غواصة بيلغورود النووية الروسية هي أطول غواصة في العالم، وتحمل طوربيدات بوسايدون، وكلاهما -الغواصة والطوربيد- يوصف بأنه سلاح "يوم القيامة"، فكيف يمكن أن تختفي غواصة بهذا الحجم؟
أنباء "اختفاء" الغواصة الروسية جاءت في بيان تحذيري أرسله حلف الناتو للدول الأعضاء فيه، بحسب وسائل إعلام إيطالية وبريطانية، موضحاً أن بيلغورود لم تعد موجودة في القاعدة البحرية الرئيسية في القطب الشمالي، حيث كانت توجد منذ دخولها الخدمة في يوليو/تموز الماضي.
بيان الناتو حذر الدول الأعضاء من أن الرئيس فلاديمير بوتين "ربما يكون قد نشر الغواصة النووية، التي تحمل أسلحة مدمرة قادرة على إحداث موجات تسونامي تغرق مدناً ساحلية بأكملها، وتجعل تلك المدن غير قادرة صالحة للحياة".
ما مواصفات ومهام الغواصة بيلغورود؟
وقبل أن نحاول قراءة ما قد يعنيه بيان "الاختفاء" الصادر عن الناتو، أو معرفة أين يمكن أن يكون مسار غواصة "يوم القيامة" في هذا التوقيت، من المهم التوقف عند مواصفاتها وقدراتها القتالية أولاً.
كانت البحرية الروسية قد سلمت غواصة بيلغورود، مطلع يوليو/تموز الماضي، في ميناء سيفيرودفينسك، ويقول الخبراء إنَّ تصميمها هو نسخة مُعدّلة من الغواصات الروسية ذات الصواريخ المُوجّهة من فئة "أوسكار2″، لتصير أطول بهدف استيعاب أول طوربيدات شبح مُسلّحة نووياً في العالم، ومعدات لجمع المعلومات الاستخباراتية.
تعد بيلغورود، التي يبلغ طولها أكثر من 184 متراً، أطول غواصة في المحيط اليوم، وهي أطول حتى من غواصات الصواريخ الباليستية والمُوجّهة، فئة أوهايو التابعة للبحرية الأمريكية، التي يبلغ طولها 171 متراً.
وذكرت وكالة أنباء TASS الحكومية الروسية أنَّ بيلغورود طُرِحَت في عام 2019، وكان من المتوقع تسليمها للبحرية الروسية في عام 2020 بعد التجارب والاختبارات، لكن تأجّل التسليم بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد. ولم يُحدَّد جدول زمني للنشر الأول للغواصة.
وما يميز بيلغورود عن أي من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية في الأسطول الروسي، أو عن أي من الغواصات النووية التي تعمل في أي مكان في العالم، هو مهمتها.
كما تحمل الغواصة طوربيدات بوسايدون النووية قيد التطوير، المُصمَّمة لإطلاقها عن بُعد مئات الأميال، والتسلل عبر الدفاعات الساحلية من خلال السفر على طول قاع البحر. وقال كل من المسؤولين الأمريكيين والروس إنَّ الطوربيدات يمكن أن تطلق رؤوساً حربية وزنها عدة ميغا طن؛ ما يتسبب في موجات مشعة تجعل مساحات شاسعة من الساحل المستهدف غير صالحة للسكن لعقود.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، قال كريستوفر فورد، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الأمن الدولي وعدم الانتشار، إنَّ طوربيدات بوسايدون مُصمَّمة "لإغراق المدن الساحلية الأمريكية بموجات تسونامي المشعة".
طوربيد بوسايدون النووي، الملقب أيضاً بـ"سلاح يوم القيامة"، عبارة عن سلاح يشبه المركبة المسيرة، ويتم إطلاقه والتحكم فيه عن بعد، يمكنه قطع مسافة نحو 1000 كيلومتر في عمق المحيط، لتفادي وسائل الدفاع والرصد البحرية.
وتحمل المركبة المسيرة، أو الطوربيد بوسايدون، رأساً حربياً نووياً في المقدمة تبلغ قوته 2 ميغا طن، أي أكبر 130 مرة من القنبلة الذرية التي فجرتها الولايات المتحدة في هيروشيما اليابانية (عام 1945).
