جداً من القنابل النووية في ذلك الوقت مقابل امتلاك روسيا للترسانة النووية الأكبر في العالم حالياً.
مؤخراً، خلص معهد دراسة الحرب الأمريكي إلى أن استخدام أسلحة نووية تكتيكية متعددة سيؤدي فقط إلى تجميد الخطوط الأمامية للحرب، مما يتيح للكرملين الاحتفاظ بالأراضي الأوكرانية التي يحتلها الآن. واستنتج المعهد إلى أن الهجمات الروسية النووية إذا كانت تكتيكية لن تمكن الروس من الاستيلاء على أوكرانيا بأكملها"، ولكن السؤال: هل تبقى بعد ذلك قادرة على القتال؟
الخيار الاقتصادي.. هل ما زال في جعبة الغرب مزيد من العقوبات؟
بقدر شدة العقوبات المفروضة على روسيا الآن، يجادل إليوت كوهين، الأستاذ في كلية الدراسات الدولية بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، بأن رعاة أوكرانيا الغربيين لا تزال لديهم سهام اقتصادية في جعبتهم.
الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، كما يقول، يمكنها فرض عقوبات ثانوية غير محدودة على أي شخص يتعامل مع روسيا والتحرك لمصادرة ما يقرب من 300 مليار دولار في حسابات روسيا بالخارج (جزء كبير منها في الصين). ويفكر حلفاء أوكرانيا حالياً أيضاً في وضع حد أقصى لأسعار النفط الروسي؛ لزيادة الضغط على الاقتصاد الروسي.
ويعتقد بعض المحللين أن مخطط فرض سقف لأسعار النفط الروسي يمكن أن ينجح فقط بالتعاون مع كبار مشتري النفط مثل الصين والهند، اللتين مثل معظم دول العالم لم تنضما إلى العقوبات على روسيا.
لكن إذا كسر بوتين المحظور النووي، فإن ذلك قد يتغير: "العالم بأسره سيتوقف"، كما قال جوزيف.
وفي ظل عدم قدرة الغرب على إصدار قرار من مجلس الأمن لفرض حظر على تصدير موسكو للنفط بفعل الفيتو الروسي، قد يكون الخيار الاقتصادي الأكثر فعالية هو فرض غربي لحظر شامل على بيع النفط الروسي، أي معاقبة الدول والجهات غير الغربية التي تشتريه حالياً (أبرزها الصين والهند) بمنع تعاملاتها المصرفية وتجميد أرصدتها، على غرار العقوبات التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، على النفط الإيراني عام 2018، وأدت فعلياً إلى صعوبة بيع إيران لنفطها حتى لدول رفضت القرار الأمريكي مثل الصين وتركيا.
ولكن هذا القرار سيكون بمثابة حرب نووية اقتصادية على روسيا، على المدى المتوسط، لأن موسكو كدول الخليج العربية تعتمد بشكل شبه كامل على صادرات الطاقة، وحظرها يعني انهيار الميزانية العامة الروسية، وتعريض الشعب الروسي لكارثة اقتصادية.
كما أن مثل هذا القرار سوف يؤدي إلى قفزة جنونية في أسعار النفط، لأن روسيا تصدر نحو خمسة ملايين برميل، ولاتخاذ هذا القرار يجب رفع العقوبات الأمريكية على إيران التي تستطيع ضخ نحو مليوني برميل في السوق وفنزويلا صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم، ولكن صقور أمريكا يرفضون تخفيف العقوبات على البلدين.
كيف يمكن أن ترد أوكرانيا على هجوم نووي روسي؟
يشعر الأوكرانيون بسكرة النصر بعد أن حققوا تقدماً لم يتوقعوه لا هم ولا رعاتهم الغربيون ضد ثاني أقوى جيش في العالم، ويؤكدون أنهم ينوون تحرير كل أراضيهم.
المفارقة أن هذا الزهو يأتي في وقت يبدو فيه وجود أوكرانيا كدولة وشعب مهدداً بالفناء الجماعي أكثر من أي وقت مضى، حتى أكثر من زمن حملة التجويع التي يقال إنها متعمدة ونفذها الدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين في القرن الماضي، بهدف القضاء على القومية الأوكرانية في ثلاثينيات القرن الماضي وأدت إلى موت الملايين.
