يساعد ركوب رحلة قطار بين بعض المدن الصينية الكبرى مثل مدينتي لويانغ وتشنغتشو في تفسير واحدة من أكبر أزمات البلاد في الذاكرة الحديثة: أزمة العقارات، فعبر طريق تمتد لـ120 كيلومتراً، يشاهد المرء عرضاً لآلاف الأبراج السكنية غير المكتملة، حيث أصبحت مدناً من هياكل عظمية فارغة بسبب توقف البناء منذ فترة طويلة، إذ نفد المال من المطورين ولم يعد بإمكانهم دفع رواتب العمال وشراء المواد، وتوقفت المشاريع، ولن تحصل العائلات على منازلهم أبداً.
صناعة العقارات في الصين من الذروة إلى القاع
يقول تقرير لمجلة Economist البريطانية، التي رصدت هذا المشهد، إنه يقود لفقدان ثقة الجمهور في النموذج الاقتصادي للحكومة الصينية. لعقود من الزمان، كانت صناعة العقارات رمزاً لصعود الصين الذي لا يمكن وقفه. حقق رواد الأعمال ثروات هائلة من هذا المجال، وشهد الأشخاص العاديون ارتفاع صافي ثروتهم، حيث تضاعفت قيمة المساكن ثلاث مرات، كما ملأت الحكومات المحلية خزائنها ببيع مساحات شاسعة من الأراضي للمطورين، وأصبحت 70٪ من ثروة الأسرة الصينية مرتبطة بالعقارات.
لكن تقويض الثقة في هذا النموذج يعني زعزعة أسس "معجزة النمو" في الصين. ومع عمليات الإغلاق الشاملة لفيروس كورونا، وقمع رواد الأعمال من القطاع الخاص، يحدث هذا على عدة جبهات. لكن لا يوجد مكان أكثر وضوحاً مما هو عليه في صناعة العقارات، والتي تشكل ما يقدر بنحو 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد. وانخفضت بدايات المشروع الجديد بنسبة 45٪ في يوليو/تموز مقارنة بالعام الماضي، ومبيعات المنازل بنسبة 33٪ والاستثمار العقاري بنسبة 12٪.
وتنتشر آثار ذلك في الاقتصاد الصيني برمته، وتضر بصُناع الأثاث وعمال الصلب على حد سواء. وتأتي ضربة الثقة في وقت حرج لزعيم الصين، شي جين بينغ، الذي من المحتمل أن يُمنح فترة ثالثة في مؤتمر للحزب في أكتوبر/تشرين الأول القادم، كما تقول الإيكونومست.
وبحسب المجلة، فإن إحياء الثقة في النظام أمر بالغ الأهمية بالنسبة للرئيس شي والحزب الشيوعي. ومع ذلك، كان رد الحكومة على الأزمة ضعيفاً وبطيئاً بشكل غير معهود، حيث يبدو أن المسؤولين غاضبون من تعقيد الوضع.
ولاستعادة الثقة في سوق الإسكان، يحتاج الجمهور إلى رؤية المشاريع المتوقفة مكتملة، مع ارتفاع للأسعار. وفي الوقت نفسه، يتعين تعويض شركات البناء والعاملين فيها، كما يتعين سداد المستثمرين المحليين والأجانب، وكل هذا يجب أن يتم دون إعادة تضخيم فقاعة الديون غير المستدامة التي أصبح عليها سوق العقارات.
ما أسباب أزمة العقارات والإسكان في الصين؟
أزمة الإسكان لها سببان مباشران، الأول هو حملة حكومية على تجاوزات صناعة العقارات. فمنذ أغسطس/آب 2020، حصر المسؤولون نسب مطلوبات المطورين على الأصول، وصافي الدين إلى حقوق الملكية والنقد إلى الديون قصيرة الأجل، في سياسة تُعرف باسم "الخطوط الحمراء الثلاثة". وقد أجبر هذا الكثيرين على التوقف عن الاقتراض غير المستدام وبيع الأصول، مما حد بشدة من قدرتهم على مواصلة بناء وبيع مشاريع جديدة.
