بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، فتحت بريطانيا الباب أمام المحاصيل المعدلة وراثياً للتغلب على تغير المناخ، فماذا يعني ذلك لعلاقات لندن وبروكسيل من جهة، ولباقي العالم من جهة أخرى؟
كانت المملكة المتحدة قد أدخلت، في مايو/أيار الماضي، مشروع قانون من شأنه السماح بالزراعة التجارية وبيع المحاصيل المُعدّلة وراثياً، المحظورة بموجب لوائح الاتحاد الأوروبي التي لا تزال سارية، حتى داخل بريطانيا نفسها رغم بريكست. وإذا أُقِر، فإنَّ القانون سيزيد من عدد المعدات التي يتعين على المزارعين البريطانيين أن يزرعوا فيها طعاماً أكثر مرونة وأعلى قيمة غذائية، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية
إذ إنه منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يناير/كانون الثاني 2020، سعت الحكومة البريطانية إلى الابتعاد عن قواعد الاتحاد الأوروبي التقييدية بشأن المحاصيل المعدلة وراثياً، أو المحاصيل التي تنتج عن طريق إجراء تغييرات دقيقة على الحمض النووي للنبات.
من يخشى من المحاصيل المُعدّلة وراثياً؟
إنَّ تخفيف اللوائح، كما جادل فريق رئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، في وقت سابق من هذا العام، من شأنه إفادة البيئة وتوحيد بريطانيا مع شركاء تجاريين مهمين. وفي مارس/آذار، وافق البرلمان على قواعد جديدة تُسهِل على الباحثين زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً في الهواء الطلق ضمن تجارب. لكن مشروع القانون الجديد، المُسمَى مشروع قانون التكنولوجيا الوراثية (التكاثر الدقيق)، سيكون أهم خطوة اتخذتها الحكومة البريطانية حتى الآن.
وإذا مرَّرت بريطانيا مشروع القانون، وهو ما يمكن أن يحدث قبل نهاية العام، فسوف يساعد في ضمان الأمن الغذائي مع الحد أيضاً من الآثار البيئية للزراعة، ولا تقتصر زيادة الأمن الغذائي على زراعة المزيد من الغذاء وتحسين تغذية المحاصيل فحسب، بل تشمل أيضاً تكاثر المحاصيل بسرعة لتزدهر في ظل أنماط الطقس المتغيرة.
وإذا لم تتم مساعدة المحاصيل على التكيف مع التغير المناخي، فسوف تنخفض الغلّات، وسيتعين على المزارع أن تتوسع للاستمرار في إنتاج نفس الكمية من الغذاء؛ مما يؤدي إلى إزالة الغابات، وفقدان التنوع البيولوجي النباتي، وتدمير موائل الحياة البرية.
والمقصود بمصطلح التغير المناخي هو التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض، وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مُسببةً فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها؛ مما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة كارثية بكل المقاييس على جميع مظاهر الحياة البشرية على الكوكب.
إضافة إلى ذلك، لا ينبغي لبريطانيا تمرير قانون التكاثر الدقيق فحسب، بل يتعين عليها أيضاً مراجعة لوائحها الخاصة بالمحاصيل المعدلة وراثياً لتكون رائدة في نهج جديد لهذه المحاصيل يمكن اعتماده في جميع أنحاء العالم، بحسب تقرير فورين بوليسي.
التكاثر التقليدي والتعديل الجيني
هناك ثلاث طرق رئيسية لتغيير نباتات المحاصيل، تتمثل الأولى في التكاثر التقليدي، الذي يتضمن عمليات تهجين مخططة بين النباتات ذات الخصائص المختلفة وأيضاً إنشاء طفرات في الحمض النووي باستخدام المواد الكيميائية والإشعاع لتوليد خصائص جديدة. وتتميز الطريقتان الأخريان -الهندسة الوراثية وتعديل الجينات- عامةً عن التربية التقليدية بالمصطلح الشامل "التكنولوجيا الحيوية النباتية".
التكاثر التقليدي هو أبطأ الطرق الثلاثة وأقلها دقة لتغيير نباتات المحاصيل، في حين أنَّ تعديل الجينات هو الأسرع والأكثر دقة. وعامةً، تعد الهندسة الوراثية هي الأكثر تقييداً باللوائح التنظيمية في جميع أنحاء العالم، في حين أنَّ التربية التقليدية هي الأقل.
في العديد من البلدان، كان من الصعب تغيير رأي الجمهور وواضعي السياسات بشأن التقنيات الحيوية النباتية، إذ يرى بعض المعارضين لهذه التقنيات أنها غير طبيعية وخطيرة وغير مُختبَرة، بينما يرى آخرون أنها مرتبطة باستخدام الكيماويات الزراعية ويعتبرونها أدوات للتحكم في الزراعة.
