أنهت إسرائيل تحقيقها في مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، بعد نحو 4 أشهر من الجريمة، وأعلن جيش الاحتلال نتيجة التحقيق في بيان يبدو وكأنه اعتراف بالمسؤولية، فما قصة ذلك الاعتراف "المضلل"؟
كانت شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة، قد تعرضت للاغتيال بدم بارد برصاصة أطلقها قناص إسرائيلي، أصابتها في الوجه مباشرة، بينما كانت تستعد مع مجموعة من المراسلين والإعلاميين لتغطية قيام قوات الاحتلال بمداهمة لمخيم جنين في الضفة الغربية، كما أظهرت مقاطع الفيديو التي صورت الجريمة.
وعلى الفور انطلقت الدعاية الإسرائيلية لمحاولة طمس معالم الجريمة، من خلال الزعم بأن مقتل أبو عاقلة، التي تحمل الجنسية الأمريكية، جاء نتيجة "تبادل لإطلاق النار" مع "مطلوبين أمنيين"، وهو الوصف الذي تستخدمه قوات الاحتلال للإشارة إلى الشباب الفلسطيني، لكن لقطات الفيديو أظهرت مجموعة المراسلين، ومن بينهم أبو عاقلة، يرتدون الخوذ والسترات الواقية التي تحمل كلمة "صحافة/ Press" المميزة، ولا يوجد غيرهم في المشهد، وفجأة تعرضوا لإطلاق الرصاص لتصاب شيرين أبو عاقلة بطلقة مباشرة في الوجه وتسقط أرضاً، فيما يبدو كعملية "إعدام" مرتبة، بحسب شهود العيان.
تحقيق الجيش الإسرائيلي
كان مقتل شيرين أبو عاقلة، التي كانت واحدة من أكثر الوجوه المعروفة التي تغطي أحداث الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على مدى عقدين من الزمن، قد أثار حالة من الغضب على مستوى العالم، خصوصاً بعد أن اعتدت شرطة الاحتلال بالضرب على مشيعي جنازتها في القدس.
وشكَّك شهود عيان في أن تكون مواقع الجنود الإسرائيليين قد تعرضت لإطلاق نار من المنطقة التي كانت تقف فيها شيرين عندما قتلت. كما أجرت جهات متعددة، إعلامية وحقوقية، تحقيقاتها الخاصة في الجريمة، والتي خلصت جميعها إلى أن الصحفية الفلسطينية قد قتلت برصاص قناص إسرائيلي دون أن يكون هناك مبرر لإطلاق النار عليها من الأساس.
وكانت مشاهد اعتداء جنود الاحتلال على نعش شيرين أبو عاقلة، ومحاولة تدنيس جنازتها، قد زادت من حدة الغضب، وتعالت الأصوات بحتمية إجراء تحقيق فعلي لتحديد قاتل الصحفية الفلسطينية. إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، الجمعة 20 مايو/أيار- أي بعد أسبوع من الجنازة- إن الولايات المتحدة كررت دعوتها إلى إجراء تحقيق "شامل وشفاف" في مقتل الصحفية الفلسطينية-الأمريكية، مشدداً على أن مثل هذا التحقيق ينبغي أن يتضمن تحديد المسؤول عن القتل.
وبعد ما يقرب من أربعة أشهر على الجريمة، خرجت إسرائيل بنتائج "تحقيقها"، الذي يبدو وكأنه "اعتراف" بمسؤولية جيش الاحتلال عن قتل شيرين أبو عاقلة. فقال جيش الاحتلال، الإثنين 5 سبتمبر/أيلول 2022، إن التحقيقات الإسرائيلية في مقتل صحفية قناة الجزيرة خلصت إلى أنه من المحتمل أن يكون جندي إسرائيلي قد أطلق عليها الرصاص دون قصد، لكن لم يتم استهدافها عمداً، بحسب تقرير لرويترز.
بيان الجيش الإسرائيلي قال إن القوات التي كانت تنفذ عمليات في جنين تعرضت لنيران كثيفة من جميع الجهات وردت بإطلاق النار، بما في ذلك باتجاه المنطقة التي كانت تقف فيها شيرين على بعد 200 متر من موقع القوات، "لكنها لم تتمكن من تمييز أنها صحفية".
