قروض الصين لدول العالم الثالث مهددة بالضياع، لدرجة أن بكين اتجهت لصندوق النقد الدولي فيما يبدو أنه محاولة ضمان حصولها على أموالها أو جزء منها.
وصارت الحكومة الصينية أكبر دائن حكومي في العالم للدول النامية، إلا أنها قد تضطر حالياً إلى إعادة هيكلة الديون المستحقة لها لدى بلدان عديدة. ومن المنتظر أن تكون هذه المسألة على صدارة جدول أعمال صندوق النقد الدولي، والاجتماعات السنوية للبنك الدولي، في وقت لاحق من هذا الشهر، حسبما ورد في تقرير وكالة Bloomberg الأمريكية.
ما هو حجم قروض الصين لدول العالم الثالث؟
ومن الصعب معرفة حجم قروض الصين لدول العالم الثالث بدقة، لأنها تتنوع بين قروض مقدمة من الحكومة الصينية وأخرى من البنوك الصينية، وبعضها مقدم للحكومات وأخرى مقدم لشركات تابعة للحكومة، ولكن ميزانيتها لا تظهر في ميزانيات الحكومات.
ووفقاً لوزارة الخارجية الصينية، قدمت الصين في غضون عقد واحد فقط نحو تريليون دولار في شكل قروض واستثمارات ومنح وأموال أخرى لمشروعات التنمية في ما يقرب من 150 دولة؛ مثل الإكوادور وأنغولا. وصارت الصين، لأول مرة، أكبر دائن رسمي في العالم.
وفي نهاية عام 2020، كانت الدول الـ68، الأفقر في العالم مجتمعة، تدين بنحو 110 مليارات دولار أمريكي للعديد من المقرضين الصينيين في الديون الثنائية الرسمية، وفقاً لتقديرات مركز التمويل والتنمية الأخضر في جامعة فودان في شنغهاي، أوردتها صحيفة "ساوث تشاينا مورننغ بوست"، ارتفاعاً من 105 مليارات دولار أمريكي في عام 2019. وكانت الصين أكبر دائن منفرد بعد جمعية التنمية الدولية التابعة للبنك الدولي، كما يقول التقرير.
وفقاً لخبراء الاقتصاد، سيباستيان هورن وكارمن راينهارت وكريستوف تريبيش، الذين كتبوا عن الديون الدولية، ما يقرب من 60% من قروض الصين الخارجية مملوكة الآن لبلدان تعتبر في ضائقة مالية، مقارنة مع 5% في عام 2010.
وسبق أن أعلنت الصين، خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي الذي عقد الشهر الماضي عزمها إلغاء 23 قرضاً بدون فوائد قدمتها لـ17 دولة إفريقية، وتوجيه 10 مليارات دولار من أرصدتها في صندوق النقد الدولي إلى دول القارة، وفقاً لوكالة "بلومبيرغ" الأمريكية.
وتخضع مبادرة الحزام والطريق الآن لمراجعة جذرية بسبب مسألة الديون الائتمانية.
تتمثل إحدى العقبات الرئيسية للصين أمام العمل على مشروع الحزام والطريق، في حين أن بعض البلدان النامية أصبحت غير قادرة على سداد ديونها، الأمر الذي دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ العام الماضي إلى الإقرار بأن مشروع الحزام والطريق دخل مرحلة حساسة تجبره على التعامل مع مجموعة من القضايا "المتزايدة التعقيد".
تتمثل إحدى العقبات الرئيسية للصين أمام العمل على مشروعها، في أن بعض البلدان النامية أصبحت غير قادرة على سداد ديونها، الأمر الذي دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ العام الماضي إلى الإقرار بأن مشروع الحزام والطريق دخل مرحلة حساسة تجبره على التعامل مع مجموعة من القضايا "المتزايدة التعقيد".