لكن يتفق عموم الخبراء في مجال التكنولوجيا الحيوية النباتية اليوم على أنَّ هذه التقنيات الحيوية لا تشكل أية مخاطر فريدة مقارنة بالتكاثر التقليدي. وقد أظهر أكثر من 4300 تقييم للمخاطر في 70 دولة أنَّ هذا هو الحال. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لجميع طرق التكاثر، بما في ذلك الأساليب التقليدية، إجراء تغييرات في الحمض النووي للنبات قد تؤثر في خصائص مثل التغذية ومُسبّبات الحساسية – وأصبح لدى العلماء الآن الأدوات لدراسة كل واحدة من هذه التغييرات دراسة دقيقة وتقييم تأثيرها في المنتج النهائي. في الواقع، ويختبر مطورو المحاصيل هذه المخاطر في عملية التكاثر لاختيار الخصائص المرغوبة وإزالة تلك غير المرغوب فيها.
ومع ذلك، فإنَّ اللوائح بالغة التقييد والقدم في العديد من البلدان قد حدّت من تطوير واعتماد كل من المحاصيل المُعدّلة وراثياً أو المُنتَجة بالهندسة الوراثية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، جعلت اللوائح من طرح المحاصيل المعدلة وراثياً في السوق حتى عام 2020 أمراً مكلفاً ويستغرق وقتاً طويلاً؛ ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت اللوائح الجديدة ستُسهِل العملية.
تضمنت اللوائح السابقة طلب بيانات مكثفة من مطوري المحاصيل لاتخاذ قرارات تنظيمية بشأن أي نبات معدّل وراثياً. وبالنسبة لإنتاج الكائنات المُعدّلة وراثياً التي أُدخِلَت بين عامي 2008 و2012، استغرقت العملية التنظيمية بأكملها 7 سنوات في المتوسط بتكلفة 35 مليون دولار.
الاتحاد الأوروبي والزراعة العضوية
بدلاً من الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، يتبع الاتحاد الأوروبي حالياً "إستراتيجية من المزرعة إلى الشوكة"، التي تهدف إلى زيادة الزراعة العضوية في الدول الأعضاء. وهذا التركيز على الزراعة العضوية، جنباً إلى جنب مع اللوائح الصارمة المتعلقة بالتكنولوجيا الحيوية للمحاصيل، يؤدي إلى إبطاء وتيرة تربية المحاصيل المُحسّنة، ويقلل من النمو والأرباح في قطاع التكنولوجيا الحيوية الزراعية، ويحفز علماء المحاصيل من دول الاتحاد الأوروبي للبحث عن فرص في الخارج.
علاوة على ذلك، من خلال إعطاء الأولوية للإنتاج العضوي على الغلّات -الذي يتضمن التخلي عن أدوات مثل الأسمدة ومبيدات الآفات الصناعية، والتكنولوجيا الحيوية – يزرع الاتحاد الأوروبي كميات من الغذاء أقل من إمكاناته، على الرغم من الحاجة العالمية لزيادة إنتاج المحاصيل لإطعام عدد متزايد من السكان.
ووجد تقرير صادر عن مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية أنه إذا نفذ الاتحاد الأوروبي بالكامل استراتيجياته "من المزرعة إلى الشوكة" والتنوع البيولوجي، فإنَّ انخفاض الغلة وانخفاض مساحة الزراعة يمكن أن يقلل من إجمالي إمدادات الحبوب في الاتحاد الأوروبي بنسبة 15%، وإمدادات الخضروات بنسبة 12%، واللحوم والحليب الخام بنسبة 14% و10% على التوالي بحلول عام 2030.
وقد يستورد الاتحاد الأوروبي أيضاً المزيد من الأغذية لأنه يقلل من أولويات الغلّة، وبالتالي زيادة تعزيز الإنتاج المُوسَع وما يرتبط به من إزالة الغابات وفقدان التنوع البيولوجي في البلدان ذات الدخل المنخفض. ووجد تقرير عام 2013 أنَّ أكثر من ثُلث عمليات إزالة الغابات المرتبطة بتجارة المحاصيل العالمية بين عامي 1990 و2008 يمكن إرجاعها جزئياً على الأقل إلى واردات الاتحاد الأوروبي الزراعية. وإذا لم يغير الاتحاد الأوروبي مساره، فستزداد حتماً إزالة الغابات خارج الكتلة الأوروبية.
ودفعت هذه المعطيات كثير من الساسة الأوروبيين إلى التفكير مؤخرا في إسقاط معارضة الاتحاد الأوروبي لاستخدام الهندسة الوراثية في تعديل المحاصيل الزراعية، وهي معارضة نابعة من موقف مبدأي طويل الأمد لأسباب أخلاقية وعلمية. ففي يوليو/ تموز الماضي، أعلن عضو إيطالي في البرلمان الأوروبي أنه حان وقت "تخفيف القواعد الصارمة" التي تحظر المحاصيل الزراعية القائمة على التعديلات الوراثية وزراعة محاصيل هجينة وراثيا.
"يمكن للتكنولوجيا البيولوجية الزراعية الجديدة أن توفر تجارب على نباتات أكثر قدرة على مقاومة الجفاف والحشرات"، بحسب أنطونيو تاجاني في البرلمان الأوروبي خلال أحد الاجتماعات. وانضم لتاجاني العديد من السياسيين الإيطاليين، كوسيلة لإيجاد حلول للتخفيف من وطأة الجفاف الذي ضرب البلاد هذا الصيف.
