يشهد الدولار الأمريكي ارتفاعاً لا يحدث في الجيل إلا مرة واحدة. لكنَّ هذه مشكلة كبيرة لبقية العالم. إذ يعني دور الدولار باعتباره العملة الأساسية المستخدمة في التجارة والتمويل العالمي أن لتقلُّباته تأثيرات واسعة النطاق. ويمكن الشعور بقوة العملة في نقص الوقود والغذاء في سريلانكا، وفي التضخم القياسي في أوروبا، وفي العجز التجاري الهائل في اليابان.
ماذا يعني استمرار صعود الدولار؟
يهدد الارتفاع بمفاقمة التباطؤ في النمو العالمي وتعظيم صداع التضخم للبنوك المركزية العالمية. وفي إشارة مثيرة للقلق، تشهد محاولات صانعي السياسة في الصين واليابان وأوروبا في الدفاع عن عملاتهم فشلاً إلى حدٍ كبير في مواجهة الارتفاع القوي للدولار، كما تقول صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
ففي الأسبوع الماضي، ارتفع الدولار بشكل رئيسي مقابل اليوان الصيني، وأصبح الدولار الواحد يعادل 7 يوانات لأول مرة منذ عام 2020. وبدأ المسؤولون اليابانيون، الذين لم يحركوا ساكناً سابقاً حين فقد الين خمس قيمته هذا العام، يشيرون إلى قلقهم علناً من أنَّ الأسواق تتجاوز الحد.
وارتفع مؤشر ICE للدولار الأمريكي، والذي يقيس العملة مقابل سلة من أكبر شركائها التجاريين، بأكثر من 14% في 2022، وهو في طريقة لتسجيل أفضل سنة له منذ إطلاق المؤشر عام 1985. وتراجع اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني البريطاني إلى أدنى مستويات لهذه العملات منذ عدة عقود في مقابل العملة الخضراء. وتضررت عملات الأسواق الناشئة، إذ تراجع الجنيه المصري بواقع 18%، والفورنت المجري بواقع 20%، وفقد الراند الجنوب إفريقي 9.4% من قيمته.
يأتي ارتفاع الدولار هذا العام مدفوعاً بالزيادات القوية في أسعار الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتي شجَّعت المستثمرين العالميين على سحب أموالهم من الأسواق الأخرى للاستثمار في الأصول الأمريكية الأعلى عائد.
مزيد من التضخم يعني المزيد من الفائدة
وتشير البيانات الاقتصادية الأخيرة إلى أنَّ التضخم الأمريكي لا يزال مرتفعاً ويستعصي عن التراجع، وهو ما يعزز الدوافع نحو مزيد من زيادات الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي وزيادة قوة الدولار أكثر.
وتعمل الآفاق الاقتصادية الباهتة لبقية العالم أيضاً على تعزيز العملة الخضراء. فأوروبا في الخطوط الأمامية لحرب اقتصادية على روسيا، وتواجه الصين أكبر تباطؤ اقتصادي في سنوات في ظل تلاشي الطفرة العقارية التي استمرت لعقود عدة.
يعني الدولار الأقوى بالنسبة للولايات المتحدة واردات أرخص، وهو ما يوفر رياحاً مواتية لجهود احتواء التضخم، وقوة شرائية قياسية نسبياً للأمريكيين. لكنَّ بقية العالم يئن تحت وطأة ارتفاع الدولار.
حذَّر البنك الدولي الخميس 15 سبتمبر/أيلول 2022، من أنَّ الاقتصاد العالمي يتجه نحو ركود "وسلسلة من الأزمات المالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية ستلحق بها ضرراً دائماً".
تزيد هذه الرسالة القاسية المخاوف من اتساع الضغوط المالية بالنسبة للاقتصادات الناشئة خارج دائرة الضعف المعروفة مثل سريلانكا وباكستان اللتين سعيتا بالفعل للحصول على المساعدة من صندوق النقد الدولي. وأصبحت صربيا أحدث دولة منفتحة على إجراء مباحثات مع الصندوق الأسبوع الماضي.
المعاناة الاقتصادية تتضاعف في الدول النامية
يجعل الدولار القوي الديون التي حصلت عليها حكومات وشركات الأسواق الناشئة بالدولار الأمريكي أكثر تكلفة عند السداد. ووفقاً للبيانات من معهد التمويل الدولي الذي يغطي 32 بلداً، لدى حكومات الأسواق الناشئة 83 مليار دولار من الديون الدولارية مستحقة السداد بحلول نهاية العام المقبل.
قال دانيال مونيفار، الاقتصادي في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية: "عليكم أن تنظروا إلى هذا من خلال عدسة الميزانية. فأنتم تدخلون 2022 وفجأة تتراجع عملتكم بـ30%. وستضطرون في الغالب إلى خفض الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم لتلبية مدفوعات الدين تلك".
أدى ارتفاع العملة إلى مضاعفة المعاناة في البلدان الأصغر من خلال جعل واردات الغذاء والوقود الضرورية المُسعَّرة بالدولار أغلى. استفاد الكثير من هذه البلدان من مخزونات الدولار والعملات الأجنبية الأخرى للمساعدة في تمويل الواردات واستقرار عملاتها. وفي حين تراجعت أسعار السلع من مستوياتها المرتفعة في الأشهر الأخيرة، لم يؤدِ ذلك إلى أثر يُذكَر لتخفيف الضغط عن البلدان النامية.