المسؤولون الصينيون الماليون يخشون التعرض للاتهام بتبديد الأموال العامة
وتنضم بكين لأول مرة إلى الدول الدائنة الكبرى في "نادي باريس" في مبادرة لإعادة جدولة ديون إحدى الدول: زامبيا، وهو نموذج من المتوقع أن يُتَّبع مع بلدان أخرى من الدول المدينة ذات الدخل المنخفض.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مع إضافة تأثيرات الوباء مزيداً من الضغط على المقترضين، وافقت بكين على التوقيع على الإطار المشترك، وهو جهد دولي لتخفيف الديون أقرته مجموعة العشرين يساعد في تنسيق مفاوضات الديون بين الدائنين.
صرحت المصادر بأنَّ ما دفع الصين إلى الموافقة على التوقيع هو الاعتقاد أنَّ المقرضين الصينيين سيكونون في وضع أفضل للدفاع عن مصالحهم إذا كانوا ينسقون مع دائنين آخرين.
لكن الأمر لا يزال يواجه بعض العقبات، منها المتعلق بسياسات داخلية في الصين، مثل تنافس الوزارات وقوة البنوك، ومنها المتعلق بسياسات خارجية، مثل علاقة الصين المتوترة مع الغرب، وقد أدى ذلك إلى بعض التأخير في تخفيف الديون.
على سبيل المثال، المسؤولون الماليون في بكين غاية همهم الحرص على عدم اتهامهم بإهدار المال العام عبر توزيع قروض الصين بشكل غير سليم، أما وزارة الخارجية الصينية- التي يعنيها الحفاظ على صورة البلاد في الخارج والمخاوف من تضررها- فتميل أكثر إلى إعادة هيكلة الديون.
فهناك ضعف في التنسيق بين المؤسسات الصينية المانحة للأموال
تُظهر مسألة جدولة ديون زامبيا أن ضعف التنسيق بين المؤسسات والشركات الصينية كان حاضراً في مشروعات البنية التحتية "مبادرة الحزام والطريق" بالبلاد منذ البداية. فقد خلصت ديبورا بروتيغام، الباحثة وعالمة السياسة في جامعة "جونز هوبكنز" الأمريكية، إلى أن 18 مصرفاً وشركة صينية مختلفة قدمت قروضاً لمشروعات في زامبيا. ويبدو أن تلك البنوك والشركات لم تُحسن التواصل لتنظيم عمليات الإقراض فيما بينها، ولا يبدو أن أحداً في بكين يُعنى بتنسيق الأمور في هذا الشأن، بحسب ما تقول الباحثة الأمريكية.
قالت بروتيغام إن "انتشار الشركات المقرِضة نشأت عنه مشكلة عويصة من مشاعية القروض، فكل شركة ومصرف تبحث بمفردها عن زيادة أرباحها، وتموِّل المشروعات دون الاعتناء بالنظر في مسألة قدرة المقترضين على تحمل هذه الديون، وديون المقرضين الآخرين، ومدى القدرة على السداد".
كما أن حكومات العالم الثالث كانت تستخدم القروض لأغراض انتخابية
يوضح مثال زامبيا أيضاً دور القرارات الحكومية في تحديد طبيعة الديون بالبلدان التي اقترضت من الصين، فقد أقامت حكومة زامبيا مشروعات جديدة لحشد التأييد لها في سنوات الانتخابات، وكانت غايتها زيادة أصوات مؤيديها في أقرب وقت، بدلاً من تمويل المشروعات التي قد تعود عليها بأرباح مالية مضمونة على المدى الطويل.
الدول النامية هي من تحدِّد المشروعات التي تُقام وتُخصص لها القروض: فقد صمم المسؤولون الأفارقة مشروع "ميناء لامو" في كينيا وممر النقل بين جنوب السودان وإثيوبيا في شرق إفريقيا قبل زمن طويل من إعلان الصين عن مبادرتها العالمية. وقد نظر البنك الدولي في تمويل مشروع سدِّ زامبي قبل أي مشاركة للصين في الأمر.
قال فرانغتون شييمورا، المحاضر في التنمية الدولية بالجامعة المفتوحة في بريطانيا والمهتم بدراسة المشروعات الصينية في المنطقة، إن "دول شرق إفريقيا (إثيوبيا وتنزانيا وكينيا) كانت صاحبة رأي وشريكة في تحديد مشروعات البنية التحتية التي تمولها الصين وتشيدها".