وقال البيان أيضاً: "يوجد احتمال كبير بأن تكون السيدة أبو عاقلة قد أصيبت بطريق الخطأ بنيران جيش الدفاع الإسرائيلي التي أُطلقت باتجاه مسلحين فلسطينيين".
التحقيق الإسرائيلي، الذي تضمن مقابلات مع جنود من الجيش وتحليلاً لموقع الحادث وكذلك تسجيلات صوتية ومرئية، خلص إلى أنه "من غير الممكن تحديد مصدر إطلاق النار بشكل لا لبس فيه".
وقال مسؤول عسكري كبير أطلع الصحفيين على نتائج التحقيقات "يمكننا الجزم بنسبة مئة بالمئة أنه لم يطلق أي جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي النار عمداً على مراسل أو شخص غير متورط على الأرض".
هل "اعترفت" إسرائيل بقتل أبو عاقلة؟
كلا، فالتحقيق الإسرائيلي ترك الباب مفتوحاً على جميع الاحتمالات، إذ جاء فيه أنه من المحتمل أيضاً أن تكون قد أصيبت برصاص مسلحين فلسطينيين، لكن يبدو أن البيان وجد آذاناً مصغية في واشنطن، إذ دعا المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، في بيان، إسرائيل إلى تحديد المسؤولين الذين تسببوا في مقتل أبو عاقلة.
وقال برايس في بيان: "نرحّب بالتحقيق الإسرائيلي في هذا الحادث، ونشدّد مجدّداً على أهمية تحديد المسؤولين في هذه الحالة"، مضيفاً أن تحديد المسؤوليات يجب أن يشمل على سبيل المثال "السياسات والإجراءات، وذلك لمنع وقوع حوادث مماثلة في المستقبل"، بحسب تقرير لموقع فرانس 24 الفرنسي.
وفي هذا السياق، من المهم ذكر الضغوط التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن منذ مقتل شيرين أبو عاقلة، كونها تحمل الجنسية الأمريكية، وبالتالي فإن الاهتمام الذي تبديه الخارجية الأمريكية بمسألة التحقيق في الجريمة وتحديد المسؤولية يرجع لأسباب سياسية داخلية.
ففي نهاية المطاف لم تكن شيرين أبو عاقلة أول صحفية تتعرض للاغتيال بنيران قوات الاحتلال الإسرائيلي، وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة. وبحسب تقرير للاتحاد الدولي للصحفيين أصدره يوم 5 يوليو/تموز 2021، قتلت إسرائيل 46 صحفياً وإعلامياً منذ عام 2000 وحتى عام 2021، فيما وصفه بيان الاتحاد بأنه "استهداف ممنهج ومنظم" من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي، هدفه التغطية على ما ترتكبه تلك القوات من جرائم بحق الفلسطينيين. وخلال حرب غزة فقط، التي استمرت 11 يوماً في مايو/أيار 2021، قتلت إسرائيل 16 صحفياً.
وسعت إسرائيل منذ اللحظة الأولى لنفي مسؤولية جنودها عن قتل أبو عاقلة، وحاولت في البداية إلقاء المسؤولية على الفلسطينيين في جنين، لكن الأدلة القاطعة المسجلة بالصوت والصورة للحظة استهداف مراسلة الجزيرة، التي كانت ترتدي الخوذة والسترة الواقية المكتوب عليها "صحافة/ Press" حشرت تل أبيب في الزاوية.
وبعد أن كان هناك رفض إسرائيلي معلن لإجراء تحقيق في الجريمة، حولت إسرائيل دفة الحديث نحو "الرصاصة" التي قتلت شيرين أبو عاقلة، مطالبة بتسليمها لإجراء تحقيق جنائي بشأنها، لكن السلطة الفلسطينية رفضت تسليم الرصاصة للإسرائيليين، وفي النهاية تم تسليمها للمنسق الأمني الأمريكي بين السلطة وإسرائيل، الذي سلمها بدوره للإسرائيليين، وذكر بيان جيش الاحتلال أن الممثل الأمريكي حضر فحص الرصاصة.
