هل يؤدي إحياء الاتفاق النووي الإيراني إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط؟ تبدو إجابة هذا السؤال صعبة في ظل الغموض حول احتمالات إحياء الاتفاق وخطط إسرائيل لعرقلته من ناحية، وتعقد المشكلات الأخرى في المنطقة من ناحية أخرى.
فما زال مصير العودة إلى الاتفاقية الدولية التي كبحت برنامج إيران النووي عام 2015 غير محسوم، لكن واقع الأمر أن احتمالات الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط ضعيفة، سواء تم الاتفاق أم لم يتم، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
حروب بالوكالة تدور في المنطقة بكل مكان
مما لا شك فيه أن المنطقة ستكون أحسن حالاً إذا استؤنف الاتفاق، مما إذا تخلى الجانبان الأمريكي والإيراني عن الاتفاقية وانصرفا عن التزام بنودها. ومع ذلك، يذهب بعض الخبراء إلى أن تأثير العودة إلى الاتفاق سيكون محدوداً، ويستندون في ذلك إلى بعض القرائن التي تدلِّل على أن الحرب السرية بين إسرائيل، التي تعارض الاتفاق بشدة، وإيران، ستستمر مهما كانت نتيجة مفاوضات العودة إلى الاتفاق.
لا تدور الحروب المرتبطة بإيران فقط بين طهران وتل أبيب، ولا في الفضاء الإلكتروني فحسب، ولا تتعلق بالملف النووي الإيراني فقط، بل تمتد هذه الحروب إلى كثير من المناطق في الشرق الأوسط، منها سوريا والعراق ولبنان وغزة واليمن.
أشار شاي فيلدمان، الأكاديمي الإسرائيلي المعروف، إلى أن "معظم زعماء إسرائيل وكبار المسؤولين في حكومتها الحالية يرون أن إسرائيل ستواجه تحديات أمنية جسيمة إذا حازت إيران أسلحة نووية، ومع ذلك فإن إسرائيل قوة إقليمية لديها خيارات متنوعة للتغلب على هذه التحديات. وتشمل هذه الخيارات التلويح الواضح بوسيلة ردع أقوى، ألا وهي استخدام (السلاح النووي). وفي هذا السياق، جاءت إشارة رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لَبيد إلى (قدرات بلاده الأخرى) خلال فعالية عُقدت منذ وقت قريب في لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية، وثنائه على لقيادات اللجنة ودورها في تأمين بقاء إسرائيل".
يُذكر أن إسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، وإن لم تعترف قط بأن لديها أسلحة نووية، علماً بأنها لم توقع على "معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية".
تشارك دول الخليج إسرائيل في المخاوف من أن أقصى ما قد تفعله الاتفاقية هو كبح التقدم الإيراني نحو التحول إلى دولة نووية، لكن الاتفاق لن يفعل شيئاً لإيقاف برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، ولن يحدَّ من مساندة طهران لوكلائها وحلفائها من غير الدول، مثل حزب الله في لبنان، والميليشيات الموالية لإيران في العراق، والحوثيين في اليمن.
هل تقبل إيران بمناقشة برنامجها الصاروخي وأنشطة ميليشياتها؟
ترفض إيران مناقشة هذه القضايا حتى الآن، وترد على المطالبات بالتعامل مع برنامجها الصاروخي بأن إسرائيل ودول الخليج لديها قدرات عسكرية في المجال الجوي، إضافة لامتلاك الرياض لصواريخ باليستية (حصلت عليها من الصين بموافقة أمريكية)، فضلاً عن البرنامج الصاروخي الإسرائيلي الأكثر تقدماً في المنطقة.
إلا أن وضع البرنامج الصاروخي وأنشطة وكلائها، ذلك يمكن أن يخضعا لقدر من التغيير إذا فُتح لها الباب للمشاركة في مناقشة شاملة للأمن الإقليمي، حسب الموقع الأمريكي الذي يرى أنه يجب أن تضم هذه المناقشة جميع الأطراف، ومنهم إسرائيل وتركيا، وتشمل قضايا الأمن في شرق البحر الأبيض المتوسط، والقوقاز، وجنوب آسيا.
