"المسمار الأول في نعش سلطة بوتين"، هكذا تصور وسائل الإعلام الغربية أزمة الاحتجاجات على قرار الرئيس الروسي بالتعبئة العسكرية الجزئية الذي سوف يؤدي إلى استدعاء 300 ألف فرد من الاحتياطي الروسي، فإلى أي مدى يمكن أن تمثل أزمة التجنيد الروسية خطراً على بوتين ونظامه وعلى وحدة وتماسك البلاد في ظل حربها مع أوكرانيا المدعومة من الغرب؟
بعد وقت قصير من إعلان بوتين الذي صدر أمس الأربعاء بالتعبئة العسكري الجزئية، قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إنه سيتم استدعاء "أولئك الذين لديهم خبرة عسكرية سابقة"، أي أن الخدمة العسكرية وفقاً للقرار ستطبق فقط على المواطنين الموجودين حالياً في الاحتياط، وخاصة الذين من خدموا في القوات المسلحة، ولديهم مهن عسكرية معينة وخبرات ذات صلة".
ونقلت رويترز عن شويغو قوله: "روسيا لديها موارد بشرية ضخمة تبلغ نحو 25 مليون شخص، ولكن سيتم استدعاء 300 ألف احتياطي منهم".
وقال إن الطلاب الذين خدموا كمجندين لن يتم استدعاؤهم، وإن غالبية الاحتياطي لن يتم تجنيده.
وفقاً للمرسوم سيتم أيضاً تمديد عقود الجنود المقاتلين في أوكرانيا حتى نهاية فترة التعبئة الجزئية.
احتفاء غربي بأزمة التجنيد الروسية
وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات وسائل الإعلام الغربية بمقاطع فيديو للمواجهات بين محتجين روس على قرار استدعاء الاحتياطي والتعبئة العسكرية الجزئية وبين والشرطة الروسية ووسط تقارير عن اعتقال أكثر من 1500 شخص في هذه الاحتجاجات.
وتحولت هذه الفيديوهات إلى علامات بارزة في الحملة الصحفية الغربية ضد الرئيس الروسي في فلادمير بوتين وتقديمه باعتباره ضعيفاً في الداخل ويواجه أزمة داخلية خطيرة.
كما ركزت التقارير الإعلامية الغربية على ما قيل عن حجز الروس تذاكر السفر للخارج والقفزة في أسعار تذاكر الطيران.
بوتين حاول تجنب هذا القرار
ومنذ بداية الحرب الأوكرانية كان هناك مؤشرات واضحة على أن الرئيس الروسي يسعى الى تجنيب السكان المدنيين تداعيات الحرب سواء الاقتصادية أو العسكرية، بدءاً من وصف الحرب بأنها عملية عسكرية خاصة، في محاولة للإيحاء بأنها سوف تكون عملية خارجية محدودة لن تستغرق وقتاً طويلاً، ولن تكلف اقتصاد البلاد أو الجيش الكثير.
ولكن بعد مرور نحو سبعة أشهر من الحرب تبين للجميع أن العمليات العسكرية هي حرب شبه عالمية، بعد أن تدفقت المساعدات العسكرية والاقتصادية الغربية على أوكرانيا بشكل مكثف مكّن هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها نحو ثلث روسيا من الصمود أمام الجيش الروسي، بل وتحرير بعض أراضيها التي احتلت في بداية الحرب.
لماذا أصبح هذا القرار حتمياً بالنسبة له ؟
ولأشهر تجنب بوتين إعلان التعبئة العسكرية واستدعاء الاحتياطي، ولكن بعد معركة خاركيف التي ظهر فيها أن الجيش الروسي يعاني من نقص في الأعداد بدا أن هذا القرار حتمي بالنسبة للرئيس الروسي.
فهذا القرار يأتي وسط حديث غربي أوكراني عن خسائر كبيرة في المعدات والأفراد، تكبَّدتها روسيا، حيث تزعم التقديرات الأوكرانية أن موسكو فقدت نحو 80 ألف جندي، وهي تقارير ينظر لها على أنها مبالغ فيها حتى من قِبل حلفاء كييف الغربيين، فيما ينظر كذلك بشكوك إلى تقديرات روسيا بشأن خسائر، والتي تذكر في أوقات متباعدة، وتكون أقل كثيراً من التقديرات الغربية، وكان آخرها قول وزير الدفاع الروسي إن 5937 جندياً روسيّاً قتُلوا في أوكرانيا حتى الآن.
