برج إيفل يغرق في الظلام ليلاً. عاصمة النور تعيش أجواء ما قبل الكهرباء. تحذيرات من شتاء قارس البرودة ينتظر أوروبا، بعد صيف حارق وجفاف خانق جعل أغلب مناطق القارة الخضراء أشبه بصحراء جرداء.
من وزيرة توصي بالاستحمام الجماعي لتوفير الطاقة، إلى حكومات تفرض غرامات على المحال التي تترك بابها مفتوحاً والمكيّف يعمل، وإجراءات لم يكن أحد يتخيل لجوء دولة أوروبية إليها، والسبب أزمة الطاقة غير المسبوقة.
يقولون: على نفسها جنت أوروبا، وعلى الأرجح هم محقون، فالقارة العجوز تسدد الآن فاتورة قرارات خطأ وصراعات لم يكن لها أن تندلع من الأساس.
الرئيس إيمانويل ماكرون حذر الفرنسيين من "التحول الكبير" مع "نهاية الوفرة"، والتحذير أو التنبيه يتعلق أساساً بالكهرباء. وفي بريطانيا، حيث تخيم أجواء الحزن لوفاة الملكة إليزابيث، تقول التقارير إن الاقتصاد دخل مرحلة ركود بالفعل، والسبب أزمة الطاقة وتراجع الطلب على الكهرباء بسبب الأسعار الخانقة.
الموقف العصيب ليس مقتصراً على باريس أو لندن، بل يخيم شبح الظلام والبرد القارس على القارة العجوز، مع بداية الخريف، والقادم يبدو أكثر قسوة مع قدوم الشتاء الأكثر رعباً في تاريخ أوروبا منذ أنارت الكهرباء شوارعها قبل أكثر من قرن ونصف.
تعددت الأسباب والظلام واحد
وقبل الدخول إلى تفاصيل معاناة الأوروبيين من ارتفاع أسعار الطاقة لمستويات غير مسبوقة وشح المتاح من الكهرباء، من المهم أن نبدأ القصة من بدايتها، فذلك "التحول الكبير"، كما وصفه الرئيس الفرنسي، لم يبدأ منذ أواخر فبراير/شباط الماضي، حين أطلقت روسيا ترسانتها العسكرية على جارتها الأوكرانية، وإن كانت تلك الحرب قد فاقمت الأزمة دون شك.
التغير المناخي هو السبب الرئيسي وراء موجات الطقس المتطرف التي تضرب العالم بمنتهى العنف منذ سنوات، وزادت وتيرتها بشكل لافت منذ العام الماضي، الذي وصفه كثير من قادة العالم، ومنهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بأنه "عام المناخ".
والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة كارثية بكل المقاييس على جميع مظاهر الحياة البشرية على الكوكب.
وإذا كانت الأمطار والسيول والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة وانخفاضها والعواصف وحرائق الغابات تمثل جميعاً ظواهر مناخية ليست دخيلة علينا كبشر، فإن تكرار حوادث الطقس المتطرف بفواصل زمنية تقل شيئاً فشيئاً هو أخطر سمات التغير المناخي والاحتباس الحراري، بحسب علماء المناخ.
وفيما يتعلق بالقارة العجوز على وجه الخصوص، كانت ألمانيا قد شهدت في صيف العام الماضي فيضانات قياسية نتجت عنها سيول متدفقة جرفت في طريقها المنازل والمتاجر والشوارع في المدن والقرى الخلَّابة على طول نهر "أهر" وغيره من الأنهار، وخلفت أضراراً بشرية ومادية ضخمة.
كانت تلك الفيضانات قد نتجت عن عاصفةٍ تباطأت إلى أن زحفت فوق أجزاءٍ من أوروبا، وألقت أمطاراً غزيرة وصل ارتفاعها عن الأرض إلى 6 بوصات على المنطقة القريبة من كولونيا وبون. وكانت هناك فيضاناتٌ أيضاً في بلجيكا وهولندا وسويسرا، لكن أسوأ الفيضانات كانت في ألمانيا.
أما هذا الصيف فقد شهدت أوروبا ارتفاعات في درجات الحرارة لم تشهدها القارة منذ أكثر من 500 عام، أدت إلى موجة جفاف مرعبة، إذ ضربت 4 موجات من الحر القائظ ربوع القارة العجوز، ليقضي الأوروبيون صيفاً خانقاً لم يعتادوا عليه بالمرة، لكن الأمور غير المعتادة هناك على وشك أن تستمر، مع قدوم الخريف والشتاء، فالحر القائظ سيتحول إلى برد قارس، والظلام قد يصبح سيد الموقف.
وتتحمل أوروبا جانباً كبيراً من المسؤولية فيما يتعلق بالتغير المناخي، حيث بدأت منها الثورة الصناعية قبل أكثر من قرنين، وتلك الثورة هي السبب الرئيسي وراء تسريع عملية ارتفاع درجة حرارة الكوكب وظاهرة الاحترار أو الاحتباس الحراري، بحسب خبراء المناخ.
أما السبب الآخر، وهو غير منفصل بالأساس عن السبب الرئيسي، فهو قرار أغلب دول القارة العودة لاستخدام الفحم في محطات توليد الكهرباء، بعد أن ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بصورة غير مسبوقة، وفي ظل سعي دول الاتحاد الأوروبي للتخلص من "إدمان الغاز الروسي"، على خلفية الهجوم على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو وعدوان غير مبرر".
وبغض النظر عن موقف الاتحاد الأوروبي من الأزمة الجيوسياسية بين روسيا والولايات المتحدة، بات واضحاً الآن أن دول القارة العجوز ومواطنيها يتحملون الجزء الأكبر من تداعيات الحرب، والتي كشفت مدى اعتمادية القارة على مصادر الطاقة من خارجها، وبصفة أساسية من روسيا.
أزمة الطاقة.. تقشف وتخفيف أحمال والقادم يبدو أسوأ
بعد أن وجدت نفسها في مواجهة أسوأ مخاوفها بالفعل، تكثف الحكومات الأوروبية جهودها من أجل إيجاد بدائل عاجلة للغاز الروسي، جنباً إلى جنب مع وسائل لدعم وحماية الأسر والشركات التي ترزح تحت تأثير الارتفاعات القياسية لأسعار الطاقة، حيث تواجه أوروبا ارتفاعاً حاداً في فواتير الكهرباء مدفوعاً بالارتفاع الهائل في أسعار الغاز.
وبدأت الأزمة الأوروبية مع الطاقة مع قرارات روسيا تخفيض كمية الغاز التي ترسلها إلى أوروبا، لترتفع الأسعار وسط مخاوف من أن موسكو ستزيد من تخفيض الإمدادات وربما تقطعها تماماً مع دخول فصلي الخريف والشتاء، وهو ما يهدد القارة العجوز بالبرد والظلام معاً.