كما أن سياسة الصين الصارمة في احتواء فيروس كورونا هي الضربة الثانية. حيث أجبرت الحكومة المركزية عشرات المدن على حبس السكان في منازلهم لأيام، وأحياناً أسابيع، حتى النهاية عند اكتشاف حالات الإصابة بالفيروس.
وحالياً، فإن المدن الكبرى مثل تشنغدو وشنتشن مغلقة كلياً أو جزئياً بسبب تلك الإجراءات الصارمة المستمرة. ومنعت عمليات الإغلاق الناس من مشاهدة المنازل والقيام بعمليات شراء، كما كان لها تأثير على نفسية المستهلك. ويخشى رجال الأعمال الإغلاق المفاجئ لأعمالهم، كما أن الموظفون قلقون بشأن التسريح، وهذا النوع من الخوف لا يشجع على شراء المنزل.
والنتيجة هي أزمة كبيرة، حيث يعتمد المطورون في الصين بشكل كبير على بيع المنازل قبل وقت طويل من بنائها، وذلك لتوليد السيولة. في العام الماضي قاموا ببيع 90٪ من المنازل مسبقاً. ولكن بدون الوصول إلى السندات والقروض، حيث تقلل البنوك من تعرضها لقطاع العقارات، ومع انخفاض المبيعات الجديدة الآن، فإن الطبيعة الشبيهة بسوق العقارات في "بونزي" -احتيال يتمثل في وعد بالربح كبير، ويمول هذا الربح من تدفق رأس مال نفسها لتستثمر تدريجياً حتى انفجار فقاعة المضاربة- قد ظهرت بالكامل.
تعثرت عملاق العقارات الصينية Evergrande، أكبر مطور ديون في العالم، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ولقد فاتت محاولة إعادة هيكلة ديونها الخارجية، التي كان يُقصد بها أن تكون نموذجاً يحتذى، الموعد النهائي في نهاية شهر يوليو/تموز.
وتخلفت 28 شركة عقارية أخرى على الأقل عن سداد مدفوعات للمستثمرين أو بدأت في إعادة الهيكلة. وتم تجميد التداول في أسهم 30 مطوراً مدرجاً في هونغ كونغ، والتي تشكل 10٪ من السوق من حيث المبيعات، وفقاً لشركة Gavekal للأبحاث.
في أوائل أغسطس/آب، تم تداول نصف المطورين الصينيين المدرجين بمعدل سعر إلى ربح أقل من 0.5، وهو المستوى الذي تداولته شركة Evergrande قبل أربعة أشهر من تعثرها، كما يشير تقرير لمؤسسة MacroPolo الفكرية في شيكاغو.
والشركات التي كانت تعتبر قبل أشهر قليلة رهانات آمنة تكافح الآن، خذ على سبيل المثال كانتري جاردن، أكبر مطور في الصين من حيث المبيعات. في وقت سابق من هذا العام، تجاهل معظم المحللين المخاوف من تعرضها لضغوط، وواصل المستثمرون شراء سنداتها، ولكن في 30 آب/أغسطس، كشفت شركة Country Garden أن أرباح النصف الأول من العام قد انخفضت بنسبة 100٪ تقريباً. وأشارت إلى أن سوق العقارات "انزلق بسرعة إلى ركود حاد". ويشير الضغط على Country Garden إلى أن المشكلات لم تعد خاصة بمطورين معينين، بل أصبحت الصناعة بأكملها في خطر.
ملايين الصينين سينتظرون لسنوات قبل الحصول على منازل لهم
الأمر الأكثر إثارة للقلق الآن هو انتظار ملايين الأشخاص، غالباً لسنوات، للحصول على منازل دفعوا ثمنها بالفعل، وتم تسليم 60٪ فقط من المنازل التي تم بيعها مسبقاً بين عامي 2013 و 2020.
