زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى قطر بمثابة طي لصفحة الخلافات، بعد أن أثبتت تداعيات الحرب في أوكرانيا أن التعاون هو السبيل الوحيد أمام دول المنطقة للمضي قدماً والتطلع إلى المستقبل.
وتناول موقع Middle East Eye البريطاني نتائج وانعكاسات زيارة السيسي للدوحة واستقباله من جانب الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير قطر.
إذ جاءت زيارة السيسي إلى قطر دليلاً جديداً على أن الخلافات السياسية يمكن حلها أو التغافل عنها حال كانت هناك مصالح اقتصادية متبادلة بين الأطراف المتنازعة، لا سيما في وقت يصارع فيه الشرق الأوسط تداعيات الحرب في أوكرانيا، وتشتد المخاوف من ركود الاقتصاد العالمي، ويتعاظم الغموض بشأن المستقبل الجيوسياسي للمنطقة.
وبعد سنوات من التوتر بين مصر وقطر منذ صعود السيسي إلى السلطة في عام 2014، شاركت مصر عام 2017 في الحصار أعلنت السعودية وحلفاؤها في الخليج، الإمارات والبحرين، على الدوحة، بسبب مساندة الأخيرة لجماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية التي صنفتها تلك البلدان "إرهابية". وقد نفت قطر تلك المزاعم بطبيعة الحال.
زيارة مهمة في توقيت حساس
لكن الأحوال تغيرت بشكل كبير عما كانت عليه منذ بضع سنوات، فقد التُقطت الصور للسيسي في أثناء زيارته للدوحة، الثلاثاء 13 سبتمبر/أيلول، وهو يبتسم وتعانق يداه يدي أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
قال روبرت موغِلنيكي، الباحث البارز في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، إن "الزيارة مهمة لأن العلاقات كان يغلب عليها التوتر الشديد. وقد كانت مصر في القلب من هذه التوترات، فقد اتهمت القاهرة الدوحةَ بالتدخل في الشؤون الداخلية لمصر، واستخدام شبكة الجزيرة الإخبارية التي تمولها قطر لمهاجمة مصر في وسائل الإعلام. لكن [زيارة السيسي] برهان آخر على أن حكومات الإقليم كثيراً ما تشيح بوجهها عن دواعي التوترات، وإن كانت حديثة العهد، ما دام ثمة أمل في تعزيز العلاقات الاقتصادية".
مكاسب من الغاز الطبيعي المسال
عملت كل من قطر ومصر على تحسين العلاقات منذ رفع الحصار المفروض على الدوحة في عام 2021. فقد افتتحت الدوحة في مطلع العام الماضي فندقاً فاخراً في القاهرة، بعد أن توقف افتتاحه سنوات على أثر الخلاف الدبلوماسي. وأجرى أمير قطر، الشهر الماضي، أول زيارة له إلى مصر منذ عام 2015. وتعهدت قطر أيضاً باستثمار 5 مليارات دولار في الاقتصاد المصري المتعثر.
يُبرز تناقص الجفوة في العلاقات بين البلدين أهميةَ عوامل أخرى طرأت تداعياتها على المنطقة بعد جائحة كورونا، ثم في أعقاب الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو".
لم تُذعن الدوحة قط للشروط التي وضعها جيرانها من أجل إنهاء الحصار، والتي تضمنت إغلاق قناة الجزيرة، إلا أن مراقبين قالوا إنها أومأت إلى مصر بعزمها على المصالحة من خلال تخفيف حدة خطابها ضد النظام المصري، وتقليص تعاونها مع معارضي السيسي في الخارج.
قالت ميريت مبروك، المدير المؤسس لبرنامج دراسات مصر التابع لمعهد الشرق الأوسط الأمريكي، إن "التقارب بين البلدين لا يمكن اختزاله في قضية الأموال. فلو كانت قطر عرضت أموالاً على مصر قبل اتفاق العُلا، لما أخذتها القاهرة، مهما بلغت بها الحاجة".
وأشارت مبروك إلى أن قطر قد تجاوزت الحصار، وتنامى نفوذها في العالم، مع دول الخليج الأخرى، على أثر الحرب الجارية في أوكرانيا.
قطر، أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، باتت تحتل مكانة بارزة في قلب الصراع العالمي على الطاقة، وهو أمر لطالما عزز ثرواتها الاقتصادية وثقلها السياسي.
قال موغِلنيكي للموقع البريطاني: "تستمد الدوحة أهميتها من كونها مورداً بارزاً للغاز الطبيعي المسال في المقام الأول، أما مساندتها لحركات الإسلام السياسي فقد أصبح أمراً أقل شأناً اليوم".
في الوقت نفسه، فإن مصر من أكثر دول العالم العربي مديونية، وقد تعرضت لضربة شديدة من جراء جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا بعدها، فقد كانت البلاد تعتمد على روسيا وأوكرانيا في السياحة وإمدادات القمح. وقد اضطرت مصر في مارس/آذار إلى تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 15% على أثر نقص العملة الأجنبية، والتضخم المتزايد بتأثيرٍ من تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي.
فرص التعاون بين مصر وقطر لا محدودة
تصدَّر تعزيز العلاقات الاقتصادية قائمة الأعمال في زيارة السيسي للدوحة. وقد وقع البلدان يوم الأربعاء 14 سبتمبر/أيلول 3 مذكرات تفاهم، تتضمن إحداها اتفاقاً بين صندوقي الثروة السيادية في البلدين.
وقال هاميش كِنير، المحلل في شركة Verisk Maplecroft الاستشارية، لموقع MEE: "تُولي مصر أهمية كبيرة لاستثمارات قطر، ليس لأهميتها في ذاتها فحسب، وإنما لأنها تساعد أيضاً في تحسين التصورات الدولية عن حالة الاقتصاد المصري، وقد تفسح مجالاً أكبر للمسؤولين المصريين في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن القرض الجديد".