ومن شأن ذلك التفجير المرعب أن يؤدي إلى تسونامي مشع يصل ارتفاعه إلى 487 متراً، مصمم لإغراق المدن الساحلية وتركها أرضاً للنفايات النووية. وبحسب التقارير الاستخباراتية الأمريكية، تحمل الغواصة بيلغورود على متنها 6 طوربيدات بوسايدون.
أين اختفت الغواصة الروسية؟
الغواصة بيلغورود الروسية يمكنها أن تظل تحت سطح الماء لمدة 120 يوماً، دون الحاجة للعودة إلى السطح لأي سبب من الأسباب، وبالتالي قد يكون مصطلح "اختفاء"، الوارد في بيان أو مذكرة الناتو التحذيرية، يقصد به أن أجهزة الرصد والتتبع لدى الحلف العسكري الغربي غير قادرة على تحديد مكان الغواصة، التي ربما تكون غير بعيدة عن قاعدتها الرئيسية في القطب الشمالي من الأساس.
المذكرة التحذيرية للناتو نفسها قالت إنه "لا يزال وارداً أن الغواصة تعمل في القطب الشمالي ولم تغادره"، مضيفاً أن غواصة "يوم القيامة" قد تكون في طريقها إلى بحر كارا المجاور للقطب الشمالي لاختبار الطوربيد النووي بوسايدون.
ومن المهم هنا ذكر معلومة أن روسيا لم تجر اختباراً للرأس الحربية النووية التي يحملها بوسايدون، وذلك بسبب معاهدة الحظر الدولي على تجارب الأسلحة النووية، الموقعة منذ سبتمبر/أيلول 1996، والتي وقعت عليها أغلب دول العالم، ومنها روسيا بطبيعة الحال. وتحظر تلك المعاهدة على الدول إجراء، أو المشاركة في أية تفجيرات نووية تجريبية.
وبطبيعة الحال، إذا كانت الغواصة الروسية في طريقها لإجراء مثل ذلك الاختبار النووي، فمن المستحيل ألا يشعر الغرب بتفجير كهذا، كما أن أي نفي روسي في هذا الصدد لن يجد آذاناً مصغية، ولا حتى من حلفاء موسكو أنفسهم.
وبطبيعة الحال، سيمثل انتهاك معاهدة حظر التفجيرات النووية من خلال إجراء روسيا اختباراً عملياً لطوربيد بوسايدون النووي خطوة تصعيدية مرعبة بكل المقاييس، خصوصاً في هذا التوقيت الحساس للغاية.
فالحرب في أوكرانيا دخلت مرحلة خطيرة تواجه فيها القوات الروسية انتكاسات متكررة وشبه يومية، وأصبح الحديث عن إمكانية تحقيق القوات الأوكرانية انتصاراً عسكرياً يصم الآذان في الغرب، بغض النظر عن مدى واقعية ذلك السيناريو. كما أن قرار بوتين ضم 4 مدن أوكرانية رسمياً إلى الاتحاد الروسي، بعد إجراء "استفتاءات" ندد بها الغرب، لم يؤدّ إلى تراجع الداعمين الغربيين لأوكرانيا عن إمدادها بمزيد من الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية بغرض حسم الحرب.
ما سيناريوهات تحرك الغواصة الروسية إذاً؟
ليس واضحاً متى أرسل الناتو مذكرته التحذيرية إلى الأعضاء، لكن صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، أو من سرب تحذير الحلف العسكري الغربي من "اختفاء" غواصة يوم القيامة الروسية، كانت قد نشرت البيان يوم الأحد 2 أكتوبر/تشرين الأول، ما يعني أن "تحرك" بيلغورود ربما يكون قد بدأ بعد قرار ضم المناطق الأوكرانية رسمياً، الذي وقعه بوتين واحتفل به الجمعة 30 سبتمبر/أيلول الماضي.
وبعد أن أصبح احتمال استخدام الأسلحة النووية من جانب روسيا وارداً وبقوة، بحسب تصريحات بوتين نفسه، من الطبيعي أن يثير هذا "الاختفاء" للغواصة النووية بيلغورود قدراً كبيراً من القلق والتكهنات بشأن "المهمة" التي قد تكون تستعد لها.