لماذا لجأت إسرائيل إلى "الاعتراف" المضلل؟
نتيجة التحقيق الإسرائيلي لم تجد آذاناً مصغية إلا في البيت الأبيض بطبيعة الحال، إذ قال نبيل أبو ردينة، المتحدث باسم الرئيس الفلسطيني، لرويترز "هذا التقرير محاولة إسرائيلية جديدة للتهرب من مسؤولية قتل الصحفية شيرين أبو عاقلة".
وأضاف "كل الدلائل والوقائع والتحقيقات التي أجريت تثبت أن إسرائيل هي الجاني، وهي من قتلت شيرين، وعليها أن تتحمل مسؤولية جريمتها".
أما عائلة أبو عاقلة فقد قالت: "ما زلنا متألمين ومحبطين وخائبين بعمق" من البيان الإسرائيلي، الذي قالت إنه حاول "التعتيم على الحقيقة وتجنب المسؤولية عن مقتل شيرين أبو عاقلة".
أما وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في القدس، فقال لرويترز إن نتائج التحقيق الإسرائيلي بشأن الحادث ما هي إلا محاولة لتجنب إجراء تحقيق جنائي مستقل.
وتابع قائلاً "من الواضح أنهم يحاولون أن يرسخوا حالة الغموض والخداع من جهة، بينما يبرئون أنفسهم من ناحية أخرى من ارتكاب أية مخالفات من خلال زعم حدوث تبادل لإطلاق النار". وأضاف "هذه كلها أكاذيب لأن جميع الروايات ومقاطع الفيديو والشهود يدحضون مزاعمهم".
لجنة حماية الصحفيين، من جانبها، قالت إن البيان الذي أصدره الجيش الإسرائيلي "متأخر وغير مكتمل… ولا يقدم الإجابات التي تستحقها عائلتها وزملاؤها وفقاً لأي من معايير الشفافية أو المساءلة".
وفي تقرير لمكتب حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، في يونيو/حزيران الماضي، جاء أن شيرين كانت تقف مع صحفيين آخرين، وكان من الممكن تحديد أنها صحفية بوضوح، لوضعها خوذة وسترة واقية زرقاء عليها شارة للصحفيين، عندما أصيبت برصاصة واحدة أودت بحياتها. وأصيب زميل لها في الحادث برصاصة أخرى، وذكر التقرير أن المعلومات التي جمعها تشير إلى مقتلها برصاص جندي إسرائيلي.
بينما قال مسؤولون فلسطينيون وعائلة شيرين أبو عاقلة، إنهم يعتقدون أنها قُتلت عمداً، ورفضوا الروايات الإسرائيلية بوجود مسلحين بالقرب من مكان وقوفها وقت الحادث.
وفوق كل ذلك، خلص تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية، في يوليو/تموز الماضي، إلى أن شيرين أبو عاقلة قُتلت على الأرجح بنيران أطلقت من موقع إسرائيلي، لكن التقرير ذكر أنه لا يوجد دليل على أن القوات الإسرائيلية استهدفت الصحفية عمداً. ويبدو أن الدليل على التعمد، من وجهة نظر الأمريكيين والإسرائيليين، هو فقط اعتراف من أطلق الرصاصة القاتلة بأنه "تعمد قتل شيرين".
الخلاصة هنا هي أن إسرائيل أصدرت ما وصفتها بنتائج التحقيق في مقتل شيرين أبو عاقلة، دون أن تقدم نتائج في حقيقة الأمر، فبحسب جيش الاحتلال "هناك احتمال أن تكون رصاصة إسرائيلية أطلقت بطريق الخطأ تسببت في الحادث"، وهناك احتمال أيضاً بأن تكون "الرصاصة فلسطينية"، أي أنها نفس الرواية التي رددها المسؤولون في إسرائيل منذ اليوم الأول للجريمة.
ربما يكون إصدار "نتائج التحقيق" الآن هدفه تقديم ورقة لإدارة بايدن لإسكات المطالبين بالتحقيق في مقتل مواطنة أمريكية، وربما يكون الهدف هو إحباط محاولات إجراء تحقيق جنائي مستقل في الجريمة، لكن المؤكد هو أن إسرائيل "لم تعترف" بمسؤوليتها عن قتل أبو عاقلة، كما أنها لم تؤكد كذلك عدم المسؤولية وتركت الأمور مفتوحة للتأويل.