بينما كان ضعف أداء القوات الجوية الروسية، لغزاً مثيراً للدهشة منذ بداية حرب أوكرانيا، فإن هذا اللغز ازداد غموضاً بعدم لجوء موسكو إلى سلاح الجو الروسي في معركة خاركيف عندما بدت في أمسّ الحاجة إليه خلال الهجوم الأوكراني الذي شكل فرصة لا تعوض للروس لاستهداف الجنود الأوكرانيين، بعد أن خرجوا من مخابئهم وثكناتهم المحصنة.
وشكل هجوم إقليم خاركيف أكبر نكسة لروسيا منذ بداية الحرب، حيث لم تعترف موسكو فقط خلال هذا الهجوم، بانسحاب قواتها من الإقليم (بدعوى إعادة الانتشار)، ولكن القوات الأوكرانية وصلت لقرب الحدود الروسية، وسط انتقادات روسية داخلية من الصقور المؤيدين للحرب، لأداء الجيش الروسي، فيما أفادت تقارير غربية بأن هناك مخاوف في مدن روسية ملاصقة للحدود الأوكرانية، من دخول الجيش الأوكراني.
تساؤلات حول أداء سلاح الجو الروسي في معركة خاركيف
سؤال جديد تطرحه الحرب الأوكرانية، وهو لماذا لم تستخدم روسيا سلاحها الجوي الجبار لوقف هجوم أوكرانيا المضاد في خاركييف؟ رغم أن هذا يمثل وقتاً مثالياً، حيث يفترض أن حركة القوات الأوكرانية تجعلها أكثر سهولة للاستهداف من قبل مئات من القاذفات المقاتلة الحديثة التابعة لسلاح الجو الروسي، وهو ما حذرت منه مصادر غربية وأوكرانية على السواء بالفعل.
كما أن موسكو كانت بحاجة إلى سلاح الجو الروسي في معركة خاركيف في ظل أن الأوكرانيين استهدفوا منطقة الحشود الروسية فيها قليلة العدد، مما يجعل تدخل القوات الجوية الروسية مسألة شديدة الأهمية، خاصة أن المعركة كانت تدور قرب الحدود الروسية.
ولكن بدا سلاح الجو الروسي في معركة خاركيف ضعيف التواجد،. ولم يبذل أي جهد ذي مغزى لوقف الهجومين المضادين اللذين انطلق أولهما يوم 30 أغسطس/آب في الجنوب، وبعد ثمانية أيام في الشرق، حسبما ورد في تقرير لمجلة Forbes الأمريكية.
كان لدى سلاح الجو الروسي في معركة خاركيف- وكذلك الذراع الجوية للبحرية الروسية- فرص لضرب الأوكرانيين في أكثر لحظاتهم الحرجة، وهي في الساعات الأولى من أي هجوم مضاد، عندما تركز الألوية والكتائب مركباتها لتتحرك إلى الأمام في طوابير.
عقيدة سلاح الجو الروسي تمنعه من مهاجمة الأهداف المتحركة
أحد أسباب عدم مبادرة سلاح الجو الروسي لوأد الهجوم الأوكراني أن عقيدة سلاح الجو الروسي تمنعه من دعم القوات البرية عن كثب، عندما يكون العدو في حالة تحرك.
وذلك لأن القوة الجوية الروسية ليست "قوة جوية" بالمعنى الغربي، بل هي بمثابة مدفعية محمولة جواً. حيث يقوم الطيارون بتفجير القنابل – في أهداف لا يمكنهم رؤيتها – بناء على الإحداثيات التي يزودهم بها القادة الميدانيون، والتي غالباً ما تستند إلى معلومات استخبارية قديمة، ولا تستطيع مواكبة حركة القوات المعادية السريعة.
فالقوات الجوية الروسية لا تتبع القوات البرية للعدو في الوقت الحقيقي. ولا تترك لطياريها مهمة مطاردة العدو بأنفسهم.
وبالتالي ما دام الأوكرانيون يتحركون يمكنهم تجنب الهجوم الروسي، حسب تقرير مجلة Forbes الأمريكية.