قال غابرييل ستيرن، مدير أبحاث الأسواق الناشئة في شركة Oxford Economics: "إن زادت قوة الدولار أكثر، ستكون تلك هي القشة التي تقصم ظهر البعير".
اتخذت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة خطوات قاسية لكبح الانخفاض في عملاتها وسنداتها. فرفعت الأرجنتين أسعار الفائدة الخميس الماضي إلى 75% في ظل سعيها لكبح التضخم المتصاعد والدفاع عن البيزو الذي فقد قرابة 30% من قيمته مقابل الدولار هذا العام. وفاجأت غانا المستثمرين أيضاً الشهر الماضي، أغسطس/آب، برفع أسعار الفائدة إلى 22%، لكنَّ عملتها تواصل التراجع.
حتى الاقتصادات الناشئة والمتقدمة تعاني من صعود الدولار
وليست الاقتصادات النامية فقط هي التي تكافح للتعامل مع ضعف عملاتها. ففي أوروبا، يعظِّم ضعف اليورو زيادة تاريخية في التضخم ناجمة عن الحرب في أوكرانيا وما نتج عنها من ارتفاع في أسعار الغاز والكهرباء.
وعبَّرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، في اجتماع البنك في 8 سبتمبر/أيلول، عن قلقها بشأن تراجع اليورو بنسبة 12% هذا العام، قائلةً إن ذلك "يزيد تراكم الضغوط التضخمية". ويشير البنك إلى سياسة أكثر تشدداً، ويتوقع المستثمرون الآن ارتفاعاً أسعار الفائدة إلى مستوى 2.5%. لكنَّ ذلك لم يساعد قيمة العملة كثيراً.
قال فريدريك دوكروزيت، مدير أبحاث الاقتصاد الكلي بشركة Pictet Wealth Management إنَّ البنك المركزي الأوروبي لا حول له ولا قوة في مواجهة قوة الدولار. وأضاف: "سواء تحول البنك المركزي الأوروبي إلى موقف أكثر تشدداً، أو كان هنالك بعض التحسُّن بشأن الآفاق الاقتصادية، مهما حدث، فإنَّ زيادة قوة الدولار ستؤدي عموماً إلى إلغاء ذلك الأثر".
من جانبها، أقرَّت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، بأنَّ ارتفاع قيمة الدولار قد تفرض تحديات للأسواق الناشئة، لاسيما الأسواق ذات الديون الدولارية الكبيرة. لكنَّها قالت في يوليو/تموز الماضي إنَّها ليست قلقة بشأن حدوث دورة تقوية ذاتية للدولار يمكن أن تؤدي إلى إبطاء النمو العالمي.
وتركت قوة الدولار أثرها في أرجاء وول ستريت، وهو ما أثَّر على الأرباح التي تحققها الشركات الأمريكية بالخارج وتكبح الاستثمارات المرتبطة بسلع مثل الذهب والنفط.
ما الحل للخروج من هذه الأزمة؟
بحسب وول ستريت جورنال، يثير مستثمرون واقتصاديون احتمال اتخاذ إجراء عالمي للمساعدة في إضعاف الدولار، ولو أنَّهم يحذرون من أنَّ احتمال حدوث هذه الخطوة يبقى صغيراً. وكانت الولايات المتحدة وفرنسا وغرب ألمانيا والمملكة المتحدة واليابان قد أطلقت جهداً مشتركاً عام 1985، يُعرَف بـ"اتفاق بلازا"، لتخفيض قيمة الدولار في خضم مخاوف من أنَّه كان يؤثر على الاقتصاد العالمي.
حاول البنك المركزي الصيني دعم اليوان من خلال إطلاق المزيد من السيولة الدولارية في السوق. وخفَّض حجم الاحتياطي الذي يتعين أن تُبقي عليه البنوك مقابل ودائعها بالعملات الأجنبية، وحدَّد سعر الإغلاق اليومي -وهو نقطة مرجعية للعملة- بمستوى أقوى من توقعات السوق.
وقال تومي شيه، مدير أبحاث واستراتيجية الصين الكبرى في بنك OCBC، إنَّ زيادة حساسية المنظمين الصينيين إزاء انخفاض اليوان ربما تنبع من قلقهم من أنَّ اليوان الضعيف يمكن أن يضعف ثقة المستهلكين أكثر.
وفي اليابان، يخشى صانعو السياسة من أنَّ تراجع الين إلى أقل مستوى له في 24 عاماً مقابل الدولار يضر بالأعمال الاقتصادية. فقال محافظ بنك اليابان، هاروهيكو كورودا، هذا الشهر، سبتمبر/ايلول، إنَّ الانخفاض الحاد في قيمة الين "على الأرجح ستجعل استراتيجية الأعمال الخاصة بالشركات غير مستقرة".
وساعد ضعف الين في دفع اليابان إلى أكبر عجز تجاري مُسجَّل في شهر واحد في أغسطس/آب الماضي -2.82 تريليون ين بما يعادل نحو 20 مليار دولار- بعدما زادت قيمة الواردات بنسبة 50% بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وتراجع قيمة العملة.
وقال رئيس الوزراء، فوميو كيشيدا، يوم الأربعاء 14 سبتمبر/أيلول، إنَّ اليابان بحاجة إلى التوصل إلى طرق للاستفادة من تراجع قيمة الين، وأحد الحلول هو دعوة مزيد من السائحين، حسب تعبيره.