مع بداية الهجوم على أوكرانيا تعرضت روسيا لعقوبات غربية غير مسبوقة، فكيف تتمكن القوات الروسية من تعويض خسائرها في ساحة الحرب، وبخاصة من المكونات الخاصة بتوجيه الصواريخ والمسيرات والقذائف؟
بدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا، هذه المرة، منذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدّتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط.
وتزايدت وتيرة فرض الغرب، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للعقوبات الشاملة على روسيا، لكن بعد أكثر من 6 أشهر على بداية الحرب لا يزال الاقتصاد الروسي متماسكاً، ولا تزال القوات الروسية تواصل عملياتها العسكرية في شرق أوكرانيا، ما يثير تساؤلات بشأن كيفية تعويض روسيا لما تفقده في ساحة الحرب.
نشرت صحيفة The New York Times الأمريكية تقريراً عنوانه "كيف تستخدم روسيا التقنية البسيطة في أسلحتها عالية التطور؟"، قدم محاولة إلقاء الضوء على كيفية تعامل روسيا مع العقوبات في مجال التسليح تحديداً.
كيف تعوض روسيا ترسانتها العسكرية؟
بينما تُطلِق القوات الروسية أسلحة دقيقة التوجيه على أهداف عسكرية ومدنية في أوكرانيا، عَكَف ضباط في جهاز الأمن الأوكراني، بالتعاون مع محللين خاصين، على جمع أجزاء من الصواريخ المحطمة لكشف أسرار عدوهم.
وهذه الأسلحة هي أعلى مستوى في الترسانة الروسية. وقال المحللون الذين فحصوها إنها تحتوي على مكونات منخفضة التقنية إلى حد ما، بما في ذلك نظام ملاحة عبر الأقمار الصناعية فريد، لكن بسيط، الذي عُثِر عليه أيضاً في الذخائر الأخرى التي استولى عليها الأوكرانيون.
وذُكِرَت هذه النتائج بالتفصيل في تقرير جديد صدر يوم السبت، 3 سبتمبر/أيلول، عن Conflict Armament Research، وهي مجموعة مستقلة مقرها بريطانيا، تختص بتحديد وتتبع الأسلحة والذخيرة المستخدمة في الحروب في جميع أنحاء العالم. وفحص فريق البحث المعدات الروسية، في يوليو/تموز، بدعوة من الحكومة الأوكرانية.
وبحسب الصحيفة الأمريكية، تعتبر النتائج التي توصل إليها ذلك التقرير مناقضة لرواية موسكو، عن امتلاكها جيشاً أعيد بناؤه محلياً قادراً على منافسة خصومها الغربيين.
لكنه يُظهِر أيضاً أنَّ الأسلحة التي تستخدمها روسيا في ساحة الحرب على الأراضي الأوكرانية غالباً ما تكون مدعومة بابتكارات غربية، على الرغم من العقوبات المفروضة على روسيا، بعد غزوها شبه جزيرة القرم في عام 2014. وكان الهدف من هذه القيود وقف شحن المواد عالية التقنية التي يمكنها مساعدة القدرات العسكرية لروسيا.
داميان سبليترز، المحقق في المجموعة التي أسهمت في إعداد التقرير، قال لصحيفة نيويورك تايمز: "رأينا أنَّ روسيا تعيد استخدام المكونات الإلكترونية نفسها عبر أسلحة متعددة، بما في ذلك أحدث صواريخ كروز وطائرات الهليكوبتر الهجومية، لكننا لم نتوقع رؤية ذلك. الأسلحة الروسية الموجهة مليئة بالتكنولوجيا والمكونات غير الروسية، ومعظم رقائق الحاسوب التي وثقناها صنعتها دول غربية بعد عام 2014".
ويصف الرئيس فلاديمير بوتين الهجوم على أوكرانيا بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه غزو لدولة ذات سيادة، ورغم دخول الحرب شهرها السابع، فإن القوات الروسية لا تزال تواصل مهامها، دون أن يبدو للعقوبات الغربية تأثير واضح.
كانت الحرب قد اندلعت بعد أن وصلت الأزمة الجيوسياسية بين روسيا والغرب إلى طريق مسدود، في ظل عدم توصل الطرفين إلى تسوية مقبولة لما تراه موسكو تهديداً لأمنها القومي، سببه تمدد حلف الناتو شرقاً، وسعي النظام الأوكراني بقيادة فولوديمير زيلينسكي إلى الانضمام للحلف العسكري الغربي، والتخلي عن وضع الحياد الذي كان سائداً هناك، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينيات القرن الماضي.
كيف تحصل روسيا على المكونات الغربية؟
لذلك، وفي هذا السياق، لا يزال حصول روسيا على الأجزاء الحساسة لأسلحتها الفتاكة أمراً يكتنفه الغموض. ويسأل سبليترز الشركات المُصنّعة لأشباه الموصلات كيف انتهى المطاف ببضائعها داخل أسلحة روسية، سواء من خلال المعاملات المشروعة أو مشتريات عبر وكلاء، بغرض الالتفاف على العقوبات.
وحلّل المحققون بقايا 3 أنواع من صواريخ كروز الروسية، بما في ذلك أحدث طرازات موسكو وأكثرها تقدماً، الصاروخ الروسي الجوال "Kh-101″، وأحدث صاروخ موجه وهو ""Tornado-S. واحتوت جميع تلك الصواريخ على مكونات متطابقة، تحمل علامة "SN-99″، التي قال الفريق إنَّ التفتيش الدقيق أثبت أنها أجهزة استقبال للملاحة عبر الأقمار الصناعية الضرورية لتشغيل الصواريخ.