والمفارقة الثانية أن أوكرانيا كانت دولة نووية فور انهيار الاتحاد السوفييتي، وكانت تمتلك عدداً كبيراً من الرؤوس النووية ووسائل إطلاقها، وضمن ذلك صواريخ باليستية عابرة للقارات وقاذفات استراتيجية، ولكنها تخلت عن كل ذلك لروسيا بضغط وتمويل أمريكيين بالأساس، مثلما فعلت كازاخستان وبيلاروسيا عام 1994، وتعهدت روسيا وأمريكا وبريطانيا في ذلك الوقت بضمان أمنها في مذكرة ثبت أنه لا قيمة لها.
ورغم زهو الانتصارات الأخيرة يبدو أن الحكومة الأوكرانية تنظر إلى التهديد النووي الروسي بجدية.
فوفقاً لأحد كبار مستشاري الرئيس فولوديمير زيلينسكي، تعتقد وكالات الاستخبارات في البلاد أن هناك خطراً مرتفعا للغاية" يتمثل في أن تستخدم روسيا ما يسمى بالأسلحة النووية التكتيكية، بل حتى يمكنها استخدام الأسلحة النووية الأكبر قليلاً المصممة لساحات المعركة البرية.
ولكن كييف رغم أنها ترى الخطر، فإن زهوة التقدم مازالت تعميها، وها هو الرئيس الأوكراني يصدر قانوناً يمنع التفاوض مع روسيا في ظل وجود الرئيس بوتين، ليسكب مزيداً من الزيت على نار الحرب النووية.
وقد يكون هدف الأوكرانيين، تحرير أكبر قدر ممكن من الأراضي قبل وصول الوضع لحافة الحرب النووية التي ستجبرهم على الاتفاق.
ولكنهم إذا كانوا يريدون المخاطرة بالوصول لحافة الهاوية النووية مع تجنب احتمال الانجراف إليها، فإنهم يحتاجون على الأقل إلى استراتيجية محددة للرد على أي هجوم نووي محتمل، وأن تكون هذه الاستراتيجية واقعية ومعلنة لأن جزء من الردع النووي أن يكون معروفا للخصم.
مع استبعاد فكرة أن تقدم أمريكا لأوكرانيا، أسلحة نووية، يبقى أمل كييف في رد عسكري تقليدي يردع الروس.
وتلقت أوكرانيا عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات العسكرية ، بما في ذلك 15 مليار دولار من الأسلحة والمعدات من الولايات المتحدة. ومع ذلك، بعد أن لوح بوتين بالخيار النووي الأسبوع الماضي، دعا زيلينسكي حلفاءه الغربيين إلى تزويد جيشه بالدبابات لتطوير الهجمات في الشرق والجنوب، وكذلك تقديم الدفاعات الجوية لحماية البنية التحتية المدنية من القصف الروسي،
إذا نفذ بوتين تهديده النووي، فقد يشعر هؤلاء الحلفاء بمزيد من الضغط للموافقة على طلب زيلينسكي.
هل يكفي تقديم أسلحة بعيدة المدى لردع بوتين؟ كييف قد يكون لديها خيارا فعالاً
يمكن للغرب وخاصة الولايات المتحدة تزويد أوكرانيا بصواريخ ATACMS أرض – أرض بمدى يصل إلى 200 ميل، كما يقترح ستيفين بيفر الباحث المتخصص في مبادرة الحد من الأسلحة وعدم الانتشار النووي في مقال بموقع Brookings الأمريكي.
ولكن الأوكرانيين يعلمون من تجربتهم الذاتية مع القصف الروسي أن الصواريخ بدون رؤوس نووية، قد تكون مؤذية للمدنيين، ولكن ليست مدمرة عسكرياً، ولا تغير كثيراً موازين القوى، ولن يؤدي إطلاق بضعة مئات من الصواريخ ضد أهداف عسكرية روسية لتدمير قدرة موسكو على الرد بل قد يستفزها ويزيد من ضراوتها.
