عندما يتحدث ألكسندر دوغين عن أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت، فإن ذلك يعني ببساطة أن الرئيس فلاديمير بوتين قد اتخذ القرار، فهل يتغلب صوت العقل على "هوس" جو بايدن ونظيره الروسي بفرض وجهة نظره حتى لو "انتهى العالم"؟
دوغين فيلسوف روسي شهير، يلقب بأنه "عقل بوتين"، ويصفه الغرب بأنه "راسبوتين بوتين"، فالباحث السياسي والمؤرخ وأستاذ علم الاجتماع في جامعة موسكو سابقاً، والمستشار السياسي والعسكري للكرملين، تعرضت ابنته للاغتيال في تفجير سيارة خلال أغسطس/ آب الماضي، فيما بدا أنها محاولة لاغتياله شخصياً.
إذاً عندما ينشر فيلسوف القومية الروسية مقالاً عنوانه "بدأت" في هذا التوقيت، الذي يعتبر الأخطر في مسار الحرب في أوكرانيا، أو "العملية العسكرية الخاصة" كما يصفها الروس مقابل "الغزو" بالتصنيف الغربي، لابد من أخذ الأمر على محمل الجد.
مقال دوغين، المنشور بالروسية يوم 20 سبتمبر/أيلول، تزامن مع إعلان بوتين التعبئة الجزئية لقوات الاحتياطي الروسية وإعلان مسؤولي 4 مدن أوكرانية تسيطر عليها موسكو (لوغانسك ودونيتسك وخيرسون وزابوروجيا) تنظيم استفتاءات للانضمام رسمياً إلى روسيا، وذلك خلال الفترة من 23 حتى 27 سبتمبر/أيلول.
دوغين يتهم الغرب بمحاربة روسيا في أوكرانيا
انطلق دوغين في مقاله من الانتصارات التي حققتها القوات الأوكرانية في ساحة المعركة في منطقة خيرسون وإجبار القوات الروسية على الانسحاب، معتبراً أنها "نقطة التحول"، التي تعني "أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة في تاريخ العملية العسكرية الخاصة بأكمله".
ويقول: "نحن على شفا حرب عالمية ثالثة يدفعنا إليها الغرب بهوسٍ شديد، وهذا لم يعد تخوفاً أو توقعاً، هذه حقيقة. روسيا في حالة حرب مع الغرب الجماعي، مع الناتو وحلفائهم (وإن لم يكن مع الجميع – تركيا واليونان لديهما موقف خاص بهما، وعدد من الدول الأوروبية، في المقام الأول فرنسا وإيطاليا-وليس فقط فرنسا وإيطاليا- لا ترغب في المشاركة بشكل فاعلٍ في الحرب مع روسيا). ومع ذلك، فإن خطر نشوب حرب عالمية ثالثة يقترب".
ووصف "عقل بوتين" الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية في خاركيف بأنه "ضربة مباشرة من الغرب ضد روسيا": "يعلم الجميع أن هذا الهجوم تم تنظيمه وإعداده وتجهيزه من قبل القيادة العسكرية للولايات المتحدة والناتو، وتم تحت إشرافهما المباشر. ولم يتم ذلك فقط من خلال استخدام المعدات العسكرية للناتو، ولكن أيضاً عبر المشاركة المباشرة لمخابرات الفضاء العسكرية الغربية والمرتزقة والمدربين".
وربما تكون هذه النقطة متفق عليها بشكل عام بين دوغين والغرب، إذ أرجع الأمريكيون الأسباب الرئيسية لمكاسب القوات الأوكرانية على الأرض إلى تدفق المعونات العسكرية الغربية، وإمداد الأوكرانيين بالمعلومات الاستخباراتية الخاصة بمناطق الضعف لدى القوات الروسية، إضافة إلى إعادة تنظيم صفوف الجيش الأوكراني بصورة أفضل، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
وقال جون سبنسر، رئيس قسم شؤون الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة التابع لكلية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، للموقع: "ما حققته القوات الأوكرانية (هذا الأسبوع) هو نتيجة لأشهر من التخطيط، إضافة إلى أسابيع من الاستفادة من مسار الحرب على الأرض من جانب تلك القوات. الواضح أن هناك قوات أوكرانية أخرى كانت تتحين فرصة وجود أي ثغرات في الخطوط الأمامية للقوات الروسية لاستغلالها وتحقيق تلك الانتصارات الخاطفة".
