يمثل نجاح أوكرانيا في هزيمة القوات الروسية بإقليم خاركيف بشمال البلاد نقطة تحول أخرى حاسمة في الحرب. ويواجه كلا الجانبين الآن قرارات حاسمة، إذ قد تؤدي معركة خاركيف لتصعيد يهدد العالم كله أو تفتح الباب لتسوية باتت ضرورية.
ويتعين على روسيا أن تقرر ما إذا كانت ستتخلى عن خيالها بشأن "عملية عسكرية خاصة" وتلتزم بحرب واسعة النطاق، وهو المسار الذي سيؤدي بلا شك إلى مخاطر أكبر ومزيد من الدمار لكلا البلدين.
كما يجب على حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوكرانيا أن يقررا ما إذا كانا سيستفيدان من هذه اللحظة للبحث عن تسوية تفاوضية مواتية من موقع القوة، أو مواجهة مخاطر نشوب صراع أكثر حدة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
هل يلجأ بوتين لاستدعاء الاحتياطي لمواجهة الحشود الأوكرانية بعد معركة خاركيف؟
وتطرح الخسائر التي تكبدتها روسيا خاصة في معركة خاركيف أيضاً أسئلة جوهرية: هل استراتيجية روسيا في خوض حرب محدودة، أو "عملية عسكرية خاصة"، بدون تجنيد عسكري كامل أو تعبئة على مستوى المجتمع، خيار عملي على المدى الطويل؟ أم أنَّ الكرملين الآن بحاجة إلى تعبئة الجيش الروسي بالكامل بما في ذلك استدعاء الاحتياطي، ووضع الاقتصاد المدني في حالة حرب؟.
وحتى الآن لم يتأثر المدنيون الروس في الغالب بالعواقب المادية للحرب، بجانب أنَّ الافتقار إلى التجنيد العسكري الكبير يعني أنَّ حقيقة الخسائر البشرية لم تصل إلى الكثيرين داخل البلاد، حسبما ورد في مقال نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية مؤخراً عن الحياة المدنية في موسكو.
وبالنسبة لأوكرانيا، فبفضل اقتصادها المدعوم بالمساعدات الخارجية (المساعدات الأمريكية وحدها تعادل الناتج المحلي الإجمالي السنوي لأوكرانيا قبل الحرب)، يمكنها تحمل إرسال الكثير من سكانها الذكور إلى الحرب. وإذا حشدت جنودها بالكامل، يمكنها توفير عدد أكبر من الجنود الذين ترسلهم روسيا الملتزمة جزئياً.
وبينما يخصص الجيش الروسي نحو 250 ألف جندي للحرب، فإن أوكرانيا التي منعت الذكور من السفر وتجند من الاحتياطي، لديها نحو مليون مقاتل حالياً، حسب مصادر أوكرانية، وهو أمر ظهر تأثيره الإيجابي لصالح كييف في معركة إقليم خاركيف.
روسيا تواجه تحالفاً اقتصاده أكبر منها بـ20 ضعفاً
وفيما يتعلق بالمعدات العسكرية، تدعم الولايات المتحدة ودول الناتو أوكرانيا وهي دول حصيلة ناتجها المحلي الإجمالي يبلغ حوالي 20 ضعف حجم روسيا. وهذا يعني أن هذا ليس صراعاً يمكن لروسيا أن تكسبه بوضوح دون التزام أكبر بكثير من حيث الأموال والجنود المخصصين للحرب.
أحد التفسيرات لاستمرار روسيا في عدم حشد الاحتياطي هو أنه من الناحية السياسية، لا يستطيع بوتين مطالبة شعبه بالتضحيات اللازمة للتعبئة الكاملة. فقد يخسر دعم العائلات الروسية عندما ترى أبناءها مجندين لما قد يعتبرونه حرباً غير ضرورية، وسيتعين عليه مشاركة المزيد من السلطة مع النخب الأخرى التي ستكون مساعدتها ضرورية لتوسيع الجهد العسكري.
من منظور غربي، هذه نظرة متفائلة؛ لأنها تعني أنَّ الدعم الروسي الداخلي للحرب هش، حسب وجهة النظر الغربية، والضغط بقوة أكبر قد يؤدي إلى انهيار نظام بوتين. وسواء كان هذا صحيحاً أم لا، فمن الواضح بالتأكيد أنَّ المطالبة بجهد حربي أكبر يحمل في طياته مخاطر سياسية على بوتين.