التعاون الاقتصادي القطري لمصر يتزامن أيضاً مع ما تقوم به كل من السعودية والإمارات، فكلا البلدين يستثمر بكثافة في مصر للمساعدة في تخفيف الضغوط المالية على حليفهما. وقد تضاعفت الاستثمارات الإماراتية في مصر خلال النصف الأول من السنة المالية 2021-2022، وتزايد استحواذ دول الخليج على أسهم في أصول البلاد، من بنوك وموانئ وشركات أسمدة.
وفي هذا السياق، قالت مبروك لميدل إيست آي: "لطالما أنقذت الاستثمارات الخليجية الاقتصاد المصري، لكن ذلك لا ينتقص من كون مصر مكاناً جيداً للتجارة، فهذه الأموال ليست صدقة، إنها استثمارات، ودول الخليج تتوقع استعادة أموالها".
لطالما كانت العقارات في مصر استثماراً مربحاً لدول الخليج. وقد سعت تلك الدول إلى مزيد من فرص الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة بمصر في السنوات الماضية، فالبلد يبلغ عدد سكانه أكثر من 100 مليون نسمة، ويوفر لجيرانه الأثرياء قابلية التوسع في استثمار رؤوس الأموال، ومصر لديها الازدهار في "التكنولوجيا المالية" وشركات تقنية واعدة، مثل "فوري".
يقول عادل حميزية، الزميل المشارك في برنامج دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد تشاتام هاوس بلندن: "إن دول الخليج لديها فرصة كبيرة للاستحواذ على أصول مصرية بأسعار منخفضة. وعلى الرغم من الفقر المتزايد، فإن مصر لا تزال أكبر دولة في المنطقة، ولديها سوق استهلاكية كبيرة".
وفي هذا السياق، بدأت قطر بالفعل في التحرك من أجل بعض الصفقات في مصر، فقد أعلنت شركة "قطر إنرجي" العملاقة للنفط والغاز في مارس/آذار عن اتفاقية مع شركة "إكسون موبيل" للاستحواذ على حصة 40% في منطقة استكشاف للغاز قبالة ساحل مصر على البحر المتوسط.
ووقعت مصر، هذا العام، اتفاقاً مع إسرائيل واليونان لتزويد أوروبا بالغاز. وتقول الحكومة المصرية إنها تسعى إلى ملء الفراغ الذي خلفته روسيا في القارة، لذلك فقد قررت الحكومة تخفيض استهلاك البلاد من الغاز لتصدير المزيد.
أوجه التعاون بين البلدين
يقول خبراء إن قطاع الغاز الطبيعي المسال من القطاعات التي ينبغي أن يجتمع فيها البلدان على التعاون بطبيعة الحال، فالدوحة قد تتطلع إلى مصر لسد ثغراتها في الوصول إلى موانئ البحر الأحمر، لا سيما أنها تسعى إلى زيادة شحناتها من الغاز إلى أوروبا.
وقال حميزية للموقع البريطاني: "قد يشمل التعاون بين البلدين في المستقبل الجمعَ بين البنية التحتية للموانئ المصرية ومعروض الطاقة المتنامي لقطر، في سياق المستجدات الطارئة بعد الحرب الأوكرانية".
والغالب أن ترحب مصر بعروض قطر الاستثمارية في وقت تعرض فيه الدولة خصخصة المزيد من أصولها. وقد انضم جهاز قطر للاستثمار إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودية وصندوق الثروة السيادية الإماراتي، في التطلع إلى الاستحواذ على حصة من شركة "فودافون مصر"، عملاقة الاتصالات المملوكة للدولة.
ومن ناحية أخرى، قد يكون إقبال قطر على الاستثمار في مصر علامة على مدى التقدم في التقارب بين البلدين في المجال السياسي. فقد أبدت كل من قطر ومصر بعض الاستعداد للوصول إلى أرضية مشتركة بشأن ملفات النزاعات في المنطقة، مثل ليبيا. وبعد أن كانت الدوحة مسانداً مركزياً لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، فإنها أخذت تستضيف قادة من حكومة شرق ليبيا. علاوة على ذلك، فإن قطر أقرب إلى مصر في قضية سد النهضة الإثيوبي من الإمارات على سبيل المثال.
قالت مبروك: "لم يكن أمير قطر ليذهب إلى القاهرة، ولا كان الرئيس المصري زار الدوحة، لو كانت الخلافات ما زالت كبيرة في تصورهم لحل الصراعات في المنطقة. وقد تبادل القائدان الزيارة من أجل تعزيز الاتفاق، ومناقشة الأمور التي يريدون المضي بها قدماً، مثل الاستثمار".
يتعين على قطر أيضاً أن تتعامل مع هيمنة الجيش المصري على اقتصاد البلاد، فمع أن السيسي يسعى إلى خصخصة بعض أصول الدولة لجمع الأموال، فإنه سبق أن أدخل الجيش في كل جانب من جوانب الاقتصاد في البلاد تقريباً.
قال حميزية: "السؤال البارز هنا: هل يغلب التنافس على قطر ودول الخليج الأخرى في السوق المصرية، أم تكون الغلبة لتنسيق الاستثمارات، وربما زيادة قيمة الأصول والأرباح؟".
الخلاصة هنا هي أن صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين العربيين عنوانها التعاون وطي خلافات الماضي قد بدأت، وجاء توقيع اتفاقيات التعاون الاقتصادي والاستثمارات القطرية في مصر تتويجاً لتلك المرحلة الجديدة، التي لعبت فيها تداعيات حرب أوكرانيا دور البطولة.