والإشارة هنا تتعلق بجبهتَي خيرسون في الجنوب، وخاركيف في الشرق، إذ كانت القوات الروسية تكثف وجودها وتحصن دفاعاتها في الجبهة الأولى، لكن الأوكرانيين وضعوا ثقلهم العسكري على الجبهة الثانية، وهو ما فاجأ القوات الروسية في منطقة خاركيف، فانسحبت سريعاً حتى لا يتم تطويقها من جانب الأوكرانيين، بحسب الخبراء العسكريين الغربيين.
"العملية الخاصة في أوكرانيا انتهت"
وانطلاقاً من تلك التطورات الميدانية، يرى الفيلسوف الروسي أن "العملية الخاصة في أوكرانيا انتهت"، مفسراً ذلك بأن الهجوم على أوكرانيا قد تحول إلى "حرب" بالمعنى الشامل، وهذه هي المرة الأولى على الإطلاق التي يأتي فيها ذكر مصطلح "الحرب" على لسان مسؤول روسي، ولهذا الأمر دلالة كبرى بطبيعة الحال.
فبوتين ومسؤولو الكرملين كانوا يرفضون تماماً استخدام أي توصيف لما يجري على الأراضي الأوكرانية يخالف وصف "العملية العسكرية الخاصة"، فماذا يعني انتهاء تلك العملية وبداية الحرب إذاً؟
يقول دوغين: "تم الانتهاء من العملية العسكرية الخاصة كعملية محدودة لتحرير دونباس وعدد من أراضي نوفوروسيا. تطورت تدريجياً إلى حرب شاملة مع الغرب، حيث، في الواقع، يلعب نظام كييف الإرهابي النازي نفسه دور الأداة فقط. محاولة محاصرة ذلك النظام، وتحرير عدد من مناطق نوفوروسيا التي يسيطر عليها النازيون الأوكرانيون، مع الحفاظ على توازن القوى الجيوسياسي الحالي في العالم دون تغيير، بوصف هذه الإجراءات عملية تكنيكية، هو أمرٌ لم ينجح".
"نوفوروسيا" تعني روسيا الجديدة، وهو مصطلح استخدمه دوغين، الذي يقول الغرب إنه كان "العقل المدبر وراء ضم الرئيس الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014". ونوفوروسيا، بالنسبة لدوغين، وبوتين بطبيعة الحال، تضم القرم ودونباس، وباقي شرق أوكرانيا، إلى الاتحاد الروسي.
وفي هذا السياق، يرى دوغين أن التظاهر "أننا نواصل ببساطة العملية العسكرية الخاصة – في مكان ما على هامش الاهتمام العام – هو علاوة على ذلك، وببساطة، أمرٌ لا طائل من ورائه".
ويخلص إلى أن روسيا أصبحت الآن "في حالة حرب، وهذا ينطبق على كل مواطن روسي: كل واحد منا مهدد بسلاح العدو، بإرهابيه وقناصيه ومجموعاته الاستطلاعية والتخريبية، بما في ذلك خلف الحدود"، مضيفاً أن الوضع (في أوكرانيا) أصبح "غير قابل للعودة إلى الظروف الأولية، لما قبل 24 فبراير/شباط 2022".