سعى رئيس زامبيا، هاكيندي هيشيليما، سعياً واضحاً إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة منذ انتخابه في عام 2021. ويرى شييمورا أن ذلك زاد من الضغوط على الصين لإعادة هيكلة ديون زامبيا، وهو أمر حدث من قبل في دول أخرى، مثل تنزانيا.
ولكن عملية الهيكلة سوف تؤدي إلى فرض شروط قاسية من قبل صندوق النقد
ومن المؤكد أيضاً أن مساعي جدولة قروض الصين لدول العالم الثالث ستستدعي مزيداً من التدقيق في دور صندوق النقد الدولي، لا سيما أن الصندوق اشتد نشاطه في الآونة الأخيرة، فأعلن عن برامج لإقراض باكستان (3.5 مليار دولار)، وسريلانكا (2.9 مليار دولار)، وزامبيا (1.3 مليار دولار)، فضلاً عن المحادثات الجارية مع مصر وغانا بشأن تمويل طارئ لهما.
جاء تنسيق الصين مع "نادي باريس" في حالة زامبيا تنسيقاً رسمياً تحت رعاية المبادرة المعروفة باسم "الإطار المشترك"، وهي مبادرة لإعادة هيكلة ديون مجموعة العشرين، إلا أن هذه الخطة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصندوق النقد الدولي.
أولاً، إذا رأت المؤسسات أن دولة الاقتراض عاجزة عن الوفاء بديونها، فإنها لكي تقترض من صندوق النقد الدولي يتعين عليها بذل المساعي لإعادة هيكلة نظامها المالي، وستكون مبادرة "الإطار المشترك" هي السبيل المعني بتنظيم ذلك.
ثانياً، يجري صندوق النقد الدولي فحصاً لقدرة هذه الدول على تحمل الديون والوفاء بها، وهو الفحص الذي يستخدمه الدائنون الحكوميون والدائنون غير الحكوميين (مثل المصارف والبنوك الخاصة وحاملي الأسهم) دليلاً لمقدار الإعفاء الذي ينبغي توفيره.
وغالب الأمر أن الموجة الجديدة من برامج الإقراض التي يقدمها صندوق النقد الدولي ستؤدي إلى سخط شديد من المواطنين، وانتقادات من منظمات المجتمع المدني الدولية؛ لما يترتب عن هذه القروض من تخفيض في الإنفاق الحكومي وخصم من الدعم المخصص للمواطنين، كما حدث في التسعينيات.
بدأت الشكاوى بالفعل في زامبيا، فصندوق النقد الدولي يريد من الحكومة أن تخفض الدعم المخصص للوقود في وقت ترتفع فيه أسعار الطاقة. وقد وصفت مؤسسة "أكشن إيد" ActionAid الدولية المعنية بمكافحة الفقر، الأمر بالقول: "يعتمد هذا البرنامج على حزمة التقشف المعتادة من صندوق النقد الدولي، وإن كان تسليمه يأتي على هيئة مقويِّات" مبالغ في تأثيرها.
وقال ندونغو سامبا سيلا، الباحث في شؤون التنمية الاقتصادية بالسنغال في مؤسسة "روزا لوكسمبورغ"، إن كثيراً من الدول تواجه خطر الوقوع في نمط تاريخي متكرر، إذ تؤدي أزمة الديون إلى مدة مطولة؛ مما يُسمى بـ"الإصلاح الهيكلي"، يُعاد فيها تشكيل الاقتصاد الوطني للدول ليتمحور حول خدمة الدائنين الأجانب وسداد قروضهم، كما حدث في الثمانينيات والتسعينيات.
وأكد سيلا أن تلك "الإصلاحات الهيكلية" لم تحل أزمة الديون لدى هذه الدول، بل كان "الإلغاء الجزئي للديون، وتحسين شروط التبادل التجاري من السبل التي أسهمت في حلها".