كيف ستتعامل بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي؟
لكن بشكل عام، اتخذت بعض البلدان نهجاً مختلفاً، ففي عام 2015، صارت الأرجنتين أول دولة تستثني معظم أنواع المحاصيل المعدلة وراثياً من لوائح ضبط التداول ما قبل السوق الحالية للمحاصيل المُنتَجة بالهندسة الوراثية، لتضع نموذجاً للإصلاح التنظيمي يُسرّع الموافقة على هذه المنتجات وتطويرها.
وأظهرت دراسة استمرت 4 سنوات أنَّه مع دخول هذا التنظيم حيز التنفيذ، تحركت المحاصيل المُعدّلة وراثياً أسرع من خلال الأنظمة الرقابية، بقيادة مطورين أصغر، وغطت سمات وكائنات أكثر تنوعاً. وقد ساهمت هذه التغييرات في تعزيز نظام الابتكار الزراعي في الأرجنتين وتوسيع فرص التنمية الاقتصادية.
وخلال السنوات السبع المنصرمة، سار على نهج الأرجنتين دولٌ تشمل البرازيل والولايات المتحدة والإكوادور وتشيلي.
ومع ذلك، قد يتسبب رفع القيود عن المحاصيل المُعدّلة وراثياً في صعوبات تجارية، لا سيما مع البلدان الأخرى التي تقيد استيراد هذه المحاصيل أو لا تطبق أية لوائح بشأنها. بريطانيا، على سبيل المثال، تشترك في علاقات تجارية وثيقة مع دول الاتحاد الأوروبي. وذهبت نسبة 61% من الصادرات الزراعية للمملكة المتحدة من حيث القيمة إلى دول الاتحاد الأوروبي في عام 2020.
لكن إذا مُرّر مشروع قانون التكاثر الدقيق، فقد تنشأ مشكلات، وتحديات أخرى، لأنَّ دول الاتحاد الأوروبي تشترط وضع بطاقات تعريفية على واردات المنتجات المُعدّلة وراثياً، ومن المستبعد أن تنفذ المنتجات البريطانية ذلك.
وهناك سبب وجيه للقلق، سواء على المدى القصير أو الطويل بالنسبة لبريطانيا، إذ ستزداد النسبة المئوية لصادرات المملكة المتحدة من المحاصيل المُعدّلة وراثياً ببطء على مدار سنوات، مع اعتماد لوائح جديدة وتحرك الشركات. وإذا أسفرت المراجعة المستمرة من الاتحاد الأوروبي للوائح ضبط التعديل الوراثي للمنتجات عن نظام أكثر انسجاماً مع ما تفكر فيه المملكة المتحدة، فمن المحتمل أن تتضاءل الاختلافات في التنظيم بمرور الوقت.
والآن بعد أن تحررت بريطانيا من نهج الاتحاد الأوروبي مفرط الحذر، يجب على المملكة المتحدة ألا تمرر قانون التكاثر الدقيق فحسب، بل يجب أن تذهب أبعد من ذلك في مراجعة لوائح التكنولوجيا الحيوية.
يمكن لبريطانيا حتى أن تكون رائدة في نهج قائم على المنتجات للمحاصيل المُعدّلة وراثياً، وهو ما لم تفعله أية دولة أخرى حتى الآن. ويركز النهج القائم على المنتج على تنظيم المصدر الفعلي للمخاطر -خصائص المنتج النهائي- بدلاً من الطريقة المُستخدَمة لإنشاء المنتج، كما تفعل الأنظمة الحالية من خلال تطبيق لوائح ضبط التداول ما قبل السوق بناءً على ما إذا كان المحصول مُعدّل وراثياً أم لا.
وتوصي العديد من تقارير الخبراء بهذا النهج لسنوات – مثل التقارير الصادرة من الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة والطب- ويفضل معظم خبراء التكنولوجيا الحيوية التنظيم القائم على المُنتَج أكثر من التنظيم القائم على عمليات الإنتاج نفسها.
ومن شأن التنظيم القائم على المنتج ضبط النباتات المُعدّلة وراثياً والمُنتَجة بالهندسة الوراثية استناداً فقط إلى خصائص المنتج النهائي ومدى تأثيرها في بعض المخاطر البيئية والصحية. على سبيل المثال، يمكن تقييم المحصول الذي يُنتِج مبيدات الآفات الخاصة به من حيث مدى إسهامه في تطور الحشرات المقاومة لمبيدات الآفات. وستُعفى جميع النباتات التي لا تحتوي على سمات تشكل خطراً معقولاً من تنظيمات ما قبل السوق، لكنها ستظل تخضع لقواعد سلامة تداول ما بعد السوق التي تنطبق على جميع الأطعمة.
إذا وضعت المملكة المتحدة هذه السابقة ونفذت اللوائح الجديدة بنجاح، فستسير على خطاها دول أخرى. وستكون الفوائد المحتملة هائلة: الموافقة الأسرع على المنتج تعني مزيداً من البحث والتطوير في صناعة التكنولوجيا الحيوية، وبالتالي إنتاج أغذية أعلى كفاءة ووفرة في جميع أنحاء العالم.