إليك أبرز القضايا التي تهدد الاستقرار في الشرق الأوسط
لا تقتصر الأسباب الداعية إلى هذه المناقشة الشاملة على المخاوف من التأثير المحدود للاتفاق النووي، فهنالك الخشية أيضاً من العجز عن خفض التوترات القائمة في الشرق الأوسط بين إسرائيل، ودول الخليج، ومصر، وتركيا، وإيران.
وهي خشية تتجلى بوادرها في بطء وتيرة التقدم في مساعي عودة العلاقات بين السعودية وإيران، وبين تركيا ومصر، علاوة على استمرار الخلافات والخصومات بين مختلف أصحاب المصالح في الشرق الأوسط، مثل تركيا وإسرائيل وإيران والإمارات وقطر، والتنازع على النفوذ في أفغانستان واليمن وليبيا وكردستان العراق.
ومن الأسباب التي تبعث أيضاً على الشك في القدرة على كبح جماح الاضطراب في المنطقة: انعدام الثقة الذي يعوِّق مساعي روسيا للتوسط من أجل التقارب بين تركيا ورئيس النظام السوري بشار الأسد؛ وتداعيات المساعي الروسية في هذا الشأن بمنطقة الخليج، فالسعودية وقطر تعارضان تأييد الإمارات لعودة بشار الأسد إلى الحظيرة العربية، بعد 11 عاماً من تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية.
ويزيد على ذلك الحرب بالوكالة بين إيران وتركيا وإسرائيل التي حسب أكراد العراق طرفاً فيها ، والتوترات العراقية التركية بسبب العمليات العسكرية التي تشنها تركيا في شمال العراق للقضاء على المتمردين من الأكراد الأتراك، إضافة لمخاوف تركيا من دعم الغرب لأكراد سوريا عبر ما يعرف باسم قوات سوريا الديمقراطية التي يسيطر عليها حزب الشعوب الديمقراطية الكردي السوري الذي أسسه أعضاء سوريون بحزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي في تركيا ومعظم الدول الغربية، علماً بأنه وفقاً لتقارير مراكز أبحاث غربية، فإن حزب الشعوب الديمقراطية يستغل سوريا الديمقراطية كواجهة يسيطر فيها الأكراد على الأغلبية العربية في شمال وشرق سوريا ليؤسس دولة عنصرية لا تختلف عن إسرائيل وجنوب إفريقيا.
وقد أدت الهجمات الصاروخية التي وقعت منذ وقت قريب على حقل نفط مملوك للإمارات في شمال العراق إلى انصراف الأمريكيين عن المشروع مرة ثانية، وإن لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجمات.
القوى العظمى لا تريد التدخل في ظل الوضع الحالي
والأسباب الداعية إلى الاجتماع على أساس أرسخ للحد من التوتر الإقليمي لا تقتصر على العوامل الاقتصادية، مثل التحول الاقتصادي في الخليج والأزمة الاقتصادية بتركيا وإيران ومصر، بل إن هناك عوامل الجغرافيا السياسية أيضاً.
لقد أوضحت كل من الصين وروسيا أنهما لن يسعيا إلى شراكة أوثق في الأمن الإقليمي إلا إذا تحملت جميع الأطراف في الشرق الأوسط مسؤولية أكبر في إدارة النزاعات الإقليمية، وتخفيف التوترات، والدفاع عن نفسها.
ولا يختلف ذلك كثيراً عما تطلبه الولايات المتحدة في مساعيها الرامية إلى إعادة تنظيم حضورها بالخليج وتدابير حفظ الأمن في المنطقة.
ولذا يجب تشكيل هيكل أمني متعدد الأطراف، وهذه أهم مبادئه المفترضة
ويعني ذلك أن انتقال دول المنطقة إلى هيكل متعدد الأطراف لحفظ الأمن في الإقليم، وإن ظلت الولايات المتحدة بمنزلة العمود الفقري العسكري له، أمرٌ لا مفر منه على المدى الطويل. والدواعي إلى ذلك عديدة، منها انصراف التركيز الاستراتيجي للولايات المتحدة إلى آسيا والنزاع مع الصين؛ ومساعي أوروبا لتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية في أعقاب غزو أوكرانيا؛ وكراهية الصين لفكرة الاعتماد على خصمها الولايات المتحدة في أمن الطاقة.