فماذا تعني تلك النتيجة إذا؟ "نهاية العملية العسكرية الخاصة تعني الحاجة إلى تحولات عميقة للنظام السياسي والاجتماعي بأكمله لروسيا الحديثة – نقل البلاد إلى قاعدة عسكرية – في السياسة والاقتصاد والثقافة ومجال المعلومات. يمكن أن تظل العملية العسكرية الخاصة مهمةً، لكن ليس بوصفها المحتوى الوحيد للحياة العامة الروسية: الحرب مع الغرب هي ما ينبغي أن يخضع له كل شيء"، يقول دوغين.
هل "بدأت" حرب نهاية العالم؟
يرى دوغين أن استخدام الأسلحة النووية في هذه الحرب، التي "بدأت" للتو، سيظل سؤالاً مفتوحاً، لكن احتمال وقوع "حرب نهاية العالم يتزايد كل يوم". ويلقي عقل بوتين باللوم على الغرب
"إنه أمر واضح تماماً، والعديد من القادة العسكريين الأمريكيين (مثل القائد السابق للقوات المسلحة الأمريكية في أوروبا، بن هودجز) يعلنون ذلك صراحة، لن يكون الغرب راضياً حتى مع انسحابنا الكامل من أراضي أوكرانيا السابقة. سوف يقتلوننا على أرضنا، ويصرون على "الاستسلام غير المشروط" (ينس ستولتنبرغ)، "إنهاء الإمبريالية الروسية" (وفقاً لتعبير بن هودجز)، وتقطيع أوصال روسيا"، بحسب دوغين.
ويستطرد "عقل بوتين" في هذه النقطة قائلا إن الغرب يرى في انتصار أوكرانيا في خاركيف "بداية نهايتنا"، واصفا ما حدث بأنه "أول نجاح ملموس لقوات Drang nach Osten لقوات الناتو"، أي "قوات الانتشار نحو الشرق وهو مصطلح ألماني نازي بالأساس".
وبالتالي يصل الفيلسوف الروسي إلى النتيجة الحتمية وهي أن الغرب "أعلن الحرب على روسيا وهو يخوضها بالفعل"، ثم يستعيد مواقف يراها مشابهة وبخاصة هجوم ألمانيا النازية بزعامة أدولف هتلر على روسيا عام 1941 (خلال الحرب العالمية الثانية)، مضيفاً أن الأمر الوحيد المهم الآن "هو الانتصار في تلك الحرب"، للدفاع عن حق روسيا في الوجود.
وإذا كان هذا موقف بوتين، فماذا عن وجهة نظر جو بايدن والغرب عموماً؟ رد الرئيس الأمريكي كان عبارة عن اتهام روسيا بإلقاء تهديدات "متهورة" و"غير مسؤولة" باستخدام الأسلحة النووية، وقال، الأربعاء، 21 سبتمبر/أيلول من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن موسكو انتهكت المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة بـ"غزوها" لأوكرانيا.
وانتقد بايدن نظيره الروسي لشن حرب "غير مبررة" دفعت نحو 40 من أعضاء الأمم المتحدة لمساعدة أوكرانيا في القتال بالتمويل والأسلحة: "مرة أخرى، اليوم فقط، يوجه الرئيس بوتين تهديدات نووية علنية لأوروبا في تجاهل متهور لمسؤوليات نظام منع انتشار (الأسلحة النووية). لا يمكن لأي طرف كسب حرب نووية ولا يجب خوضها أبداً".
وأشار بايدن إلى أن لا أحد هدد روسيا على الرغم من زعمها عكس ذلك وأن لا أحد سوى روسيا سعى إلى الصراع، متعهداً باستمرار الولايات المتحدة في تضامنها مع أوكرانيا. وأضاف "أقدم عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على غزو جاره وحاول محو دولة ذات سيادة من الخريطة. هكذا انتهكت روسيا بكل وقاحة المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة".
وتابع "هذه الحرب تهدف إلى محو حق أوكرانيا في الوجود كدولة، بكل بساطة وسهولة، وحق الأوكرانيين في الوجود كشعب. أينما كنت وحيثما تعيش ومهما كانت معتقداتك، هذا يجب أن… يشعرك بالفزع".