ولهذا كان لافتاً أن القوات الجوية الروسية اكتفت بالرد على هجوم خاركيف بتنفيذ هجمات ضد أهداف مدنية أوكرانية ثابتة ليس قريبة من ميادين القتال في الأغلب.
ومدافع ألمانية تصدت لطائرات موسكو
في المرات القليلة خلال هجوم خاركيف الذي استغرق نحو عشرة أيام التي أطلق فيها الروس طلعات جوية، واجه الطيارون الروس دفاعات جوية أوكرانية قاسية. زعمت الحكومة في كييف أن قواتها أسقطت تسع طائرات حربية روسية في الفترة ما بين 29 أغسطس/آب و12 سبتمبر/أيلول.
وأكد محللون مستقلون يبحثون على وسائل التواصل الاجتماعي عن صور ومقاطع فيديو لخسائر الطرفين، وقوع 5 خسائر على الأقل، بما في ذلك طائرتان من طراز سوخوي-25 وطائرتان من طراز سوخوي-34 وطائرة سوخوي-30.
من غير الواضح بالضبط كيف أسقط الأوكرانيون الطائرات الروسية، لكن مجلة الإيكونوميست البريطانية، استشهدت بمصادر أوكرانية قالت إن مدافع جيبارد ذاتية الدفع المضادة للطائرات الألمانية الصنع لعبت دوراً كبيراً في المعركة، وهي مدافع متحركة على منصوبة على هياكل دبابات ليوبارد الشهيرة، مما يجعلها محصنة نسبياً، ومزودة برادار.
أداء القوات الجوية الروسية كان مفاجئاً منذ بداية الحرب
وبصفة عامة، فإن أداء القوات الجوية الروسية خالف التوقعات منذ بداية الحرب، فقبل الغزو الروسي لأوكرانيا، توقعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية هجوماً عنيفاً من جانب موسكو من شأنه أن يحشد بسرعة، القوة الجوية الروسية الهائلة، للسيطرة على سماء أوكرانيا.
لكن منذ بداية الحرب بدا المسؤولون الروس حذرين في توظيف القوات الجوية، لدرجة أن المسؤولين الأمريكيين لا يستطيعون تفسير دوافع سلوك روسيا الذي يتجنب المخاطرة، حسبما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
ومن المحتمل أن يكون أداء القوات الجوية الروسية الضعيف وأحد أهم العوامل وراء تعثر الحملة العسكرية في أوكرانيا، حسب تقييم المخابرات العسكرية البريطانية.
وحتى شهر يونيو/حزيران قالت أوكرانيا إنها دمرت 216 مقاتلة وطائرة هجومية وطائرة نقل و181 مروحية روسية.
موسكو لم تقضِ على القوات الجوية الأوكرانية رغم مرور ستة أشهر على الحرب
ولكن الأمر مثير للاستغراب أيضاً، هو فشل روسيا في إيقاف الطائرات الأوكرانية والتغلب على الأسلحة المضادة للطائرات الأوكرانية رغم مرور كل هذه الفترة.
وهو أمر وصفه الجنرال تشارلز براون جونيور، رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، بأنه غير عادي بشكل خاص، لأن الروس يستخدمون العديد من الأسلحة التي بحوزة الأوكرانيين، حسب ما نقل عنه موقع 1945 العسكري الأمريكي، ولكن عدد الأسلحة لدى الروس أكبر بكثير، كما أن النسخ الروسية أكثر تطوراً مما لدى أوكرانيا، بفارق كبيرة كما تؤكد التقارير العسكرية الروسية والغربية على السواء.
ولدى أوكرانيا أنظمة دفاع جوي وصواريخ سوفييتية أو روسية المنشأ، وبعضها تبرعت به دول مجاورة. وأسقطت كييف العديد من الطائرات الروسية بنظام الدفاع الجوي السوفياتي S-300 ، وهي أنظمة سوفيتية تصنعها موسكو وبالتالي يجب أن تكون نقاط ضعفها معروفة جيداً لمخططي المهام والطيارين الروس.