اشترى ليو، شقة في مدينة تشنغتشو في عام 2014، ويقول لمجلة الإيكونومست، إنه قام بدفع دفعة أولى قدرها 250 ألف يوان (40 ألف دولار). كان من المقرر الانتهاء من المنزل في عام 2017، لكن ذلك اليوم لم يحن بعد. وبدلاً من ذلك، استأجر شقة قبل أن يشتري شقة أخرى في مبنى قديم بدون مصعد. إنها بالكاد الحياة التي تخيلها لنفسه، لم يبدأ ليو أبداً في دفع رهنه العقاري وانخرط في مناقشات لا تنتهي مع مطور العقارات حول استرداد الدفعة الأولى. يقول: "لا فائدة من ذلك".
كان المحللون على دراية بهذه المشاكل لسنوات، لكنهم اعتقدوا أن السلطات الصينية لن تسمح لمشتري المنازل المتضررين بالاحتجاج، وأشار تقرير نُشر قبل عامين من قبل شركة محاسبة، بي دبليو سي، إلى أنه حتى عند توقف البناء في مشاريع الإسكان، عادة ما يكون لدى مئات أو آلاف الأسر قدرة ضئيلة على التأثير.
تم قلب هذه الحسابات رأساً على عقب، فاجأت حركة صغيرة لكنها مؤثرة لجمع ونشر البيانات المتعلقة برفض سداد الرهون. وفي 12 تموز/يوليو بدأ مئات المتطوعين في تبادل البيانات حول مقاطعة الرهن العقاري على وسائل التواصل الاجتماعي. ويعتقد المحللون أن هذا ربما يكون بداية لشيء أكبر، حيث يتوقع أنه سيتم إقناع الآخرين بتأخير عمليات الشراء أو وقف مدفوعات الرهن العقاري.
يراقب المستثمرون ومشترو المساكن المحتملون الآن بقلق بينما تقوم الدولة بتجميع استجابتها، على المستويين المركزي والمحلي. لأكثر من عقد من الزمان، استخدمت المدن الصينية قائمة طويلة من القواعد والحوافز لضبط أسواق العقارات المحلية، عادةً لتقليل المضاربة وتهدئة الزيادات السريعة في الأسعار. وشملت هذه السيطرة على الوصول إلى الرهون العقارية، فضلاً عن قيود على من يستطيع شراء المنازل وعدد ما يمكنهم شراؤها.
تعمل المدن الآن على تخفيف هذه القواعد. بين شهري مايو ويوليو الماضيين، أعلنت الحكومات البلدية عن 304 إجراءات فردية لاستعادة الثقة، وفقاً لبنك الاستثمار الصيني cicc. كانت مدينة تشنغتشو، التي كانت مركز احتجاجات الرهن العقاري، من أوائل المحركات. في آذار/مارس، أعلنت عن 18 إجراءً على أمل تحفيز الطلب على العقار، وشملت هذه التدابير لتسهيل الحصول على قروض عقارية، والسماح للعائلات التي لديها أفراد مسنون بشراء شقق إذا انتقلوا إلى المدينة.
إشارات متضاربة من قبل الدولة الصينية
جذبت هذه الإشارات إلى المشترين الكثير من الاهتمام، ليس لأنها أعادت إحياء الطلب ولكن لأنها تبدو متناقضة مع سياسة الحكومة المركزية. في مقطع فيديو تم تداوله على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية في أغسطس/آب الماضي، شوهد زعيم محلي للحزب الشيوعي في مقاطعة هونان يدعو الناس إلى شراء أكبر عدد ممكن من المنازل: "هل اشتريت منزلاً ثالثاً؟ اشترِ رابعاً". والمشكلة أن هذا الخطاب يتعارض مع الرسالة التي أطلقها الرئيس الصيني نفسه، الذي حذر من أن "المنازل تبنى للعيش فيها، وبالتأكيد ليست لمضاربات المستثمرين".