إذ قال الكرملين، الاثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول، إنه يفضل "نهجاً متوازناً" وليس مدفوعاً بالعواطف فيما يتعلق بمسألة استخدام الأسلحة النووية، وذلك رداً على دعوة رمضان قديروف، زعيم منطقة الشيشان الروسية، موسكو إلى استخدام "سلاح نووي منخفض القوة" في أوكرانيا.
ورداً على سؤال عن تصريحات قديروف، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن من حقه التعبير عن رأيه، لكن النهج العسكري الروسي ينبغي ألا يكون مدفوعاً بالعواطف: "هذه لحظة عاطفية جداً. ولرؤساء المناطق الحق في التعبير عن وجهات نظرهم".
وقال بيسكوف إن أساس أي استخدام للأسلحة النووية منصوص عليه في العقيدة النووية الروسية، مضيفاً: "لكن حتى في اللحظات الصعبة، يجب أن تبقى العواطف بعيدة عن أي نوع من التقييم. لذلك نفضل التمسك بالتقييمات المتوازنة والموضوعية"، بحسب رويترز.
وتسمح العقيدة النووية الروسية باستخدام تلك الأسلحة إذا تم استخدام سلاح نووي، أو أي سلاح آخر من أسلحة الدمار الشامل، ضد روسيا، أو إذا واجهت الدولة الروسية تهديداً وجودياً بسبب أسلحة تقليدية.
وقال بيسكوف: "لا يمكن أن تكون هناك اعتبارات أخرى عندما يتعلق الأمر بذلك"، موضحاً أن هذه الحماية النووية تمتد إلى المناطق الأربع في أوكرانيا التي أعلنت موسكو ضمها.
تطرح هذه المعطيات أسئلة بديهية تتعلق بالغواصة بيلغورود المختفية حالياً، فهل تستعد موسكو لأن تطلق طوربيداً نووياً من طراز بوسايدون دون أن تختبره؟ أين سيتم تفجيره؟ هل سيكون الهدف الأول أوروبياً أم أمريكياً؟ وغيرها من التساؤلات المشابهة.
لكن يرى أغلب المحللين أن تحرك الغواصة بيلغورود على الأرجح هدفه توجيه رسالة ردع نووي إلى الغرب، مفادها أن موسكو مستعدة لجميع الاحتمالات. إذ كان تقرير صادر عن خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي، في أبريل/نيسان الماضي، أنَّ طوربيدات بوسايدون تهدف إلى أن تكون أسلحة انتقامية، مُصمَّمة للرد على عدو بعد هجوم نووي على روسيا.
وفي ظل استمرار الانتصارات الأوكرانية في ساحة المعركة، والتي تتم بسبب الدعم الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً، واعتبار القيادة الروسية أنها في حالة "حرب وجودية" مع الغرب، يصبح احتمال لجوء بوتين لأسلحة غير تقليدية لوقف التقدم الأوكراني وارداً بقوة، وقد يحدث في أي وقت.
هذا السيناريو لم يعد افتراضياً أو تخمينياً على الإطلاق، حيث ردت إدارة بايدن على خطوات روسيا العدائية بزيادة دعمها لأوكرانيا قبل وأثناء الحرب. بينما ردت الحكومة الروسية في كل مرة بالتصعيد أكثر، وإذا استمرت دورة التصعيد الحالية دون رقيب فسوف تتحول فكرة اندلاع المواجهة النووية المباشرة بين أمريكا وروسيا إلى احتماليةٍ قائمة.
الخلاصة هنا هي أن بوتين قد يأمر بتفجير سلاح نووي تكتيكي على الأراضي الأوكرانية، أو استخدام أسلحة بيولوجية أو كيماوية، والأرجح أن يكون "اختفاء" الغواصة النووية بيلغورود في هذا التوقيت يهدف إلى إرباك الغرب، وهو ما حدث بالفعل حتى الآن، ومن ثم تمركز سلاح "يوم القيامة" في منطقة تمكنها من أن تكون قادرة على إطلاق "بوسايدون" لاستهداف مدن غربية حال اندلعت الحرب النووية بالفعل.