وقال الجنرال تشارلز براون جونيور في لقاء مركز أبحاث في العاصمة الأمريكية واشنطن، إنه أمر مفاجئ بالنسبة؛ لأن الأنظمة الأوكرانية التي يحاربها الروس هي أنظمتهم الخاصة، ولكنهم لا يستطيعون إلحاق الهزيمة بهم".
"إن هذا يطرح سؤالاً حقيقياً بالنسبة لي: لماذا لا يفهمون أنظمتهم الخاصة؟ وكيف لا يهزمونها؟".
سر إخفاق الروس في تحقيق هيمنة جوية، وكيف لا يتغلبون على الأسلحة التي صنعوها؟
تعد عدم قدرة روسيا على تحقيق الهيمنة الجوية في أوكرانيا واحدة من أكبر مفاجآت الحرب، حيث لم تتمكن القوات الجوية الروسية من إعاقة الطائرات الأوكرانية أو التغلب على الدفاعات الجوية الأوكرانية.
يُذكر أن روسيا لديها قوة جوية أكبر بكثير من جارتها أوكرانيا بشكل هائل، وتعتبر الثانية على مستوى العالم بعد القوات الجوية الأمريكية.
ويُذكر دليل القوات الجوية العالمية لشركة Flight Global 2022 أن روسيا تمتلك 1511 طائرة مقاتلة (قبل الحرب)، في حين أن أوكرانيا لديها أقل من 100 طائرة.
تفوق روسي ساحق على أوكرانيا في السماء
ولكن عند المقارنة بين النوعية يظهر الفارق بشكل أكبر.
فلدى أوكرانيا عدد قليل ومتقادم من الطائرات ورثتها عن الاتحاد السوفييتي، بشكل يجعل سلاحها الجوي أضعف من معظم الدول العربية.
وأبرز الطائرات لدى أوكرانيا 37 طائرة ميغ 29، معظمها من نسخ قديمة غير محدثة بمستوى لا يناهز النسخ الروسية، ولديها 17 مقاتلة متخصصة في القصف الجوي من طراز سوخوي 25، و12 قاذفة من طراز سوخوي 24، وأقوى ما في جعبتها 32 من الطائرة الشهيرة سوخوي 27 التي تعود للثمانينيات ويُعتقد أنها تعادل في قدراتها الـ"إف 15″ الأمريكية.
الفارق الهائل يُظهر من أن روسيا لديها (229 طائرة) من السوخوي 27، ولكنها تمثل الجيل الأقدم من الطائرات الروسية، إذ لديها نسخ أحدث من هذه العائلة، منها 111 من طائرات سوخوي 30 الروسية الشهيرة التي تقارَن بالـ"إف 15 سترايك إيجل" الأمريكية (219 طائرة لدى واشنطن)، وتمتلك موسكو 92 من النسخة الأحدث من هذه العائلة الطائرة الشهيرة سوخوي 35، إضافة إلى 124 من المقاتلة القاذفة سوخوي 34 المطورة عن الأصل نفسه.
وتمتلك روسيا 280 طائرة من المقاتلة الخفيفة ميغ 29، المنافسة للـ"إف 16″ الأمريكية، و274 قاذفة من طراز سوخوي 24، و193 طائرة هجوم أرضي من طراز سوخوي 25، و113 من الاعتراضية الشهيرة فائقة السرعة ميغ 31، التي تعد من أساطير الحرب الباردة.
إضافة إلى بضع مقاتلات شبحية من طراز سوخوي 57 الشبحية من الجيل الخامس التي بدأت تدخل الخدمة بشكل محدود.
كما أن روسيا لديها قاذفات توبيولوف 22 إم، وتويبولوف 95 (منافسة للقاذفة الأمريكية الشهيرة بي 52)، وتوبيولوف 160 الأسرع من الصوت (المنافسة للقاذفة الأمريكية بي 1 بي)، وكلها قاذقات ثقيلة بعيدة المدى قادرة على إطلاق صواريخ كروز، وحمل أسلحة تقليدية ضخمة وكذلك أسلحة نووية.
ولدى روسيا أكثر من ألف من المروحية الشهيرة متعددة المهام ميل مي 17/8، ونحو 109 مروحيات من طراز كيه إيه 52، و108 من طراز ميل مي 28، وكلتاهما تعد منافساً للمروحية الأمريكية الشهيرة أباتشي، و329 من المروحية الهجومية الشهيرة ميل مي 24 وهي قديمة نسبياً ولكن مشهود لها بالكفاءة.