كما تم تشجيع الحكومات المحلية على إنشاء صناديق إنقاذ للاستثمار في مشاريع الإسكان غير المكتملة، وفي النهاية للمساعدة في تسليم المنازل للمشترين المحبطين. وخصصت مدينة تشنغتشو 80 مليار يوان (12 مليار دولار) لهذه القضية.
وأصدرت حكومة مدينة تشنغتشو توجيهاً للمطورين ينص على أنه يجب إعادة بدء جميع أعمال البناء المتوقفة بحلول السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2022. ويجب على الشركات المعسرة التي لا تستطيع القيام بذلك تقديم طلب لإعادة الهيكلة من أجل جلب استثمارات جديدة، وكذلك سداد أي مدفوعات مقدمة من مشتري المساكن. وقد يؤدي عدم القيام بذلك إلى التحقيق مع المطورين بتهمة الاختلاس والجرائم الخطيرة الأخرى.
كما اتخذت الحكومة المركزية ضماناً كاملاً لإصدار سندات جديدة من قبل بعض المطورين من القطاع الخاص، مما أدى فعلياً إلى تحويل المخاطر إلى الدولة. قامت شركة Longfor العقارية المتعثرة، بتسعير سندات بقيمة 1.5 مليار يوان بسعر قسيمة بنسبة 3.3٪ في 26 أغسطس/آب، وهو سعر أقل بكثير من سعر السوق. كان هذا ممكناً فقط لأن السند تم تأمينه بالكامل من قبل وكالة تشاينا بوند إنشورنس، وهي وكالة حكومية. يتم التخطيط لمزيد من هذه الإصدارات من أجل توفير السيولة للمطورين الذين تعتبرهم الحكومة ذات فائدة أعلى، ويبدو أن ذلك بداية برنامج لاختيار الفائزين، كما تقول الإيكونومست.
جهود فاشلة في حل الأزمة واستعادة ثقة الجمهور
لكن جهود مدينة تشنغتشو فشلت لتشجيع المشترين الجدد منذ مارس/آذار الماضي. وبدلاً من ذلك، استمرت الأوضاع في التدهور، مما يشير إلى أن العبث بالسياسات المحلية ليس كافياً. تبدو صناديق الإنقاذ المحلية واهية أيضاً. على الورق، تمتلك العديد من المدن قدراً هائلاً من الأموال للإنفاق، لكنها تعتمد على شركات التمويل الحكومية المحلية التي تعاني من ضائقة مالية.
ويراقب المحللون عن كثب محاولة مدينة تشنغتشو لاستئناف جميع أعمال البناء في غضون شهر، ولكن يتساءل الكثيرون عما إذا كانت الأموال اللازمة لمثل هذا الإصلاح السريع متوفرة. ويمكن أن تطلق الإجراءات موجة من الانهيارات بين شركات التطوير الأصغر، مما يتسبب في حالة من الذعر والاضطراب المالي.
وضع المستثمرون المزيد من الأمل في الحكومة المركزية، لكن استجابتها حتى الآن فشلت في مجاراة حجم الأزمة. قد يمثل برنامج الإقراض البالغ 200 مليار يوان، 10% فقط مما هو مطلوب لإكمال جميع المنازل غير المكتملة في البلاد. تم بيع ما يقرب من 5 تريليونات دولار من العقارات السكنية مسبقاً منذ عام 2020، مما يجعل عملية إنقاذ حتى جزء صغير من تلك المنازل مكلفة للغاية.
في النهاية، فإن عملية الموازنة الحكومية محفوفة بالمخاطر. في منتصف أكتوبر/تشرين الأول القادم، سيعقد مؤتمر الحزب مع إغلاق المدن الكبرى. ستستمر مقاطعة الرهن العقاري، وربما تزداد اتساعاً. يمكن للثقة الكلية في الأسس الاقتصادية للصين أن تتجاوز العتبة التي يصبح التعافي بعدها أكثر صعوبة. كل هذا يعني أن الولاية الثالثة للسيد شي جين بينغ ستبدأ في ظروف مشؤومة.