يبدو أن نتائج الانتخابات التشريعية الإيطالية كانت مطابقة لتكهنات استطلاعات الرأي؛ حيث تقدم اليمين المتطرف بزعامة جورجيا ميلوني بشكل كبير في هذا الاستحقاق الذي جرى الأحد 25 سبتمبر/أيلول 2022، على حساب الأحزاب التقليدية، محققاً انتصاراً تاريخياً. فمن هي جورجيا ميلوني؟ وكيف وصلت الزعيمة اليمينية إلى رأس سُدة الحكم في إيطاليا رغم تاريخها المثير للجدل؟
من هي جورجيا ميلوني؟
ارتبط اسم ميلوني منذ شبابها باليمين المتطرف في إيطاليا، وكانت هذه المرأة التي عملت كنادلة ومربية أطفال سابقاً، بحسب وكالة الأنباء الفرنسية، عضوة في "حزب الرابطة" المتشدد، الذي يتزعمه الوزير السابق ماتيو سالفيني، قبل أن تؤسس حزبها في 2012 تحت اسم "فراتيلي ديتاليا" (إخوة إيطاليا).
وتنحدر ميلوني من أحد الأحياء الشعبية في روما؛ حيث ولدت في يناير/كانون الثاني 1977، وتقول في أحد اللقاءات إن والدتها "العزباء" هي التي ربّتها منذ غادر والدها العائلة بعد ولادتها.
وانخرطت ميلوني في مرحلة الشباب بعدد من الجمعيات الطلابية التي تعرف بتوجهاتها اليمينية المتشددة. كما عملت كمربية أطفال ونادلة لسنوات. وفي 1996 ترأست جمعية في المدارس الثانوية، اتخذت الصليب السلتي شعاراً، والذي يستخدم لدى بعض من المجموعات العنصرية والنازيين الجدد.
في 2006 أصبحت جورجيا ميلوني نائبة بالبرلمان قبل أن تعيّن نائبة لرئيس مجلسه، لتصبح أصغر منتخبة في هذا المنصب. وبعد عامين، شغلت منصب وزيرة للشباب في حكومة سيلفيو برلسكوني، وهي تجربتها الحكومية الوحيدة.
تهافتت عليها وسائل الإعلام لسنوات بحكم خطابها القوي في مجتمع سياسي ذكوري، لم يتعوّد على رؤية "امرأة شقراء ذات توجهات يمينية متطرفة" بهذا القدر من الأفكار، والتي تدافع عنها بقوة أمام الجمهور في كل مرة أتيحت لها فرصة ذلك.
في نهاية 2012، أسست ميلوني حزب "فراتيلي ديتاليا" مع منشقين آخرين عن حزب برلسكوني، واختارت التموقع بمعسكر المعارضة. وعندما شكل ماريو دراغي في فبراير/شباط 2021 حكومة وحدة وطنية لإخراج إيطاليا من الأزمة الصحية والاقتصادية، كانت ميلوني وحزبها الطرف الوحيد الذي اختار عدم المشاركة في الحكومة، مؤكدة أن "إيطاليا بحاجة إلى معارضة حرة". وهذا الاختيار ساعدها كثيراً في توسيع قاعدتها الحزبية والانتخابية.
جورجيا ميلوني وريثة الأحزاب الفاشية الإيطالية الجديدة
"أنا جورجيا، أنا امرأة، أنا أم، وأنا إيطالية، وأنا مسيحية". هكذا اختارت أن تعرف جورجيا نفسها يوماً في عام 2019 أمام أنصارها في روما. لتحدد بذلك أبرز العناصر التي تحرك نشاطها السياسي ضمن وعاء هوياتي، لا يخرج عادة عن المفاهيم السائدة وسط اليمين المتطرف، المرتبط أساساً بشكل متشدد بالانتماء القومي والدين، لا سيما أنها ترفع شعار "الله الوطن العائلة". ولميلوني ابنة عمرها حوالي 16 عاماً.