ورغم تفوق القوات الجوية الروسية على نظيرتها الأوكرانية بشكل كبير، الذي يزيد عن التفوق الأمريكي على العراق الذي ظهر في حرب 1991، لا تزال القوات الجوية الأوكرانية تحلّق ولا تزال دفاعاتها الجوية قابلة للحياة، وهي حقيقة محيّرة للخبراء العسكريين.
ويعني ذلك أن القوات الجوية الأوكرانية تعتمد بشكل أساسي على أعدادات قليلة من طائرات ومروحيات سوفيتية متقادمة، والعثور على قطع غيار وخبرات لإبقائها قيد التشغيل أكثر صعوبة مع مرور الوقت واستمرار الحرب.
طلب الأوكرانيون مراراً من الولايات المتحدة توفير طائرات مقاتلة غربية متطورة، لكن واشنطن رفضت القيام بذلك بسبب مخاوف بشأن التصعيد مع روسيا والشكوك حول قدرة أوكرانيا على استخدامها بفاعلية.
دفع هذا الوضع بعض المحللين إلى استنتاج أن القوات الجوية الروسية، ليست بالقوة أو الكفاءة المتصورة.
الروس لم يوجهوا ضربة كبيرة للدفاعات الجوية الأوكرانية في بداية الحرب
قارن رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية أداء الطيران الروسي في أوكرانيا بتركيز الجيش الأمريكي على تحقيق التفوق الجوي في بداية أي حرب، مشيراً على وجه التحديد إلى العمليات الجوية الأمريكية ضد العراق عام 1991 خلال حرب الخليج الأولى.
وقال براون: "لقد تمكنا من القضاء على العديد من أنظمة الدفاع أرض-جو لتطهير المناطق حتى نتمكن من توفير تفوق جوي فوق المناطق التي تعمل فيها القوات البرية". "ليست هذه هي الطريقة التي يعمل بها الروس. لم يركزوا حقاً على قمع الدفاع الجوي الأوكراني".
هذا الفشل له جذوره في الاستعدادات المتهورة للهجوم، واقتناعاً من الروس بأن الأوكرانيين لن يكونوا قادرين على المقاومة، حيث أهمل الروس في الحملة الجوية التي شنوها بقصد تدمير أنظمة دفاع العدو قبل الهجوم البري.
مقارنة بأكثر من 500 صاروخ كروز أطلقها الأمريكيون خلال ساعات قليلة و1700 طلعة جوية خلال المرحلة الافتتاحية للصراع العراقي في عام 2003، لم تطلق روسيا على أوكرانيا في بداية الحرب إلا حوالي 150 صاروخاً، مما منع تحقيق هيمنة جوية مبكرة، حسبما قال الباحث جان كريستوف نويل من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية لصحيفة Le Monde الفرنسية.
ويرى البعض أنه لا يمكن لعقيدة الحرب الجوية الروسية القديمة مواكبة ساحة المعركة سريعة التغير.
من جانبه، نسب رئيس أركان سلاح الجو الأمريكي الفضل في هذه النتيجة أيضاً إلى الأوكرانيين باعتبارهم "ديناميكيين إلى حد ما" في استخدام أنظمة الدفاع الجوي الخاصة بهم، والتي عززتها دول الناتو بآلاف الأسلحة المحمولة على الكتف المضادة للطائرات، بما في ذلك صواريخ ستينجر الأمريكية الصنع.
وأضاف أن "الروس لن يغامروا كثيراً بسبب ما أثبت الأوكرانيون أنهم قادرون على فعله بدفاعاتهم الجوية".
وقال براون إنه "إذا لم تتمكن من القيام بالاستهداف الديناميكي بشكل جيد، فستواجه صعوبة في الوصول إلى الأهداف المتحركة"، "هذا شيء أعتقد أن القوات الجوية الأمريكية تقوم به بشكل جيد إلى حد ما، وهو شيء سنواصل العمل عليه".