وقال المحقق سبليترز إنَّ استخدام روسيا للمكونات نفسها يشير إلى أنها تعاني من اختناقات في سلسلة التوريد الخاصة بها، وتقييد توريد المكونات الإلكترونية "SN-99" سيبطئ قدرة موسكو على تجديد مخزونها المتناقص من الأسلحة المُوجّهة.
وأضاف سبليترز: "إذا كنت تريد السيطرة الفعالة، والتأكد من أنَّ الروس يفقدونها، فأنت بحاجة إلى معرفة ما يحتاجه الروس وما الذي يستخدمونه. من المهم إذاً معرفة كيف حصلوا على هذه المكونات، وعبر أية شبكات؟ ومَن المورّدون الذين استعانوا بهم؟".
ووجد المحققون أيضاً أنَّ المهندسين الروس عامة يعتمدون على بعض أشباه الموصلات من شركات تصنيع غربية محددة، ليس فقط في الذخائر، بل أيضاً في طائرات المراقبة بدون طيار، ومعدات الاتصالات وإلكترونيات الطيران المروحية، وغيرها من السلع العسكرية.
وأشار سبليترز: "مع مرور الوقت استمر الروس في العودة إلى نفس الشركات المُصنّعة. ومجرد معرفة ذلك يجعل استهداف تلك الشبكات أسهل". وأوضح: "بالنظر إلى رقائق الحاسوب الموجودة في نفس المواضع عبر لوحات دوائر متعددة، وجدنا أنها دائماً من صنع نفس الشركات. ربما لديها تواريخ إنتاج مختلفة، لكن تعود دائماً لنفس الشركة المُصنّعة".
كما كشف التقرير عن اختلافات كبيرة بين الأسلحة الروسية عالية الجودة وتلك التي تلقتها القوات الأوكرانية من الولايات المتحدة.
وغالباً ما تفحص الأطراف المتحاربة المعدات العسكرية التي استولى كل طرف عليها من الآخر، لمعرفة قيمة المعلومات الاستخبارية، لكن المحققين أعربوا عن صدمتهم من اللامبالاة الواضحة من جانب روسيا، لامتلاكها الكثير من الأسلحة التي يمكن لعدوٍّ ما أن يعيد هندستها.
توظيف روسي للأجزاء التقنية الغربية
قال أرسينيو مينينديز، وهو متعاقد لدى وكالة ناسا، ويعمل في الهندسة العكسية لمكونات الأسلحة المُوجّهة كهواية، بعد فحص صور للإلكترونيات العسكرية الروسية التي التقطها الباحثون: "هذا هو مستوى أواخر التسعينيات أو منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في أحسن الأحوال. إنها في الأساس تعادل وحدة التحكم في ألعاب الفيديو Xbox 360، ويبدو أنها مفتوحة لأي شخص يريد تفكيكها وإنشاء نسخته الخاصة منها".
بالمقارنة، لدى وزارة الدفاع الأمريكية معايير يجب على المتعاقدين العسكريين اتباعها، لجعل الأمر أصعب على الدول المعادية، لبناء نسخها الخاصة من الأسلحة التي تضع يدها عليها.
ولحماية هذه المعرفة العملياتية، التي يشير إليها البنتاغون بالمصطلح المحايد "معلومات البرنامج المهمة"، تتطلب التوجيهات العسكرية استخدام تقنيات مكافحة التلاعب التي تهدف إلى تأمين البرمجة الحاسوبية، والتعليمات التي تخبر السلاح بكيفية العثور على هدفه.
ولا تعرض توجيهات البنتاغون التي نُشِرَت علناً سوى مخطط عام لنطاق البرنامج ومتطلباته، بينما تبقى التفاصيل الإضافية سرية. ورفض المسؤولون العسكريون مناقشة أية تقنيات لمكافحة التلاعب قد تطلبها وزارة الدفاع.
قال مينينديز: "يمكنك بناء شبكة حول شريحة الحاسوب التي إذا فحصتها ستحذف محتوياتها"، مضيفاً أنَّ مثل هذه الحماية تُستخدَم في السلع التجارية مثل قارئات بطاقات الائتمان لتقليل عمليات السرقة والاحتيال.
وأضاف أنَّ نظام الملاحة الروسي يشبه هيكل المصدر المفتوح لأجهزة استقبال نظام التموضع العالمي (جي بي إس)، التي لا تخضع للقيود الفيدرالية فيما يتعلق ببيع وتصدير المواد الدفاعية. وتابع متعاقد ناسا: "يمكن لفريق من طلبة كلية الهندسة الكهربائية بناء هذا".
بينما أشار مينينديز إلى أنَّ خليط الأجزاء التي تستخدمها روسيا لبناء أسلحتها المُوجّهة قد يساعد أيضاً في تفسير سبب عدم دقة صواريخ كروز في ضرب أهدافها بعض الأحيان.
يمكن أن تؤدي الأخطاء التي تُحدثها وحدات (جي بي إس) غير القياسية عند معالجة إشارات الأقمار الصناعية، في النهاية، إلى فقد صاروخ كروز هدفه بهامش واسع.
وقال مينينديز إنَّ روسيا تتبنى على ما يبدو نهجاً في إلكترونيات الأسلحة يقول: "إذا لم تتمكن من مواكبة التكنولوجيا فاسرقها، وافعل بها أقصى ما تستطيع".