هل يحشد بوتين موارد صناعاته المدنية لصالح الحرب؟
وتتمثل النقطة الحرجة في ما يمكن أن يجلبه التصعيد مع مواصلة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة لضخ الموارد في أوكرانيا واستمرار الهجمات الأوكرانية.
هل ستزيد روسيا بحدة من مواردها العسكرية من خلال تعبئة الاحتياطيات وبذل جهود أكبر لتحويل الصناعة المدنية إلى الاستخدامات المناسبة للحرب بعد هزيمتها في معركة خاركيف؟
حتى الآن، يبدو أن الكرملين يرفض دعوات اليمين الروسي للتعبئة الكاملة، وهو الأمر الذي يعكس إما المخاطر السياسية لفعل ذلك أو بعض الاعتقاد بأنَّ بإمكانهم تثبيت وضعهم العسكري في أوكرانيا باستخدام القوات الموجودة.
ولكن في حال لجوء بوتين لاستدعاء الاحتياطي، فستؤدي هذه التعبئة الكاملة إلى توسيع ما هو بالفعل أكبر حرب أوروبية منذ الحرب العالمية الثانية وستدل على أنَّ روسيا تعتبر الصراع وجودياً.
الناتو قد يشجع كييف على استهداف القرم، وهذا قد يؤدي لتصعيد نووي
لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق بعد معركة خاركيف هو ما قد يكمن وراء التصعيد التقليدي. ويحذر البعض بالفعل من أنه إذا صعّدت روسيا عملياتها إلى تكتيكات أكثر تدميراً في أوكرانيا، فيمكن لقوات الناتو أن تشارك في الصراع مشاركة مباشرةً. وإذا كانت أوكرانيا المدعومة من الناتو قادرة على الضغط على شبه جزيرة القرم، التي تعتبرها روسيا أراضيها، فهل يصبح التصعيد النووي أمراً محتملاً؟
كما يشير تقرير جديد من مشروع تكاليف الحرب في جامعة براون، فإنَّ ضعف القوات التقليدية الروسية مقارنة بحلف الناتو هو بالضبط ما يدفعها إلى الاعتماد اعتماداً كبيراً على الأسلحة النووية، وهو اعتماد لن يتضخم إلا بالهزيمة العسكرية التقليدية.
كثرة تهديدات روسيا بالنووي تجعل البعض يستبعده، ولكن الأمر قد يتغير
وقد ألمحت موسكو بالفعل إلى التهديدات النووية عدة مرات خلال هذا الصراع. ربما يكون العالم قد أصبح غير حساس تجاه هذا الاحتمال، بسبب تلويح روسيا سابقاً بسيفها النووي والمخاطر الهائلة التي قد تتعرض لها من خلال اللجوء إلى الأسلحة النووية؛ مما قد يؤدي إلى رد فعل دولي أكبر ويزيد من عزلتها.
لكن تكاليف الصراع النووي ستكون باهظة للغاية على الجميع بحيث يجب أخذ المخاطر على محمل الجد من قبل روسيا أو الغرب على السواء.
ومع ذلك، من جانب الناتو، يجب أن يطرح النجاح في ساحة المعركة أيضاً إمكانيات دبلوماسية إضافية لمتابعة تسوية تحافظ على استقلال أوكرانيا وسيادتها.
ومع تزايد وضوح المخاطر الوجودية على الدولة الروسية، من المرجح أن يكون بوتين أكثر استعداداً لحل وسط يحفظ ماء الوجه حتى لو كان ينطوي على التخلي عن الأراضي الأوكرانية التي سيطر عليها بعد اندلاع الحرب في فبراير/شباط 2022.
وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الضغط الأوكراني المدعوم بالغرب على ما تحقق في ساحة المعركة دون أية مبادرات دبلوماسية على الإطلاق سوف يحصر روسيا أكثر في الزاوية، مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها.
وحتى توصل الأطراف لتسوية، ستبقى روسيا محتفظة بالقدرة على لعب دور المُفسِد في أوكرانيا، وتمنع بفاعلية أية جهود لإعادة بناء اقتصادي للبلاد، كما يتضح من ضربات البنية التحتية الأخيرة. فإنَّ الحرب المكثفة، حتى تلك التي تخسرها روسيا، حسب التقييم الغربي، وسيعني استمرارها مزيداً من الدمار وانتشار الفوضى. وكما يقترح المعلقون في واشنطن، هذه لحظة مناسبة لفتح الباب أمام الدبلوماسية.