وقال جاستن برونك، خبير الحرب الجوية في مركز الأبحاث الدفاعي البريطاني RUSI، إن هناك نقصاً في الأسلحة والمعدات لدى الروس، يحد الدعم الجوي ونقص التدريب لهذه المهمة المعقدة، مما يقلل من قدرة الروس على استغلال ميزة تفوقهم الجوي، حسبما نقل عنه موقع Business Insider الأمريكي.
والآن بعد 200 يوم من الحرب الروسية على أوكرانيا، لم تبذل القوات الجوية الروسية جهوداً متضافرة للعثور على الدفاعات الجوية الأوكرانية وتعقبها ومهاجمتها.
في المقابل أطلقت طائرات MiG-29 و Su-27 الأوكرانية صواريخ مضادة للرادار أمريكية الصنع، مما أدى إلى تدمير بعض أنظمة الدفاع الجوي الروسية، مما أخاف أطقمها ودفعهم إلى إيقاف تشغيل راداراتهم.
مشكلات اللوجستيات والفساد وأساليب القيادة
على الرغم من أن الكثير من المعدات الجديدة البراقة، مثل الطائرة الهجومية SU-34 التي تم الترويج لها كثيراً، لا تزال القوات الجوية الروسية تعاني من العمليات اللوجستية المعيبة، حسب تقرير لمجلة the Atlantic الأمريكية.
يزعم تقرير the Atlantic أن الروس يهدرون المال والجهد جراء الفساد وعدم الكفاءة، وفوق كل شيء، فإن طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي في روسيا لا تثق في الضباط ذوي الرتب المنخفضة والمتوسطة، وبالتالي لا يمكنهم السماح باتخاذ القرارات المرنة والمبتكرة التي تعتمد عليها القوات الجوية لدول الناتو.
كل هذا يعني أنه عندما بدأ الغزو، لم يكن سلاح الجو الروسي قادراً على إدارة حملة مدروسة ومعقدة.
روسيا قوة قارية تعطي الأولوية للقوات البرية
بدلاً من العمل للسيطرة على الأجواء، قدمت القوات الجوية الروسية في الغالب دعماً جوياً للقوات البرية أو قصفت المدن الأوكرانية.
في هذا اتبعت موسكو التكتيكات التقليدية لقوة قارية تمنح الأولوية للقوات البرية.
فروسيا مرتبطة بتاريخها الحافل بالنجاحات على الأرض، لدرجة أنها فشلت في فهم أهمية القوة الجوية، حسب خبراء غربيين.
ولكن يمكن أن ينجح التركيز على القوات البرية إذا كان لديك أعداد لا نهائية من الجنود وكنت على استعداد لخسارتهم، ولكن المشكلة أن الجيش الروسي الحالي ليس جيشاً ضخماً كجيوش القياصرة والسوفييت، فلدى موسكو نحو 200 ألف جندي في أوكرانيا (حيث لم تستدع موسكو الاحتياطي بعد) مقابل مليون جندى لدى كييف التي استدعت الاحتياطي، وبالتالي قد تكون هذه أول حرب في تاريخ روسيا منذ قرون التي تحارب وهي تفتقد لميزة التفوق العددي.
وهو أمر يستدعي دوراً أكبر للقوات الجوية الروسية التي بدورها، ليس مستعدة بسبب الدور الثانوي التقليدي المتاح لها نتيجة العقيدة العسكرية التي تعود لأيام الجيوش البرية السوفيتية كبيرة العدد.
فلقد أدت الإصلاحات التي أدخلت في عهد بوتين، إلى تحويله لجيش رشيق على غرار الجيوش الغربية، عبر التخلي عن أعداد الجنود الغفيرة، ولكن ذلك تم دون اكتساب المرونة التي تتسم بها الجيوش الغربية بما في ذلك القوات الجوية.
لم يسبق لموسكو أن أدارت حملة جوية ناجحة من قبل
يقول ديفيد أ. ديبتولا الضابط المتقاعد من القوات الجوية الأمريكية، إن "روسيا لم تستطع مطلقاً استخدام القوة الجوية بما يتجاوز الدعم للقوات البرية، ونتيجة لذلك، فإن موسكو، في جميع حروبها، لم تصمم أو تدِر حملة جوية استراتيجية"، حسب قوله.
