جاءت حملة الإقالة التي طالت مسؤولين كباراً في الصين، وما أعقبها من شائعات لا أساس لها عن وقوع انقلاب عسكري في بكين، لتزيد التخمينات وتبث الاضطراب قبيل المؤتمر المهم للحزب الشيوعي الحاكم في الصين، الشهر المقبل، لا سيما في ظل التوقعات بأن يُمنح الرئيس شي جين بينغ ولاية ثالثة في حدث غير مسبوق بالبلاد.
ما قصة حملة الاعتقالات التي طالت مسؤولين كباراً في الصين؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية، إن الأمور اضطربت بعد اعتقال زمرة من كبار المسؤولين الأمنيين في البلاد بتهم الفساد، ثم انتشرت شائعات- سرعان ما تبددت- عن وقوع شي تحت الإقامة الجبرية، فزاد الغموض وأحكمت سحائب السرية والريبة هيمنتها على أجواء السياسة في البلاد.
وقضت محكمة صينية، الأسبوع الماضي، بسجن نائب وزير الأمن العام السابق سون ليجون، ووزير العدل السابق فو تشنغ هوا، وقيادات سابقة بجهاز الشرطة في شنغهاي وتشونغتشينغ وشانشي بتهم فساد. وكان فو وقيادات الشرطة اتُّهموا بأنهم منتمون إلى عصبة سياسية، اجتمعت على موالاة سون، والتآمر على الرئيس الصيني شي.
كانت حملة الاعتقالات واحدة من أكبر عمليات التطهير السياسي في الصين منذ سنوات، وجاءت قبل أسابيع من الاجتماع السياسي الأهم للحزب الشيوعي الصيني، أي مؤتمر الحزب الذي يعقد مرة كل خمس سنوات، والذي يجري فيه إعادة تنظيم النخبة السياسية، وتولي المناصب المختلفة للسلطة في دولة الحزب الواحد.
ما أهمية المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني؟
يُتوقع أن يجري تنصيب شي مرة أخرى في الاجتماع زعيماً للحزب وقائداً للمفوضية العسكرية المركزية، فقد تمكن الرئيس الصيني من إلغاء تقييد المدة الرئاسية بولايتين، وشنَّ حملة مكثفة على الفساد استمرت سنوات وطالت كثيراً من معارضيه السياسيين.
أعلنت وسائل إعلام رسمية يوم الأحد، 25 سبتمبر/أيلول، عن استكمال قائمة مندوبي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والبالغ عددهم نحو 2300 مندوب. وجاء إدراج شي في القائمة داحضاً للشائعات التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي من مساء السبت، 24 سبتمبر/أيلول، عن وقوع انقلاب عسكري على الرئيس الصيني. وكانت تلك المزاعم الواهية- مصدرها الهند- استندت إلى مقاطع فيديو مجهولة المصدر، لتحرك مركبات عسكرية، وبيانات عن إلغاء جماعي للرحلات الجوية، وانتشرت الادعاءات على موقع تويتر، حتى فُضح زيفها في نهاية المطاف.
وفي حين أن وسائل التواصل الاجتماعي في الصين لم تولِ شائعات الانقلاب أهمية كبيرة، فإن أكثر من 200 ألف شخص شاركوا يوم السبت، 24 سبتمبر/أيلول، في وسم موقع Weibo، المتعلق بـ"إلغاء الرحلات الجوية بالمطارات في جميع أنحاء البلاد". وسخر بعض المتابعين من شائعات الانقلاب، مشيرين إلى غياب أي دليل على تحركات للاستيلاء على السلطة في بكين.
وقال درو طومسون، الباحث في كلية "لي كوان يو" للسياسة العامة، لصحيفة الغارديان، إن وقوع انقلاب في الصين ليس بالأمر المستبعد تماماً، فقد أشارت أنباء سابقة إلى تخوف شي من هذا الاحتمال، ومع ذلك فإن الشائعات التي انتشرت مطلع هذا الأسبوع بدت أشبه بضربٍ من "التفكير بالتمني". ويبدو أن مصادرها كانت أيضاً من حسابات مرتبطة بحركة "الفالون غونغ" المعارضة، والتي يرى طومسون أنها "حسابات غير موثوقة في الأساس".
وكتب طومسون في تغريدة على موقع تويتر: "شائعات اعتقال شي جين بينغ لديها ما تستند إليه في الواقع، لأن الصين تمر بلحظةٍ سياسية حرجة، علاوة على أن ما شهدته البلاد في المدة الأخيرة من محاكمات (وأحكام بالإدانة) لمسؤولين بارزين خدموا في الحكومة زمناً طويلاً أسهمت في تأجيج تلك الشائعات ونشرها".
