في الوقت الذي تسعى فيه مصر بإصرار للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، تفاضل السلطات حالياً بين خيارين: إما ترك عملتها المقومة بأعلى من قيمتها تضعف تدريجياً، أو خفضها بشكل حاد مثلما فعلت في أزمة عملة مماثلة قبل 6 سنوات، وسط تحذيرات خبراء الاقتصاد من أن لكل خيار مخاطر وتبعات.
وتسبب النقص الحاد في العملة الأجنبية في مصر في الأشهر الستة الماضية في صعوبات للبنوك والمستوردين فيما يتعلق بدفع خطابات الاعتماد اللازمة للإفراج عن بضائعهم من الجمارك.
وتشكو المصانع وشركات التجزئة من الأضرار التي لحقت بعمليات الإنتاج والمبيعات نتيجة لنقص مُدخلات العمل، مثل مستلزمات التشغيل، في حين ساهم نقص الإمدادات في ارتفاع التضخم السنوي لأكثر من 13%.
خفض القيمة ولكن دون تعجل
ويتفق كثير من خبراء الاقتصاد على أنه يجب خفض قيمة الجنيه المصري، لكنهم منقسمون بشأن السرعة التي يمكن أن يحدث بها ذلك.
وسياسة سعر الصرف من أهم القضايا التي تواجه محافظ البنك المركزي الجديد حسن عبد الله، الذي عينه الرئيس عبد الفتاح السيسي الشهر الماضي، بعد الاستقالة المفاجئة لسلفه طارق عامر.
ومنذ تعيين عبد الله، في 18 أغسطس/آب، سمح البنك المركزي بخفض الجنيه أمام الدولار بأقل من 0.01 جنيه (0.0005 دولار) في اليوم في المتوسط.
ويمكن لمثل هذا النهج أن يخفف من تأثير خفض قيمة الجنيه على الأسعار. ومن المرجح أن يترتب على تحرير سعر الصرف بوتيرة أسرع إطلاق العنان للطلب المكبوت على الدولار، بعد أن شددت الحكومة القيود على الواردات في فبراير/شباط.
وقالت كارلا سليم، من بنك ستاندرد تشارترد: "قد تكون الوتيرة التدريجية لخفض قيمة العملة ضرورية لاحتواء التبعات السلبية باهظة التكلفة نتيجة تراجع سعر الصرف على التضخم والدين العام والنقد الأجنبي غير الخاضع لضوابط".
لكن خبراء اقتصاديين آخرين يقولون إن تباطؤ تخفيض قيمة العملة قد يؤدي أيضاً إلى إطالة أمد النقص في النقد الأجنبي وعرقلة النمو والمعنويات، كما قد لا يفي هذا النهج بمتطلبات صندوق النقد الدولي.
وقال فاروق سوسة، من بنك جولدمان ساكس: "ميزة الخفض مرة واحدة هي تبديد التكهنات، من حيث المبدأ، بأن المزيد من التخفيضات قادمة، وهذا يساعد في تثبيت توقعات التضخم، ويحد من دوافع الاحتفاظ بالعملات الأجنبية".
التقدم ببطء نحو اتفاق صندوق النقد
عقد محافظ البنك المركزي الجديد سلسلة من الاجتماعات مع الوزراء للمساعدة في وضع خطة السياسة النقدية والمالية.
وقال بيان لمجلس الوزراء، يوم الأحد، إن المناقشات ركزت على ضرورة "توفير التمويل اللازم لتدبير السلع الاستراتيجية والأساسية، مع استعراض آخر مستجدات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي"، وتوفير مستلزمات الإنتاج للمصانع.
وخلال الإعلان عن إجراءات لإنهاء تكدس البضائع، قال وزير المالية محمد معيط، الثلاثاء، إن الإفراج السريع عن البضائع من الموانئ سيساعد في خفض التكاليف على المستهلكين.
وأعلن صندوق النقد الدولي في مارس/آذار أن مصر طلبت برنامج دعم مالي جديداً، لكنه قال في يوليو/تموز إن الدولة بحاجة لإحراز "تقدم حاسم" في الإصلاحات المالية والهيكلية.
وقال الصندوق أيضاً إن زيادة قابلية أسعار الصرف للتغير يمكن أن تكون قد ساعدت في تجنب تراكم الاختلالات التي مصدرها من الخارج، وتسهيل التكيف مع الصدمات الاقتصادية.
وعانت مصر بشكل متكرر من مثل هذه الصدمات، ومن بينها جائحة كوفيد-19، والغزو الروسي لأوكرانيا.
وخلال أزمة عملة في عام 2016، قررت مصر تعويم الجنيه، إلا أن العملة خسرت نصف قيمتها في غضون أسابيع. وقفز التضخم لأكثر من 30% في معظم العام التالي، وتدخل البنك المركزي بعد ذلك للحفاظ على قوة الجنيه.