وبدلاً من ذلك، تُترك الطائرات الروسية تحلق في مهامها المباشرة، وكثير منها يستخدم طائرات دون الدعم المتبادل من العمليات الجوية المشتركة التي يمكن توقعها في قوة جوية متقدمة لحلف شمال الأطلسي.
إذ يتم إعطاء الطيارين الروس موقع هدف؛ يطيرون بسرعة لمهاجمته، وفي كثير من الحالات تعتمد القوات الجوية الروسية على ذخائر غير موجهة لمحاولة إصابة أهدافها.
إنهم يقولون للطيارين انطلق وحاول ألا يتم إسقاطك، ولا يسمح لهم بالتصرف بمرونة لتحقيق المهمة. ولكن لديهم أوامر ويقومون بتنفيذها، مهما حدث.
حتى قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الروسية تبدو ضعيفة بشكل مدهش، فنادراً ما تبدو القوات الروسية قادرة على تحديد الأهداف الأوكرانية المحتملة ونشر الأصول الجوية لمهاجمتها بسرعة كافية لإحداث فرق بطبيعة الحال.
الأوكرانيون قدموا مفهوماً متماسكاً للقوات الجوية
كما كان أهم أسباب فشل القوة الجوية الروسية هو أداء القوات الجوية الأوكرانية. على عكس أعدائهم، طور الأوكرانيون مفهوماً متماسكاً للعمليات الجوية، وهو مفهوم سمح لهم بعرقلة ما بدا أنه طريق سهل أمام روسيا لتحقيق الهيمنة الجوية.
إذ قام الأوكرانيون بدمج مجموعة من القدرات الجوية والمضادة الجوية لإحباط القوة الجوية الروسية الأكبر بكثير.
بدءاً من صواريخ أرض – جو الرخيصة المحمولة باليد، تمكن الأوكرانيون من تقييد القوة الجوية الروسية في عدد قليل من المناطق الشرقية والجنوبية، مما حد إلى حد كبير من حرية روسيا في المناورة.
وكذلك هناك أنظمة جيبارد الألمانية الصنع وأنظمة Buks متوسطة المدى و Strelas قصيرة المدى.
كما أن إضافة أنظمة صواريخ إس -300 أكثر قوة وأطول مدى قدمتها سلوفاكيا لأوكرانيا، جعل الطيارين الروس أكثر عرضة للخطر. إذ يُجبر تهديد إس -300 الطائرات الروسية التي تعمل بشكل فردي والتي تفتقر في الأغلب إلى تقنيات التزود بالوقود جواً، وقدرات الحرب الإلكترونية، ودعم القيادة والسيطرة، على الطيران على ارتفاع منخفض على الأرض لتبعد نفسها عن هجمات هذه الصواريخ.
وهذا بدوره يجعلهم أكثر عرضة لصواريخ أرض – جو المحمولة على الأكتاف.
لا يمكن لأوكرانيا استهداف كل الطائرات الروسية، لكنها استخدمت هذه الأساليب بذكاء ما لديها لضمان قلق الطيارين الروس من احتمال استهدافهم في أي مكان، مما يجبرهم على التصرف بشكل أكثر دفاعية ويقلل من فاعليتهم.
في وقت مبكر من الحرب، كان الأوكرانيون قادرين على استخدام طائرات بدون طيار تركية الصنع من طراز Bayraktar لمهاجمة بعض الأهداف عالية القيمة. كما استخدم الأوكرانيون طائرات بدون طيار للتعرف على صواريخ أرض – جو الروسية وتدميرها، مما يجعل القوات البرية الروسية أكثر عرضة للهجوم من الأعلى.
إن قدرة أوكرانيا على التنافس في مجالها الجوي لم توفر الحماية لقواتها فحسب، بل سمحت لها أيضاً بالهجوم أحياناً، كما حدث في هجوم خاركييف الأخير.
أظهر الأوكرانيون أيضاً قدرة أكبر بكثير من الروس على استخدام مواردهم الجوية المحدودة بطريقة إبداعية، حسب وصف the Atlantic.