ولكن الأكيد أن الحرب مع أوكرانيا المدعومة بفاعلية من الغرب ليست نزهة كما كان يتوقع بوتين، فأوكرانيا بلد ليس صغيراً، حيث يبلغ عدد سكانها نحو 48 مليون نسمة.
وأدى الدعم الغربي بالأسلحة والمعلومات والتدريب والتوجيه المباشر إلى تحييد التفوق العسكري التقني الروسي إلى حد كبير، حيث ساعدت منظومات الدفاع الجوي الأوكرانية السوفييتية الصنع من طراز إس 300، وأنظمة الصواريخ المضادة على الأكتاف التي وردها الغرب بالآلاف لكييف، إلى إجبار أسطول الطائرات الروسية الضخم على العمل من مسافات بعيد فوق ساحات المعارك، الأمر الذي أدى لإضعاف دوره في دعم القوات البرية الروسية كما ظهر في معركة خاركيف.
وعلى الأرض، ساعدت آلاف الصواريخ المضادة للدبابات المحمولة على الأكتاف التي قدمها الغرب لأوكرانيا في تدمير أعداد كبيرة من الأسطول الروسي من الدبابات، الذي يعد الأكبر في العالم، وخاصة أن موسكو ليس لديها سوى عدد قليل من دبابات تي 90 الأحدث في ترسانتها، ويضاف لذلك تأثير أسطول أوكرانيا من الطائرات المسيرة من طراز بيرقدار التركية الصنع، وما قدمته واشنطن من طائرات مسيرة من طرازات مختلفة، منها سويتش بيلد.
كما تفوقت أنظمة المدفعية الغربية التي قدمت لكييف على المدفعية الروسية، حسب التقارير الغربية، وكذلك أنظمة الصواريخ المدفعية الأمريكية من طراز هيمارس التي يقال إنها لعبت دوراً كبيراً في الخسائر الروسية مؤخراً.
موسكو تعاني بالفعل من فجوة في عدد الجنود مقارنة بكييف
يعني كل ذلك أن روسيا فقدت ميزة تفوقها التقني على أوكرانيا في المعدات، بينما تحظى الأخيرة بتفوق في أعداد الجنود.
فبينما يخصص الجيش الروسي نحو 250 ألف جندي للحرب؛ لأنه لم يكن قد استدعى الاحتياط كما أنه بحاجة لنشر وحداته في مناطق روسيا الشاسعة، فإن أوكرانيا التي منعت الذكور من السفر خارج البلاد وتجند من الاحتياطي، لديها حالياً نحو مليون مقاتل حالياً، حسب مصادر أوكرانية.
وهو أمر ظهر تأثيره الإيجابي لصالح كييف في معركة إقليم خاركيف، حيث يعتقد أن أحد أسباب الهزيمة الروسية في الإقليم أن موسكو لم تكن لديها الأعداد الكافية من الجنود لتوفير خطوط قتال متعددة ومتتالية في المنطقة (كما يقضي التخطيط العسكري)، ما سمح للأوكرانيين باختراق خط الدفاع الروسي الرفيع في المنطقة، بعدما نقلت موسكو جزءاً من قواتها للجنوب تحسباً لهجوم أوكراني على خيرسون كانت كييف قد أعلنت عنه، فيما وصفته المصادر الغربية بأنه خدعة أوكرانية ناجحة.
وأدى وجود الأعداد الكافية من الجنود لدى أوكرانيا، إلى قدرتها على حشد قوات في الجنوب لإلهاء الروس عن الهجوم الأساسي في الشمال، بل وخصصت قوات بالفعل لهجوم الجنوب بموازاة هجوم الشمال، رغم أن الانتصارات الأوكرانية في الجنوب كانت أقل في حجمها.
وهكذا مع نكسة روسيا في خاركيف التي شجعت رعاة أوكرانيا الغربيين على تقديم مزيد من المساعدات، مما يهدد بتوسيع النكسات الروسية، فإن بوتين لم يعد أمامه إلا التعبئة العسكرية، بما يعني ذلك من استدعاء الاحتياطي وحشد موارد الصناعة المدنية للمجهود الحربي أو تحقيق تسوية تحفظ ماء الوجه، وهو أمر يبدو أن الجانبين أصبحا لا يضعانه في الاعتبار، كما أنه قد يكون خياراً مهيناً بعد معركة خاركيف.