لكن الرئيس الأمريكي اختص طرفاً آخر عند حديثه عن المنافسة بين القوى الكبرى، إذ قال بايدن "دعوني أتحدث بصراحة عن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. بينما ندير الاتجاهات الجيوسياسية المتغيرة، تعتبر الولايات المتحدة نفسها قائداً حكيماً. لا نسعى للصراع. لا نسعى لحرب باردة. لا نطلب من أي دولة أن تختار بين الولايات المتحدة أو أي شريك آخر".
هل يمكن تفادي الصراع النووي؟
"مهمة بايدن الجديدة: استباق أي احتمال لاندلاع أزمة نووية مع روسيا"، تحت هذا العنوان نشرت شبكة CNN الأمريكية تحليلاً رصد المأزق الذي يواجه الرئيس الأمريكي وحلف الناتو، والمتمثل في كيفية الرد على تهديدات بوتين النووية بأي صورة من الصور.
وهناك ما يشبه الإجماع داخل الدوائر الاستخباراتية الأمريكية خصوصاً، والغربية بشكل عام، على حتمية أخذ تهديدات الرئيس الروسي النووية على محمل الجد، بحسب ما قاله جون ميلر، كبير محللي CNN المختصين بالشأن الاستخباراتي، الذي أكد أن وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الاستخبارات العسكرية قضيا سنوات في دراسة السمات السيكولوجية لشخصية بوتين.
"استخدام سلاح نووي هو أخطر قرار استراتيجي قد يتخذه زعيم عالمي، لكن مع زعيم مهووس بصورته العامة أمام الناس (بوتين)، قد يكون هناك عامل شخصي وعاطفي في مثل هذا القرار"، بحسب ميلر الذي أضاف: "لذلك فإنه في الوقت الحالي، لا يوجد شخص واحد في مجتمع الاستخبارات الأمريكية يستبعد احتمال استخدام روسيا سلاحاً نووياً تكتيكياً".
وإذا كان هذا هو تقدير الموقف من وجهة النظر الأمريكية، فالسؤال البديهي: وماذا بعد؟ هل سيكون القرار الأمريكي والغربي بطبيعة الحال تخفيض المساعدات العسكرية لأوكرانيا حتى لا يتم حشر بوتين في الزاوية، ومن ثم فتح الباب أمام تسوية الصراع في أوكرانيا بصورة ما؟
هل توجد سيناريوهات محددة للرد الغربي على أي تحرك نووي روسي، وتمت مناقشة تلك السيناريوهات/ الردود والتوافق بشأنها، ومن ثم إبلاغ موسكو بها عبر القنوات الخلفية أو غير الرسمية؟
الشيء الوحيد المؤكد حتى هذه اللحظة هو أن بايدن ليست لديه خطة محددة للتعامل مع هذا التصعيد النووي من جانب بوتين، وهو ما قد يفتح الباب أمام حلول سياسية ربما تجنب العالم "نهايته"، لكن المؤكد هو أن الطرفين عليهما أن يقدما تنازلات للوصول إلى حل وسط، يخرج منه بوتين ببعض المكاسب، والأمر نفسه بالنسبة لبايدن.
دوغين نفسه لم يستبعد هذا الاحتمال، في مقاله، حيث: "ما حدث لا رجوع فيه، ولا ينبغي حتى أن يخاف المرء من احتمال تقديم تنازلات أو الدخول في صفقات من جانبنا؛ فالعدو لن يقبل إلا استسلامنا الكامل، واستعبادنا، وتقطيع أوصالنا، واحتلالنا. لذلك ليس لدينا خيار".
فهل يتغلب العقل في نهاية المطاف ويتجنب العالم نهايته النووية، أم أن "هوس" بوتين وبايدن بالسيطرة وفرض الإرادة سينتصر مرة أخرى، بعد أن تسبب في اندلاع الحرب من الأساس؟