مصر تريد استعادة حجر رشيد من بريطانيا، لكن الأثر الأهم على الإطلاق وجد نفسه في وسط عاصفة من الجدل، بعد أكثر من قرنين على اكتشافه، فلماذا الآن؟ وما فرص عودة الحجر التاريخي إلى مهده؟
وبشكل عام يمكن القول إن الآثار المصرية منتشرة حول العالم، في المتاحف ومقرات المزادات، إذ كانت القوانين المصرية فيما سبق تعطي بعثات التنقيب الأجنبية الحق في الحصول على نصف الآثار التي تكتشفها تلك البعثات، كما أن تجارة الآثار نفسها كانت مشروعة، وكان هناك بازار ملحق بالمتحف المصري في القاهرة يبيع قطع الآثار الأصلية، التي تكون مكررة.
لكن مع صدور قانون حماية الآثار 117 لسنة 1983، الذي حظر تجارة الآثار، كان المفترض أن يتوقف استنزاف الآثار المصرية وتفرقها حول العالم بشكل رسمي، حيث خفض ذلك القانون النسبة التي تحصل عليها البعثات الأجنبية من الآثار المكتشفة إلى 10% بشرط التكرار، ولأغراض البحث العلمي والعرض المتحفي فقط. وفي فبراير/شباط 2010، تم تعديل القانون لتصبح جميع الآثار المكتشفة ملكاً للدولة.
حجر رشيد.. أصل القصة
لكن حجر رشيد تحديداً قصته مختلفة، سواء من حيث الأهمية التاريخية أو من حيث قضية سعي مصر لاستعادته من المتحف البريطاني، حيث يوجد حالياً. فحجر رشيد تم اكتشافه في يوليو/تموز عام 1799 خلال الحملة الفرنسية على مصر، والتي قام بها نابليون بونابرت لتوسيع الإمبراطورية الفرنسية حول العالم، وقطع الطريق على الإمبراطورية البريطانية، حيث كانت الحرب بينهما على أشدها.
خلال عمل مجموعة من الجنود الفرنسيين، مكلفين بأعمال هندسية في إحدى القلاع الموجودة وقتها بمنطقة رشيد، لاحظ أحد الجنود، اسمه "بوشار"، وجود حجر أسود عملاق عليه نقوش بلغات غريبة، وكان موجوداً وسط أحجار البناء. ارتفاع الحجر متر و13 سنتيمتراً، وعرضه 75 سنتيمتراً، فأدرك بوشار أنه يقف أمام حجر أثرى مهم، وقام بإبلاغ قيادته وتم نشر الخبر في الصحف الفرنسية الخاصة بالحملة، وأطلقوا عليه اسم حجر رشيد، وأمر نابليون بعمل نسخة من الحجر حتى يتمكن العلماء من اكتشاف اللغات الموجودة فيه.
كان نابليون بونابرت قد جاء على رأس حملة عسكرية لاحتلال مصر، أطلق عليها "جيش الشرق" عام 1798، ومعه أكبر قوة محمولة بحراً في ذلك التاريخ، تضم نحو 167 عالماً وفناناً من أبرز علماء فرنسا في العلوم والفنون والآداب، وذلك على خطى مثله الأعلى، "الإسكندر الأكبر"، بحثاً عن تكوين إمبراطورية في الشرق.
على أية حال، استغرق الأمر 23 عاماً حتى تم فك رموز النقوش الغريبة على حجر رشيد، ليصبح واحداً من أشهر الأحجار الأثرية التي تم اكتشافها في التاريخ إن لم يكن أشهرها على الإطلاق.
ومن المؤكد أن فك رموز الحجر كان أمراً صعباً؛ فوقتها كانت النقوش بلغات غير معروفة أو متداولة، وكان أول من حاول وضع خطوات لفك الرموز هو "توماس يونج"، وهو عالم فيزيائي بريطاني، عام 1815م، وكان محباً للغة الهيروغليفية القديمة، واكتشف أن الأشكال البيضاوية الملونة ترجع إلى أسماء الملوك، وتمكن من تكوين الأشكال التي حصل عليها على اسم الملك "بطليموس".
لكن ارتبط فك رموز حجر رشيد باسم العالم الفرنسي شامبليون، الذي اكتشف في النهاية أن النقوش على حجر رشيد مكتوبة بلغات ثلاث، هي الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة، وإن كان النص واحداً، وهو عبارة عن رسالة شكر موجهة من كهنة مدينة منف إلى الملك بطليموس الخامس، وكان ذلك عام 196 قبل الميلاد. كان الملك بطليموس الخامس كريماً مع عامة الشعب والكهنة، وكان يحترم المعتقدات الدينية المصرية رغم اختلافها عن معتقداته وثقافته.
وهكذا جلب الكهنة أحد الأحجار البركانية من نوع "البازلت الأسود"، ونقشوا عليه نص رسالة الشكر. ولأن الملك لم يكن يعرف اللغة الفرعونية بشكل جيد، فنسخوا نص الرسالة باللغات الثلاث.
كيف وصل حجر رشيد إلى بريطانيا؟
عندما تمكنت بريطانيا من هزيمة القوات الفرنسية في مصر وأراد من تبقى من الحملة الفرنسية العودة إلى بلادهم واستعادة أسراهم لدى البريطانيين، تم توقيع اتفاقية بين الجانبين عام 1801، استولى بموجبها البريطانيون على جميع الآثار المصرية التي اكتشفها الفرنسيون، ومن ضمنها بطبيعة الحال حجر رشيد.