أما الخيار الثالث أمام بوتين فهو استخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، كما لوَّح بالفعل.
اختار بوتين خيار التعبئة العسكرية، ولكنه قد يكون الخيار الأقل شعبية داخلياً، ولكن الأسلم لروسيا ومصالحها من وجهة نظره هو وكثير من القيادات العسكرية والقوميين الروس في ظل صعوبة التوصل لتسوية مع رفع كييف سقف مطالبها لانسحاب كامل من كل أراضيها.
تاريخ روسيا.. قسوة في الداخل والخارج
لقرون طويلة كانت روسيا بلد الجيوش والحروب والإنجازات العلمية وكذلك بلد القمع والمجاعات.
فبينما بدأت روسيا مسيرتها البطيئة نحو مكانة القوة العظمى منذ غزو أول قياصرتها إيفان الرهيب لخانية قازان المسلمة في عام ١٥٥٢، وهي مكانة تبوأتها بالفعل منذ نهاية القرن الثامن عشر، فإن هذه العَظَمة تشكلت على حساب رفاهية الشعب الروسي الذي دفع ثمناً كبيراً لظروف البلاد الجغرافية والمناخية القاسية وعزلتها وآلة القمع القوية التي كانت باطشة بالأعداء وقاسية على أبناء البلاد دوماً، إضافة إلى مشكلات التحديث والعلاقة مع الغرب والفروق الطبقية التقليدية في روسيا القيصرية وضغط المركز على الأطراف.
كما كانت روسيا الساحة الأكثر دموية لمجموعة من أشرس الحروب في القرنين الماضيين، بدءاً من الحروب النابليونية وحرب القرم مع الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا، وانتهاء بالحربين العالميتين الأولى والثانية.
لماذا يمثل عهد بوتين عصراً استثنائياً في تاريخ البلاد؟
وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح الاتحاد السوفييتي قوة عظمى، ومع أنه لم يخض حروباً كبيرة إلا حرب أفغانستان وبعض الحروب في محيطه الأوروبي، إلا أن الحياة في ظل الاتحاد السوفييتي اتسمت بمرحلة من المذابح والاضطرابات التي انتهت في عهد الديكتاتور جوزيف ستالين، ولكن حتى بعد الانتصار المكلف في الحرب العالمية الثانية الذي أوصل روسيا لمكانة أكبر قوة عسكرية نووية وبرية في التاريخ، فإن الحياة في الاتحاد السوفييتي اتسمت بقدر كبير من القيود الاجتماعية والسياسية والشظف الاقتصادي، وخلت حتى من أبسط مظاهر الرفاهية التي كانت متوفرة حتى في العديد من بلدان العالم الثالث.
وانحدر حال روسيا إلى واحدة من أسوأ مراحلها في التاريخ، عندما انهار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن العشرين، وتدهور اقتصاد البلاد وفقد نحو نصف ناتجه المحلي، وأصبح الروبل بلا قيمة، وعاش الروس على حد الكفاف في بلد يتسم بمناخ قاسٍ للغاية بشكل يجعل المعاناة الاقتصادية قد تتحول لخطر على الحياة ذاتها.
إلى أن جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليغير هذه المعادلة تماماً، ويعيش في عهده الروس عصراً ذهبياً جمعوا فيه بين مستوى دخل يناظر الدول الأوروبية المتوسطة واستعادة الهيبة القومية القائمة على العلاقة شبه الندية مع الغرب، واستخدام بوتين القوة العسكرية الباطشة ضد الشيشان وسوريا بطريقة استعادة الهيبة السوفييتية والقيصرية القديمة.
جرى ذلك بدون تضحيات داخلية كبيرة فلم يتم تجنيد عسكري واسع نطاق للروس في في حرب الشيشان الثانية التي انتصر فيها بوتين أو حرب سوريا أو في حرب القرم عام 2014.
العقد الاجتماعي بين بوتين وشعبه يوشك على التغيير
هذه المعادلة التي ضمت قدراً من وضع اقتصادي مستقر والهيبة القومية.. تحقق ذلك مع علاقة متوازنة مع الغرب جمعت بين إرضاء الشعور القومي الروسي من خلال معاملة الغرب لموسكو على أنها دولة عظمى مع قدر من الانفتاح سمح للروس بالاستمتاع بمغريات الحضارة الغربية مع الاعتراف لهم بأنهم أنداد للغرب ولو شكلياً في كثير من الأحيان.