وقال طومسون، الذي عمل بالسابق بوزارة الخارجية الأمريكية، لصحيفة The Guardian، إن وسائل إعلام جماعة "فالون غونغ" كثيراً ما يبالغون، أو يعمدون إلى تسليط الضوء على معارضتهم لشي والحزب الشيوعي الصيني في تقاريرهم. وما حدث في الأيام الماضية أن "بعض الموضوعات التي لطالما سلطوا الضوء عليها أو الأخبار التي أوردوها تسللت إلى المتابعين من التيار العام"، فتجاوز انتشارها الحدود الطبيعية.
ويرى خبراء آخرون، مثل بيل بيشوب، الكاتب بموقع Sinocism، أن الشائعات كانت واهية ولا أساس لها، لكن "التعتيم المتأصل" في آليات عمل الحزب الشيوعي الصيني فتح الطريق أمام انتشارها بسهولة.
"قائد الشعب"
يقول خبراء غربيون إن مؤتمر الحزب الشيوعي عملية سرية لتوزيع السلطة، لا تعلن نتائجها وما أسفرت عنه من توزيع للمناصب العليا إلا في اليوم الأخير. وقد زادت الحكومة من إحكام سيطرتها على الخطاب العام الداخلي في الأسابيع الأخيرة، وكلما اقترب موعد الاجتماع اشتدت وطأة سحقها لأصوات المعارضة.
غاب شي عن أعين الجمهور منذ عودته إلى الصين من قمة منظمة شنغهاي للتعاون في أوزبكستان، الأسبوع الماضي. ورجَّح مراقبون أن يكون في الحجر الصحي.
قال طومسون: "أرى أن انتشار هذه الشائعة [الانقلاب] حتى الآن، وتوهم البعض الصدق فيها بما يكفي لرؤيتها جدير بالتحليل، هي في الحقيقة أمور تدل على عوار أساسي في نظام الحكم الصيني… لقد أنشأ شي جين بينغ نموذجاً مختلفاً [لانتقال السلطة] فلم يحدد خليفة له، وهو ما يستدعي التساؤل عما سيحدث إذا جاءت عملية الانتقال بلا تخطيط أو رقابة عليها؟"
لم ترد الحكومة الصينية على الشائعات، إلا أن سلطات الأمن العام كانت من بين من نشروا إنكاراً لها تحت وسم "حقيقة ما يقال عن إلغاء واسع النطاق للرحلات الجوية في جميع أنحاء البلاد"، وانتقصوا من أهمية الأمر، زاعمين أنها حالة طبيعية تستدعيها إجراءات مكافحة وباء كورونا.
يُقام مؤتمر الحزب الشيوعي، في 16 أكتوبر/تشرين الأول، بقاعة الشعب الكبرى في بكين. والمؤتمر مغلق أمام الجمهور، لكن لا أحد يختلف في كونه الفعالية الأهم في الدورة السياسية للحزب الشيوعي التي تتجدد كل خمس سنوات. ويزيد من أهمية مؤتمر هذا العام ما قيل عن تعزيز شي لسلطته بترقية حلفائه إلى المناصب العليا في البلاد، علاوة على الأخبار بأن الحزب سيعيد إحياء لقب "قائد الشعب"، الذي انقطع استخدامه منذ عهد الرئيس ماو تسي تونغ.
ولاية ثالثة لشي جين بينغ
منح الحزب الشيوعي الصيني شي الحق في ولاية ثالثة، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأصدر قراراً اعتبره فيه شخصية مهمة لنمو الصين اقتصادياً وسياسياً.
ووضع هذا القرار التاريخي شي على قدم المساواة مع "ماو"، و"دينغ شياو بينغ" مبتكر خطة النمو الاقتصادي السريع للصين، التي امتدت على مدى أربعة عقود.
ولكن على عكس ماو، الذي تمتع بسلطة مطلقة فيما كانت الصين غارقة في وحل الفقر، وتجتاحها حملات داخلية تخريبية- مثّل قفزة عظيمة للأمام والثورة الثقافية- يترأس شي جين بينغ دولة الحزب الواحد التي "تتنامى عدوانيتها وطموحاتها التوسعية"، حسب التوصيف الأمريكي بطبيعة الحال، ويعززها ازدهارها الاقتصادي الممتد لأربعة عقود.
وخلال السنوات العشر الأخيرة، حدث تغيُّر عميق في النظرة الغربية للصين، فلم تعد هي حصان الجرِّ الهادئ للاقتصاد العالمي فقط، بل بات يُعتَرَف بالصين الآن باعتبارها المنافس العالمي الرئيسي للولايات المتحدة وحلفائها. وكما قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبيرغ، فإنَّ الصين "تقترب (منا) في الفضاء السيبراني، ونراهم في القطب الشمالي، وفي إفريقيا، ونراهم يستثمرون في بنيتنا التحتية الأساسية". لقد ولَّى منذ زمن طويل الوقت الذي كانت عبارة "صُنِع في الصين" تُطلَق باعتبارها مزحة.