ومنذ اللحظة الأولى لاكتشافه، أثار حجر رشيد ضجة كبرى في الأوساط العلمية المهتمة بتاريخ مصر القديمة، لكن فك رموز رسالة الكهنة إلى الملك بطليموس الخامس أعطت حجر رشيد أهمية قصوى، ليس بسبب نص الرسالة ولا حتى كون الرسالة نفسها ترجع إلى عام 196 قبل الميلاد، بل لأن ذلك الاكتشاف فتح الباب على مصراعيه أمام اكتشاف التاريخ الفرعوني الممتد لأكثر من 7 آلاف سنة قبل الميلاد، من خلال فك رموز اللغة الهيروغليفية أو اللغة المصرية القديمة.
وعلى الرغم من أن حجر رشيد موجود في بريطانيا منذ عام 1801، أي منذ أكثر من قرنين من الزمان، إلا أن المتحف البريطاني استغل مرور قرنين بالتمام والكمال على فك رموز حجر رشيد كي يقيم عرضاً خاصاً للآثار المصرية الفرعونية، يكون حجر رشيد في القلب من القطع الأثرية المعروضة.
وخلال أغسطس/آب الماضي، تزامناً مع الذكرى المائتين لفك رموز حجر رشيد، افتتح المتحف البريطاني ذلك العرض الخاص للجمهور، ليعود الجدل بشأن الآثار المصرية المهربة أو المسروقة للجدل مرة أخرى، وبخاصة ذلك المتعلق بحجر رشيد تحديداً.
هل يمكن أن تستعيد مصر حجر رشيد؟
هذا السؤال ليس جديداً في حقيقة الأمر، بل أصبح مطروحاً وبقوة خلال العقدين الماضيين، وليس فقط بشأن حجر رشيد، ولكن بشأن عشرات الآلاف من القطع الأثرية المنتشرة حول العالم.
وبحسب تقرير لصحيفة The Economist البريطانية، سيسافر وزير الآثار المصري الأسبق، زاهي حواس، إلى لندن خلال أكتوبر/تشرين الأول المقبل بغرض محاولة إقناع المسؤولين عن المتحف البريطاني بإرجاع حجر رشيد إلى مصر.
زاهي حواس واحد من أشهر العلماء المصريين، ونجح بالفعل خلال السنوات الماضية في استعادة كثير من القطع الأثرية المصرية من متاحف حول العالم، ويعتبر حواس حجر رشيد "أيقونة الهوية المصرية، ولا يجوز للمتحف البريطاني عرضه للجمهور. حجر رشيد مسروق من مصر ولابد من استعادته".
لكن القصة قد لا تكون بالبساطة التي يصورها بها الدكتور زاهي حواس، فهناك قوانين دولية وهناك معاهدة اليونسكو لحماية التراث العالمي (لعام 1970)، وكلها تجعل من استعادة مصر لحجر رشيد مهمة شبه مستحيلة، بحسب خبراء آثار وحتى وزراء آثار مصريين.
الدكتور خالد العناني، وزير الآثار المصري السابق، كان قد قال لوسائل إعلام محلية في أكثر من مناسبة إن السبب في تأخير استرجاع القطع الأثرية المصرية من الخارج يرجع إلى طريقة التعامل بشأن استعادة الآثار، مضيفاً أن هناك خطوات تتم، وفقاً للقانون الدولي للآثار والاتفاقيات الدولية الخاصة بذلك، وليس بالقانون المصري.
وتحدث عناني تحديداً عن قضية حجر رشيد قائلاً إن مصر حاولت كثيراً بالفعل في مسألة استعادة حجر رشيد، لكن المشكلة في قانون الآثار الدولي وليست في القانون المصري، مشيراً إلى اتفاقية اليونسكو وكيف أنها تجعل مسألة استعادة الآثار مهمة شبه مستحيلة.
ومنذ سنوات أعلن حواس عن جمع توقيعات من علماء وخبراء وناشطين في مجال الآثار على وثيقة تطالب المتحف البريطاني بالموافقة على إعادة حجر رشيد إلى مصر، وحصل بالفعل على تلك التوقيعات، ويبدو أنه سيحمل الوثيقة معه خلال رحلته إلى لندن في أكتوبر/تشرين المقبل.
وعلى الرغم من تكرار الحديث في مصر عن السعي لاستعادة حجر رشيد، وباقي الآثار المصرية في المتحف البريطاني، والتي قدرها حواس بأكثر من 100 ألف قطعة، إلا أن المسؤولين عن المتحف البريطاني ينفون استلامهم لأي مطالب رسمية مصرية بذلك الخصوص.
هناك نقطة أخرى تتعلق بمسألة استعادة حجر رشيد، وهي أن الملك بطليموس الخامس لم يكن مصرياً، بل يوناني مقدوني، بحسب ما يجادل به بعض خبراء الآثار البريطانيين الرافضين لإعادة حجر رشيد إلى مصر، لكنها بالطبع حجة واهية تماماً، من وجهة النظر المصرية، التي ترى أن البطالمة حكموا مصر وعاشوا فيها لأكثر من 3 قرون، وبالتالي أصبحوا مصريين، كما أن حجر رشيد نفسه تم العثور عليه في مصر.
الخلاصة هنا هي أن حجر رشيد يمثل أحد أهم الآثار المصرية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، لكنه غير موجود في مصر، بل في بريطانيا، حيث يصطف الجمهور في طوابير ممتدة وعلى مدى ساعات لدخول المتحف البريطاني وإلقاء نظرة على الأثر المصري والتقاط صور تذكارية وشراء هدايا صممت جميعها على شكل حجر رشيد، بينما تبدو مهمة مصر في استعادة ذلك الأثر صعبة للغاية إن لم تكن مستحيلة، والسبب "القانون الدولي"، الذي يبدو كأنه يبرر "سرقة الآثار"، بل واحتفاظ اللص بما سرقه والاستمرار في الاستفادة منه مادياً.