كانت هذه المعادلة هي سر نجاح بوتين بشكل كبير أكثر من القمع.
فباستثناء الشيشان، فإن بوتين لم يحتَج إلا القليل من القمع مع المعارضة، قمع لم يصل في حدته على الإطلاق للمستوى السوفييتي القديم أو الصيني الحالي.
والآن قد يكون حان وقت التغيير ولو جزئياً لهذه المعادلة.
فقرار استدعاء الاحتياطي يعني أنه قد ينزع شباباً روسيا من بين أحضان أمهاتهم وزوجاتهم، وأن منهم من قد يضطر لترك أعماله، مع ما في ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية على السكان، ولكن الأسوأ إذا ما زادت الخسائر البشرية الروسية وعاد هؤلاء الجنود إلى أمهاتهم وزوجاتهم في أكفان بعد موتهم في حرب لم تكن حتمية.
ولكن هل يعني ذلك أن أزمة التجنيد الروسية سوف تهز النظام الروسي وقد تؤدي لتغييره كما تلمح التقارير الإعلامية الغربية؟
رفض التجنيد تكرر في أمريكا خلال حرب فيتنام ويحدث الآن بأوكرانيا
إحدى النقاط التي تتجاهلها هذه التقارير أن ظاهرة التهرب من التجنيد أثناء الحروب شائعة في العالم كله، وحدثت في الولايات المتحدة خلال حرب فيتنام تحديداً، بل إن هناك اتهاماً موجهاً للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن بأنه تهرب من التجنيد في فيتنام عبر استغلال نفوذ عائلته للانضمام الحرس الوطني.
كما أن المظاهرات ضد حرب فيتنام وضد التجنيد الإجباري أمر حدث بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك مظاهرات أمام البيت الأبيض، ومن المعروف أن لاعب الملاكمة الأيقوني محمد علي كلاي رفض أن يتم تجنيده في هذه الحرب، ومع ذلك استمرت لسنوات.
كما أن هناك تقارير متعددة عن محاولات للتهرب من التجنيد في أوكرانيا التي منعت سفر الرجال فوق سن معين إلى خارج البلاد، ولكن هذه التقارير عن هروب بعض الرجال الأوكرانيين من التجنيد يشار إليها 'لماماً" في الصحافة الغربية وكأنها استثناء أو خروج عن القاعدة الأوكرانية، بينما تقدم الصورة أن القاعدة في روسيا هي الهروب من التجنيد رغم أنه من الصعب تقييم الظاهرة قبل أن تبدأ ومن خلال بضعة تقارير إعلامية.
ليست أول مرة تجنّد فيها روسيا شعبها بالقوة
وللدولة الروسية تاريخ طويل من حشد شعبها في الحروب التي تعتبرها مصيرية، مثل ما حدث في الحرب العالمية الثانية، وفي هذه الحروب لجأت دوماً لأساليب قاسية لمواجهة أي محاولات للتهرب من التجنيد، وفي الأغلب كانت هذه الأساليب نتيجة لخليط من القسوة الراسخة في الحمض الجيني للدولة الروسية، وأيضاً الشعور القومي الحاد الذي يميز الروس في الأزمات، خاصة مع شهرة الإعلام الروسي بطابعه الحماسي في مواجهة العدو الخارجي.
بينما قد ينظر إلى أن الأزمة في أوكرانيا مختلفة؛ لأن بوتين هو من أثارها بغزوه، وبالتالي فإن الروس لن يكونوا على استعداد للتضحية من أجل أحلام بوتين الإمبريالية.
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فجزء من أحلام بوتين الإمبريالية هو أحلام روسية عامة، فشبه جزيرة القرم على سبيل المثال يعتبرها أغلب الروس بمن فيهم معارضون مثل أليكسي نافالني جزءاً من روسيا، والتعاطف مع الناطقين بالروسية في إقليم دونباس أمر راسخ في الثقافة الروسية.
كما أن الدعم الغربي الكبير لأوكرانيا مع استمرار الخطاب الأوكراني في التركيز على استعادة كل أراضي البلاد المحتلة، بما فيها القرم، من شأنه أن يشعر الروس بأن الخطر لم يعد على جيشهم أو على طموحات بوتين، بل على أمنهم الوطني وسلامة أراضي بلادهم، وهو خطاب يستغله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشكل كبير.
