ليست وحدها ورقة الغاز التي تضغط بها الجزائر على إسبانيا بعد تغيير موقفها المحايد من قضية الصحراء الغربية، فوقف الجزائر استيراد الرخام والخزف وبعض المنتجات الأخرى أضرّ بالمصدرين الإسبان، ما يزيد الضغط الداخلي على حكومة بيدرو سانشيز، ويؤثر على حظوظ حزبه في انتخابات 2023.
ففي تقرير لصحيفة "الباييس" الإسبانية، لها بعنوان "يُعرِّض انتقام الجزائر ما يقرب من 3 مليارات يورو من الصادرات الإسبانية للخطر: نحن يائسون"، يشير إلى أن العقوبات التجارية التي فرضتها الجزائر على مدريد تثير قلق القطاعات والشركات المنكشفة على السوق الجزائرية.
الشركات الإسبانية تئن وتضغط
وتبيّن صحيفة "الباييس"، أن الصادرات الإسبانية إلى الجزائر في 2019، قبل وباء كورونا، بلغت نحو 3 مليارات يورو، رغم أنها لا تمثل سوى 1 % من إجمالي الصادرات.
إلا أن هناك متعاملين اقتصاديين إسباناً لا ينظرون من نفس المنظار، فالجزائر بالنسبة "للرابطة الإسبانية لمصنعي مواد التزجيج والزجاج والألوان الخزفية" (ANFFECC)، مثلاً، تعد السوق الثانية لها بعد إيطاليا، بصادرات تقدر بـ90 مليون يورو في عام 2021.
وهذا الصراع يهدد مصالح الشركات الإسبانية بفقدان السوق الجزائرية لصالح منافسين دوليين جدد، وعلى رأسهم إيطاليا.
فوفق بيان للرابطة الإسبانية لمصنعي الزجاج، فإن وقف الجزائر لصادراتها من إسبانيا "يضر بنا بشكل مباشر، ليس فقط بسبب أهمية الجزائر بين أسواقنا الخارجية، ولكن أيضاً لأنه يتركنا بلا حماية مقارنة بالمنافسين الدوليين الآخرين".
نقطة ضعف الصادرات الإسبانية للجزائر، أنها على عكس الغاز، متوفرة في السوق الدولية ولا تعاني من عامل الندرة، أو لا يمكن الاستغناء عنها، ناهيك عن المنافسة التي تفرضها الصين وإيطاليا وتركيا ودول أخرى على الشركات الإسبانية في السوق الجزائرية خاصة في قطاعات الخزف والسيراميك والرخام والزجاج واللحوم.
ما يجعل تعليق الصادرات الإسبانية ورقة ضغط جزائرية بدل أن تكون بيد مدريد، التي بالكاد تخرج من أزماتها الاقتصادية المتعددة، على غرار وباء كورونا الذي استمر عامين، والحرب الأوكرانية وتداعياتها على أسعار الطاقة، ما زاد تكلفة الإنتاج على المصانع الإسبانية.
ومنذ تعليق الجزائر تجارتها الخارجية مع إسبانيا في يونيو/حزيران الماضي، بلغت خسائر مصنعي الزجاج فقط نحو 40 مليون يورو، وفق صحيفة النهار الجزائرية.
وبناء على ذلك تضغط الشركات الإسبانية واتحادات أرباب العمل على حكومة سانشيز، لإيجاد حل سريع للأزمة مع الجزائر.
وتقول رابطة مصنعي الزجاج الإسبانية إنه "من الضروري على وجه السرعة التوصل إلى اتفاق رفيع المستوى (مع الجزائر) يعيد الأمن في المعاملات التجارية الدولية، التي تضاءلت بالفعل بشكل كبير في الأشهر الأخيرة بسبب الحرب في أوكرانيا، وخاصة بعد عامين من الوباء".
التضخم مرتفع والركود على الأبواب
فالاقتصاد الإسباني يمر بفترات صعبة، بسبب التضخم الأعلى من نوعه منذ أبريل/نيسان 1985، والذي ذكر موقع "إسبانيا بالعربي"، أنه وصل بالفعل إلى رقم مقلق (10.2%)، وغير مسبوق منذ 37 عاماً.
وتوقع تقرير لمؤسسة "BBVA" للأبحاث أن يشهد الاقتصاد الإسباني ركوداً في الربعين الثاني والثالث من العام الجاري، وأيضاً في الأربع الأول من عام 2023، وفق موقع "فوزبوبيلي" الإسباني.
وهذه الضغوط الداخلية والأوضاع الاقتصادية المتجهة نحو التدهور، دفعت رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، إلى تخفيف لهجته مع الجزائر، والتعبير عن رغبته في زيارتها.
كما دعت وزير خارجيته خوسيه مانويل ألباريس، إلى ضرورة استعادة العلاقات مع الجزائر، وقال على هامش زيارته للبرتغال، إن إسبانيا تطمح في أن يكون لها "أفضل العلاقات مع الجزائر، والتي تعود بالنفع المتبادل".
والتغير السريع في الموقف الإسباني مرده أيضاً أن حلفاء مدريد الأوروبيين، بدل أن يتضامنوا معها ويضغطوا على الجزائر، فإذا بزعمائهم ومسؤوليهم يتهافتون لزيارتها من أجل الحصول على زيادة إمداداتهم من الغاز، وأيضاً لتصدير سلعهم للسوق الجزائرية، ولو على حساب حصة إسبانيا فيها.