وفي مثال للضغط الحالي على الجنيه، اشترى تجار التجزئة في السوق السوداء الدولار هذا الأسبوع بسعر 21 جنيهاً، بينما تم عرضه على الشركات بسعر 22.40 جنيه تقريباً، في حين أن السعر الرسمي في حدود 19.20 جنيه.
وقال بنك أوف أمريكا في مذكرة بحثية إنه يتوقع خفضاً لقيمة العملة المصرية، متبوعاً بنظام صرف أجنبي مرن مرتبط ببرنامج صندوق النقد الدولي.
وأضاف: "انطلاقاً من سابقة في عام 2016، نعتقد أن هذا سوف يحدث على الأرجح خلال الأشهر المقبلة، بعد الموافقة على اتفاق على مستوى موظفي صندوق النقد الدولي، وكخطوة مسبقة لموافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي".
وانخفض صافي احتياطي مصر من النقد الأجنبي، بشكل طفيف خلال شهر أغسطس/آب الماضي، في الوقت الذي تبذل الحكومة قصارى جهدها لتأمين اتفاق الدعم مع صندوق النقد الدولي، وجذب مزيد من الاستثمارات من حلفائها الخليجيين.
أعلن البنك المركزي المصري، الأربعاء، في بيان، أن صافي الاحتياطيات بلغ 33.142 مليار دولار الشهر الماضي، مقابل 33.143 مليار دولار في يوليو/تموز الماضي، وهو أدنى مستوى منذ يونيو/حزيران 2017، وفقاً لتقديرات "بلومبرغ".
رحلة الجنيه مع صندوق النقد
وفي مارس/آذار 2022 أعلن صندوق النقد الدولي في بيان أن مصر طلبت مساعدته لبرنامج إصلاح اقتصادي يرافقه تمويل لم تعلن عن قيمته حتى اليوم.
وبدأت مصر والصندوق مشاورات وصولاً إلى مباحثات متقدمة، لكن حتى اليوم لم يعلن بشكل رسمي التوصل لاتفاق، رغم أن القاهرة نفذت رزمة إصلاحات، بصدارة تحريك سعر الصرف قليلاً.
وقبل أسابيع قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إن "الحكومة في مرحلة الاتفاقات النهائية بشأن تمويل جديد من صندوق النقد الدولي".
وتعاني مصر أزمة اقتصادية متصاعدة، ناجمة بشكل رئيسي عن تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، وتخارج الأموال الساخنة من أدوات الدين المصرية، وارتفاع حاد في كلفة الواردات تجاوزت 90% عن الشهور الاعتيادية.
ارتفاع الأسعار يثقل كاهل المصريين – رويترز
وبينما لم يعلن رسمياً عن قيمة القرض، توقع بنك غولدمان ساكس أن تلجأ مصر لاقتراض 15 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
وفي تقريره الشهري حول الاقتصاد المصري في أغسطس/آب الماضي، قال البنك إن مصر تحتاج إلى تأمين هذا المبلغ لتلبية متطلبات التمويل على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
ورغم الإجراءات الاقتصادية القاسية التي تقوم بها القاهرة، مثل خفض الدعم الحكومي على عدد من السلع الأساسية، منها الخبز والمحروقات، إلا أن صندوق النقد قال إن الحكومة المصرية بحاجة إلى اتخاذ مزيد من الخطوات لتعزيز تطوير القطاع الخاص وتحسين الحوكمة وتقليص دور الدولة، في حين تسعى البلاد للحصول على قرض جديد لدعم الاقتصاد المتضرر من تداعيات الحرب في أوكرانيا.
قال المجلس التنفيذي للصندوق ومقره واشنطن، في بيان قبل عدة أشهر بعد اجتماعه لتقييم برنامج القرض الأخير في مصر، إن مصر بحاجة إلى إحراز "تقدم حاسم بشأن إصلاحات مالية وهيكلية أعمق" لتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد، وجعله أكثر مرونة في مواجهة الصدمات.
وكان الخبير الاقتصادي المصري والمحاضر في الجامعة الأمريكية، هاني جنينة، كشف في لقاء مع المذيع عمرو أديب، أن صندوق النقد الدولي طلب من مصر طلبات قاسية، أولها ترشيد الدعم، خاصة على الخبز والمحروقات، حيث لا يفضل الصندوق الدعم العيني؛ لأنه يهدر موارد الدولة.
كما طالب صندوق النقد أيضاً من القاهرة بخفض قيمة الجنيه أمام الدولار رغم تحفظ الجانب المصري على هذا المطلب؛ خوفاً من حدوث صدمة سعرية في الأسواق، ولكنه اضطر إلى خفضه أكثر من مرة.
في عام 2020، حصلت مصر على 5.2 مليار دولار بموجب اتفاق استعداد ائتماني، بالإضافة إلى 2.8 مليار دولار، في إطار أداة التمويل السريع التابعة لصندوق النقد الدولي؛ ما ساعد السلطات على معالجة تأثير فيروس كورونا.