الأهم من ذلك أن الدولة الروسية لم تستخدم بعد يدها الباطشة بشكل كبير لقمع الاحتجاجات، خاصة أن عدد الجنود الاحتياط الذين سيتم استدعاؤهم ليس بكبير، كما أن هناك مؤشرات عن أن الاحتجاجات مرتبطة بقوى ليبرالية منفتحة على الغرب أكثر منها مرتبطة بالفئات التي سوف يتم استدعاؤها للجيش.
هل تدعم النخبة الحاكمة الروسية الاحتجاجات ضد بوتين وتأتي بغورباتشوف جديد؟
أهم من كل ذلك هو موقف الطبقة الحاكمة المحيطة ببوتين وخاصة قادة الجيش.
فرغم أنه لا يمكن إطلاقاً استبعاد أن هناك استياء من قِبل جزء كبير من الطبقة الحاكمة في روسيا من قرار غزو أوكرانيا، إلا أن تطورات الأزمة تدفع في اتجاه التفاف هذه الطبقة حول بوتين، ليس فقط بسبب خوفهم من قمعه وأجهزته الأمنية أو طمعهم في المكاسب التي حصلوا عليها، بل لأن السياسة الغربية تجاه روسيا حالياً باتت تمثل خطراً على النخب الروسية وعلى روسيا نفسها.
تدريجياً يمضي الخطاب الغربي الداعم لأوكرانيا قدماً في التعامل مع روسيا باعتبارها عدواً يجب تركيعه، ويتراجع الخطاب الباحث عن تسوية، ويظهر ذلك في خطاب وزير الدفاع الأمريكي الذي سبق أن قال إن هدف المساعدات الأمريكية لأوكرانيا هو جعل روسيا غير قادرة على تهديد دول أوروبا الأخرى.
هذا الخطاب الغربي سيخيف على الأغلب الطبقة الحاكمة الروسية الحالية من أن تدعم أو تستغل أي تحرك شعبي ضد التجنيد أو غيره للإطاحة ببوتين.
فمع إصرار الغرب على إذلال روسيا وليس حل الأزمة، كما يبدو لكثير من الروس، فإن هذا يجعل الإطاحة ببوتين معناه الإتيان بغورباتشوف جديد الذي فكك الاتحاد السوفييتي ومهَّد لتوسيع الناتو.
لأن الغرب سيطلب من أي وريث لبوتين تقديم تنازلات كبيرة سيكون الغرب هذه المرة أكثر طمعاً في مزيد من التنازلات بطريقة تهدد وحدة روسيا نفسها مثلما حدث مع الاتحاد السوفييتي.
وقد يؤدي ذلك إما إلى انحدار روسيا أو صعود الشعور القومي الروسي عبر نموذج أكثر تطرفاً من بوتين.
قبل الروس في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينات تقديم بعض التنازلات للغرب، وكانوا يرغبون في العيش على النمط الغربي، فكانت النتيجة ليس فقط انهيار الاتحاد السوفييتي وفقدانه الروس لإمبراطوريتهم، ولكن عاشوا سنوات كانوا فيها على شفا الموت جوعاً، وكانت رؤية جثث المواطنين الذين توفوا بسبب خليط الفقر وإدمان الكحول والبرد أمراً شائعاً في موسكو.
قد يكون الجيل الجديد من الروس الذي يتظاهر ضد قرارات التجنيد التي أصدرها بوتين من لم يعِش هذه المأساة التي كانت في التسعينيات، ولكن الطبقة الحاكمة في روسيا وآباء الجيل الذي يتظاهر ضد التجنيد ما زالوا يتذكرون هذه الأيام، وفي الأغلب فإنهم ليسوا على استعداد للعودة لها، وهو أمر لا يمكن استبعاده إذا تحولت الاحتجاجات إلى أزمة سياسية كبيرة.
- ففي ظل غياب تقاليد ديمقراطية وسياسية راسخة في روسيا بديلة للحكم الاستبدادي القوي، وفي ظل نظرة الغرب لروسيا كعدو وليس كشريك أو حتى مجرد غريم، والسعي لإضعافها، فإن الروس سوف يظلون ملتفين حول بوتين على أمل الخروج بانتصار حتى لو كان مكلفاً، وسيتحملون المشكلات الاقتصادية على أمل أن يخترق بوتين الحصار على روسيا بخلق علاقات موازية مع الشرق الآسيوي بقيادة الصين والعالم الثالث.