يبدو أن غرق طراد الصواريخ موسكفا في البحر الأسود، والذي أذهل العالم، قد حدث من خلال لكمة مزدوجة ذكية. زعم المسؤولون الأوكرانيون أنهم استخدموا طائرة بيرقدار مسيرة تركية الصنع، لإلهاء قدرات موسكفا المضادة للطيران، ثم أطلقوا صواريخ Neptune المحلية المضادة الصنع للسفن قبل أن يتمكن الطاقم الروسي المرتبك من الرد.
يكشف هذا الاستخدام المبتكر للقوة الجوية أن الأوكرانيين قد يكون لديهم فهم أكثر تطوراً للعمليات الجوية حتى من العديد من دول الناتو، التي تعتبر هيمنتها الجوية أمراً مفروغاً منه.
إن ما فعله الأوكرانيون- من خلال محاربة عدو أكثر قوة في السماء بثمن بخس- أمر صعب للغاية. يقول ديبتولا إن الغرب لديه الكثير ليتعلمه من نجاحات أوكرانيا.
وأضاف: "لقد أصبح القوات الجوية الغربية مهيمنة في الجو لدرجة أنها لم تضطر مطلقاً إلى التفكير في كيفية استخدام القوة الجوية إذا كنا القوة الأدنى". "أوكرانيا تطرح علينا بعض الأسئلة المشوقة للغاية التي يجب أن نفكر فيها بجدية، حتى نفهم فقط كيف يمكن أن يأخذنا خصم ذكي إلى فخ".
الدعم الاستخباراتي الأمريكي
باعتراف وسائل إعلام غربية فإن أحد أسباب تعثر القوات الجوية الروسية هو دعم أمريكي لكييف يشمل إضافة للأسلحة، تبادل المعلومات الاستخباراتية في الوقت المناسب وبدقة من قبل الولايات المتحدة وأجهزة المخابرات الغربية الأخرى.
سوء التدريب
لكن هناك سبباً آخر وراء الأداء الضعيف للقوات الجوية الروسية في سماء أوكرانيا يتعلق بتدريباتها السيئة قبل الحرب،، حسب خبراء غربيين، وأظهر القتال حتى الآن بما في ذلك أداء سلاح الجو الروسي في معركة خاركيف، أن القوات الجوية الروسية لا تملك القدرة على إجراء عمليات واسعة النطاق فوق مجال جوي متنازع عليه.
يعد نشر بضعة أزواج من الطائرات في نفس الوقت أمراً مختلفاً تماماً عن امتلاك العشرات إن لم يكن المئات من الطائرات من جميع الأنواع التي تجري عمليات قتالية في نفس الوقت فوق المجال الجوي المتنازع عليه. يمتلك الجيش الأمريكي وحلف شمال الأطلسي القدرة على القيام بالأمر الأخير، وقد أثبتا ذلك خلال زمن الحرب (حرب الخليج الأولى، على سبيل المثال). لكن هذه القدرة لم تكن موجودة فجأة ولكن كان لا بد من تطويرها وشحذها من خلال التدريبات المشتركة.
وقالت المخابرات العسكرية البريطانية: "لسنوات، من المرجح أن يكون الكثير من التدريبات القتالية الجوية لروسيا مصممة لإرضاء كبار المسؤولين، بدلاً من تطوير مبادرة ديناميكية بين الأطقم الجوية".
وبينما تمتلك روسيا قائمة رائعة من الطائرات المقاتلة الحديثة والقادرة نسبياً، إلا أن القوة الجوية فشلت بشكل شبه مؤكد في تطوير الثقافة المؤسسية ومجموعات المهارات المطلوبة لأفرادها لتلبية تطلعات روسيا في تقديم حملة جوية أكثر حداثة على النمط الغربي.
وقد أدى ذلك إلى إلقاء عبء أكبر من المجهود المخطط له على القوات البرية التي أصبحت منهكة، وعلى صواريخ كروز المتقدمة، التي من المحتمل أن تكون مخزوناتها قد تراجعت بشكل كبير، حسب وزارة الدفاع البريطانية.