يذهب الخبراء إلى أن التفاهمات والاتفاقيات اللازمة للوصول إلى هيكل أمني بين جميع دول منطقة الشرق الأوسط يجب أن تستند إلى ثلاثة مبادئ حسب موقع Responsible Statecraft وهي:
الحساسية المتبادلة، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة.
ويجب أن يتضمن الهيكل الأمني في صورته المثالية: تخلياً موثوقاً به من مختلف أطرافه عن مساعي تغيير الأنظمة؛ والتعهدات بعدم الاعتداء؛ والاتفاق على آليات إدارة للنزاعات وآليات لحلِّها؛ والحد من التسلح؛ وحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ وخلو المنطقة من الأسلحة النووية.
من جهة أخرى، يرى بعض الخبراء أن أكبر عقبة أمام هيكل أمني إقليمي مستقر هو العداء العميق الجذور بين إسرائيل وإيران، وانعدام الثقة بينهما، ولأجل ذلك، يرى بعض المراقبين أن سباق التسلح النووي حتمي بين البلدين، ويزيد الطين بلة سعي السعودية وتركيا الحثيث لحيازة القدرات النووية أيضاً.
من المتوقع أن تتسارع وتيرة هذا السباق إذا فشلت مساعي العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وإن كان الاتفاق ليس ضامناً لإيقاف مساعي دول المنطقة لحيازة السلاح النووي.
يتطلب الاتفاق بين دول المنطقة تضافر الجهود الإقليمية والدولية، واستعداد مختلف الأطراف لتقديم تنازلات من أجل بناء الثقة، وهذا بدوره يقتضي الإرادة السياسية للنظر في القضايا من خارج منظور الأيديولوجيا، والتعصب لأفكار مسبقة، والتحيز.
إسرائيل ليست قادرة على وقف البرنامج النووي الإيراني عسكرياً
ومهما كان الأمر، فإن الحقيقة أن إيران اليوم توشك على أن تصبح إحدى الدول القادرة على إنتاج السلاح النووي، وهي ستصبح كذلك سواء تم الاتفاق أم لم يتم. لكن ذلك لا يعني أن الاتفاق لا قيمة له، أو غير ذي صلة بالتفاهم في المنطقة، بل الأمر خلاف ذلك، إذ إن مصير الاتفاقية، بصرف النظر عن مدى الخلل فيها أو الاختلاف بشأنها، سيشكِّل أمن الإقليم في المستقبل المنظور.
وفي السياق نفسه، فإن التقييم الواقعي لقدرات مختلف الأطراف أحد العوامل المهمة في سبيل الاجتماع على أساس راسخ للحد من التوترات الإقليمية. والتقييم الواقعي لقدرة الخيار العسكري على وقف برنامج إيران النووي أحد الأمثلة على ذلك.
يقول يوسي ميلمان، الصحفي المتخصص في شؤون الأمن القومي الإسرائيلي، إن إسرائيل تفتقر إلى القدرات العسكرية اللازمة لتدمير برنامج إيران النووي اللامركزي، حتى وإن ادعت خلاف ذلك، فالولايات المتحدة لم تزوِّد إسرائيل حتى الآن بالقنابل الخارقة للتحصينات، ومن ثم "فالولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لديها القدرة على اتخاذ قرار عسكري فعال ضد إيران [للقضاء على برنامجها النووي]، لكن الولايات المتحدة ما انفكت تتجنب هذا الخيار"
في الختام، يمكن القول إن الاتفاق يستمد أهمية كبيرة من قدرته على تحديد صلاحية السياق العام لبناء الثقة من عدمها، ومن كونه أساساً يمكن الاستناد إليه للتفاهم بشأن القضايا الحساسة التي يستحيل من دونها إنشاء أي هيكل أمني متعدد الأطراف بين دول المنطقة، والتي إن لم يكتمل الاتفاق بشأنها فإن أي هيكل أمني سيولد ميتاً في مهده.