ولكن هناك خيار محتمل يمكن أن يردع روسيا باستخدام أسلحة تقليدية، وهو تهديد كييف بضرب محطات الطاقة النووية الروسية، ورغم أن المفاعلات النووية تكون محمية جيداً، ولكن ضربة بأسلحة تقليدية شديدة التدمير ودقيقة، يمكن أن تؤدي لتفجيرها، أو تطلق تلوثاً إشعاعياً واسع النطاق (يمكن في أسوأ الأحوال أن يكون أشد من القنابل النووية).
ويزداد هذا الخيار فعالية، إذا زود الأمريكيون أوكرانيا بمقاتلات من طراز إف 16، والمقاتلات القاذفة متوسطة المدى من طراز إف 15 ستريك إيغيل، والأخيرة تحديداً قادرة على الوصول لمناطق واسعة في روسيا (مداها أكثر من 3 آلاف كيلومتر)
ويمتلك الأمريكيون أكثر من 1200 طائرة إف 16، ونحو 200 طائرة إف 15 ذات قدرات القصف الجيدة، إضافة إلى أكثر من 200 من نسختها القديمة إف 15 " إيغيل" التي تفتقد قدرات القصف ولكن يمكنها حماية الطائرات التي ستقوم بمهام القصف، وبعض من هذه الطائرات اقترب من الخروج من الخدمة الأمريكية رغم أنه في حالة جيدة.
ولكن الأمريكيين لم يتجاوبوا مع إلحاح الأوكرانيين على تزويدهم بهذه الطائرات، تارة بحجة أنهم يحتاجون وقتاً طويلاً للتدريب عليها، وتارة بأن هذه الخطوة سوف تمثل استفزازاً كبيراً للروس.
ولكن المشكلة أن أكبر استفزاز للروس حالياً، هو هزائمهم أمام الأوكرانيين، وكأن الأمريكيين يزودون كييف بالأسلحة الرخيصة التي تكفي لاستفزاز الروس، دون أن يزودها بوسائل الحماية من هذا الاستفزاز.
ورغم أن نجاح أي هجوم أوكراني على محطات الطاقة النووية الروسية، يمكن أن يلحق دماراً وتلوثاً إشعاعياً كبيراً بأوكرانيا نفسها، ولكنه سيناريو يفترض أن يحدث فقط في حال تعرض أوكرانيا قبله لهجوم نووي روسي سيخلف بدوره آثاراً واسعة.
وبالتالي فإن هذا التهديد، يمكن أن يشكل نوعاً من الردع لروسيا، قريب للردع الذي توفره الأسلحة النووية، وهو خطر الدمار المتبادل.
ولكن مثل هذا الردع، لكي يكون مانعاً لضربة نووية روسية، يحتاج إلى أن يتم الإعلان عنه مسبقاً لإثناء بوتين عن تنفيذ أي هجوم نووي روسي، ويحتاج إلى أن تزود أمريكا أوكرانيا بالطائرات والصواريخ التي يمكنها استهداف محطات الطاقة النووية الروسية وتدرب طياريها فترة كافية عليها.
وهو أمر يحتاج موافقة الكونغرس، وعملية تدريب وتمويل وواسعة كما أن المشكلة الأكبر أنه قد يمثل استفزازاً لروسيا يسرع خططها المحتملة لتوجيه ضربة نووية قد تكون أسبق من وصول هذا الدعم الأمريكي.
أي أنه حل لو لم ينفذ بحنكة قد يسرع الضربة النووية الروسية ويحولها من خيار افتراضي إلى واقع.
ولذا فالأفضل للجميع، إعلان وقف لإطلاق النار والعودة لطاولة المفاوضات، وكما، كتب كريستوفر تشيفيس ، مدير برنامج فن الحكم الأمريكي في مركز كارنيغي: "إن وقف إطلاق النار سيساعد على تهدئة الوضع وتجنب المزيد من التصعيد". "يجب على العواصم الغربية على الأقل أن تشير للزعماء الأوكرانيين أن آفاقهم في استعادة كل أراضيهم قد لا تكون مشرقة كما يأملون."