وتعتبر ميلوني نفسها من ورثة "الحركة الاجتماعية الإيطالية"، التي تم تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية وتصنف ضمن الأحزاب الفاشية الجديدة. وهذا الإعجاب لم تكن تخفيه في السابق، خاصة في سنوات الشباب؛ حيث اعتبرت عندما كانت في 19 من العمر أن الديكتاتور بينيتو موسوليني كان "سياسياً جيداً".
لكنها أدركت مع مرور السنوات أنه لا يمكن لها أن توسع قواعدها الانتخابية مع البقاء سجينة الفكر الفاشي. وعملت على طمأنة المعتدلين للتمكن من الفوز. وقالت في مقابلة مع مجلة "ذي سبكتيتور" البريطانية قبل فترة قصيرة: "لو كنت فاشية لقلت ذلك".
إلا أن ذلك، لم يمنعها حتى اليوم من الإقرار بأن موسوليني "أنجز الكثير"، رغم أنه ارتكب "أخطاء" منها القوانين المناهضة لليهود ودخول الحرب. وفي الوقت نفسه، تشدد على أنه "لا مكان للأشخاص الذين يحنون إلى الفاشية والعنصرية ومعاداة السامية" في صفوف تنظيمها السياسي، لدفع تهم العنصرية والنازية عن حزبها.
يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، إنه في نهاية التسعينيات، بدأ آلاف الإيطاليين في الانضمام إلى جماعات تصف نفسها بالفاشية، وعمدوا إلى التحريض على المناهضين لها، واتهامهم بأنهم السبب في أزمة اللاجئين والاضطراب الاقتصادي والسياسي في إيطاليا. وفي هذا السياق، أُنشئ حزب "إخوة إيطاليا" عام 2012، وجاءت غالبية المنضمين إليه من "الحركة الاجتماعية الإيطالية" و"التحالف الوطني" ذي الأفكار الفاشية، ثم ترقت ميلوني، الناشطة السابقة في جبهة الشباب بالحركة الاجتماعية، بعد عامين لتصبح زعيمة للحزب.
ويقول باولو بِريزي، الصحفي الإيطالي بصحيفة La Repubblica، وصاحب كتاب "اليمين المتطرف في إيطاليا": "دعنا نقبل جدلاً بأن ميلوني ليست فاشية، وأن حزبها ليس حزباً فاشياً جديداً في جوهره. مع ذلك، فإنها لا تستطيع أن تنكر أن حزبها يضم بين صفوفه كثيراً من أنصار الفاشية… ومع فوز ميلوني في الانتخابات، فربما تعود الفاشية، أو لا تعود، لكن الأكيد أن ديمقراطيتنا ستكون في خطر"، بحسب ما صرح للغارديان.
معاداة "الأسلمة" والمهاجرين
تبدو ميلوني واعية بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقها بترؤسها الحكومة الجديدة. فزعيمة "إخوة إيطاليا" وحلفاؤها يواجهون تحديات معقدة؛ على رأسها ارتفاع أسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا والتباطؤ الاقتصادي الذي تشهده البلاد خلال السنوات الأخيرة، علما أن إيطاليا تشكل ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو بعد ألمانيا وفرنسا.
ومن هذا المنطلق، كانت واضحة في خطابها لأنصارها؛ إذ قالت ميلوني في ساعة مبكرة من صباح الإثنين بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الجزئية: "يجب أن نتذكر أننا لم نصل إلى نقطة النهاية، فنحن في نقطة البداية. اعتباراً من الغد يجب أن نثبت جدارتنا".
ولطمأنة الأوساط الإيطالية، لم تظهر ميلوني في كلمتها بلهجة تفريقية بل اعتمدت خطاباً موحداً، وبدت كامرأة سياسية مسؤولة ومستعدة لحكم إيطاليا باختلاف مشاربها وتوجهاتها السياسية.
وبنبرة تصالحية، قالت: "إذا تم استدعاؤنا لحكم هذا الشعب فسوف نفعل ذلك من أجل جميع الإيطاليين بهدف توحيد الشعب وتمجيد ما يوحده وليس ما يفرقه". وأضافت: "اليوم، يمكنكم المساهمة في كتابة التاريخ… في أوروبا، إنهم قلقون جميعاً لرؤية ميلوني في الحكومة… ستبدأ إيطاليا بالدفاع عن مصالحها القومية".