فمدريد أصيبت بخيبة أمل وهي ترى الأوروبيين يتقاطرون على الجزائر للدفاع عن مصالح بلدانهم، على حساب مصالحها في هذا البلد، ما يكشف عن سوء تقديرها لحجمها ومدى تأثيرها على قرارات الاتحاد الأوروبي.
حيث التقى رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أربع مرات منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير/شباط الماضي، في الوقت الذي أصبح "سانشيز، رئيس وزراء غير محبوب في الجزائر" على حد تعبير موقع "فوزبوبولي"، الإسباني، وفق ما نقلت عنه صحيفة "الشروق اليومي" الجزائري.
من الاستيراد إلى التصدير
رُبّ ضارة نافعة بالنسبة للجزائريين، فوقف استيراد الرخام والسيراميك الإسباني، كان له انعكاس إيجابي بالنسبة للشركات الناشطة في هذا المجال.
إذ أنعش توقف دخول الرخام الإسباني إلى الجزائر 50 مصنعاً محلياً، وفتح المجال أمام السعي لتدشين وحدات إنتاجية جديدة، ما يسمح للبلاد بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الرخام في مايو/أيار 2023، والشروع في التصدير مطلع عام 2024، وفق موقع "الشروق اليومي" الجزائرية.
وتسعى الجزائر للاستفادة من تطور علاقاتها الاقتصادية مع إيطاليا، لتصدير منتجاتها من الرخام، بعد زيادة إنتاجها، خاصة أنها تمتلك محاجر ذات نوعية جيدة من الرخام.
وفي هذا الصدد، جرى توقيع اتفاقية مع "الفيدرالية الإيطالية للرخام والسيراميك" نهاية يوليو/تموز الماضي، لتكون إيطاليا الزبون الأول لمنتجات الرخام والحصى الجزائرية، والمسوّق الحصري لها دولياً، بحسب الشروق الجزائرية.
وكانت إيطاليا أكثر المستفيدين من وقف استيراد السيراميك من إسبانيا، من خلال الاستحواذ على السوق الجزائرية، رغم أن أسعارها أغلى، إذ كان المستوردون الجزائريون وحتى المصنعين منهم يستوردونه كلياً أو بعض مكوناته من إسبانيا لقرب المسافة وجودة نوعيته مقارنة بالسيراميك الصيني، الذي ينافس المنتج المحلي رغم بُعد المسافة والرسوم الجمركية المرتفعة المفروضة عليه.
وإلى جانب إيطاليا والصين، تشكل تركيا وفرنسا والبرازيل والهند، بدائل لاستيراد مواد البناء واللحوم من إسبانيا، ناهيك عن تشجيع الشركات الجزائرية لرفع إنتاجها وتسويقه داخلياً بعد خروج المنتجات الإسبانية من سوق المنافسة.
إسقاط سانشيز
تتجاهل الجزائر طلبات الحكومة الإسبانية لترتيب زيارة لرئيس وزرائها سانشيز لزيارة البلاد ولقاء الرئيس عبد المجيد تبون، لبحث العلاقات بين البلدين وفتح السوق الجزائرية أمام المنتجات الإسبانية.
وتراهن الجزائر على إسقاط حكومة سانشيز، في الانتخابات العامة المقبلة والمقررة نهاية العام المقبل، عبر تقليص صادرات الغاز إليها إلى الحد الأدنى المنصوص عليه في العقود، مع التفاوض لرفع أسعار الغاز، ووقف استيراد جميع المنتجات الإسبانية.
ومن شأن هذه العقوبات الجزائرية، المساهمة في زيادة التضخم بإسبانيا، ودفع الأوضاع الاقتصادية إلى الركود والانكماش، ضمن عوامل عديدة بينها الحرب في أوكرانيا، ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى غلق مصانع وتسريح عمال، ما يؤثر على شعبية سانشيز.
فأحزاب المعارضة اليمينية وحتى اليسارية، وجهت انتقادات واسعة لحكومة سانشيز في البرلمان، بسبب تغير موقف البلاد من النزاع في الصحراء الغربية، وفي أسوأ توقيت، ما تسبب في أزمة مع المورد الرئيسي للغاز إلى إسبانيا، في ذروة ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة.
والجزائر كانت واضحة في رفض أي تقارب مع إسبانيا في ظل حكومة سانشيز، وعبر عن ذلك مبعوث الجزائر لشؤون الصحراء الغربية وبلدان المغرب العربي، عمار بلاني، الذي صرح في يونيو/حزيران الماضي، لصحيفة "إل كونفيدونسيال" الإسبانية، "سيتعين علينا انتظار حكومة جديدة في إسبانيا لإنهاء الأزمة".
وهزيمة "الحزب الاشتراكي" الذي يقوده سانشيز، أمام حزب الشعب (يمين)، في الانتخابات المحلية بإقليم الأندلس (جنوب)، في يونيو/حزيران الماضي، مؤشر على تراجع شعبية الحزب الحاكم، حتى في أحد معاقله الرئيسية.
حيث فاز حزب الشعب على 58 مقعداً من أصل 109، مقابل 30 للحزب الحاكم، الذي سيطر على إقليم الأندلس 36 عاماً، حتى هزمهم تحالف يمين الوسط في الانتخابات السابقة عام 2018.
وترفض الجزائر رمي حبل النجاة لحكومة سانشيز، وتراهن على سقوط حكومته في انتخابات 2023.