وتشمل أولوياتها إغلاق الحدود الإيطالية لحماية البلاد مما تعتبره "الأسلمة". ففي 2016 نددت ميلوني بـ"التبديل الإثني الحاصل في إيطاليا" حسب تعبيرها، على غرار الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة الأخرى في أوروبا.
ويتلخص برنامج حزب ميلوني في تخفيف البيروقراطية وإغلاق الحدود و"حماية إيطاليا من الأسلمة"، ورفع نسب الولادات والتخفيف من تدفّق المهاجرين واللاجئين، وتعزيز القيم "اليهودية والمسيحية" وتخفيض الضرائب.
كما تعتزم ميلوني إعادة التفاوض بشأن المعاهدات الأوروبية، ومكافحة "الخريف الديموغرافي" للبلاد، إضافة إلى جملة من التطلعات من المرجح أن يظهر الواقع السياسي والاجتماعي مستقبلاً أنها كانت مجرد شعارات ليس إلا، حسب مراقبين، بسبب محدودية تجربة اليمين المتطرف وزعيمته في تدبير شؤون البلاد.
ميلوني إلى سُدة الحكم في إيطاليا، كيف ستتعامل مع الاتحاد الأوروبي الذي انتقدته طويلاً؟
الآن، لم يكن مفاجئاً احتلال حزب ميلوني صدارة نتائج الانتخابات التشريعية بعد أن رشحته استطلاعات الرأي للفوز. لتكون الفائز الأكبر في هذا الاستحقاق، والتي تستعد اليوم لقيادة الحكومة الجديدة، لتكون أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ إيطاليا.
وأشارت النتائج الأولية بعد فرز أكثر من نصف الأصوات إلى حصول حزب "إخوة إيطاليا" على نحو ربع أصوات الناخبين (بين 22 و26%). فيما حقق حليف ميلوني "حزب الرابطة" بزعامة اليميني ماتيو سالفيني نتائج كارثية، بجنيه نحو 9% من الأصوات فقط، وتفوقت ميلوني عليه في جميع المناطق الشمالية، المعاقل التقليدية للرابطة.
ومن المنتظر أن تحكم ميلوني ضمن تحالف مشكل من حزبها والرابطة اليمينية المتطرفة بقيادة ماتيو سالفيني وحزب "فورزا إيطاليا" المحافظ بقيادة سيلفيو برلسكوني، ويُتوقع أن يفوز هذا التحالف بما يصل إلى 47% من الأصوات ما قد يضمن نوعاً من الاستقرار السياسي في البلاد، على عكس ما شهدته الحكومات السابقة؛ حيث سادت بداخلها تحالفات غير متجانسة، ما أدى بها إلى الانهيار في أكثر من مناسبة.
والآن يجب على ميلوني التعامل مع مشكلة الاتحاد الأوروبي، وهي التي تعد من أبرز منتقديه منذ فترة طويلة. وتقول صحيفة وويل ستريت جورنال الأمريكية، إن ميلوني ستواجه التحدي المتمثل في طمأنة الاتحاد الأوروبي -الذي انتقدته سابقاً على أنه يتدخل في الشؤون الوطنية، ويقوض الهوية الإيطالية- بأنها لن تكون قوة مزعزعة للاستقرار في الكتلة الأوروبية.
لكن ميلوني، عملت جاهدة لإقناع شركاء الاتحاد الأوروبي والأسواق المالية بأنها لن تزعزع الاستقرار الاقتصادي لإيطاليا والكتلة الأوروبية. حيث تترك ديون إيطاليا المرتفعة والنمو الضعيف ائتلاف السيدة ميلوني نطاقاً محدوداً لأجندته الخاصة بخفض الضرائب. وفي الوقت نفسه، فإن الحاجة إلى التعاون الوثيق مع الاتحاد الأوروبي لمعالجة أزمة الطاقة في المنطقة والاقتراب من الركود، ستجعل من الصعب على ميلوني اتباع مسار قومي أكثر تشككاً في الاتحاد الأوروبي، بحسب الصحيفة الأمريكية.