كانت روسيا وأوكرانيا قد توصلتا إلى اتفاق سلام بالفعل، لكن رئيس وزراء بريطانيا المستقيل والرئيس الأمريكي تمكنا من إقناع كييف بالانسحاب منه لتستمر الحرب، والسؤال الآن: هل يمكن العودة لذلك الاتفاق أم أن الأوان قد فات؟
كانت المفاوضات بين موسكو وكييف قد بدأت بعد أيام قليلة من الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو" لم يكن هناك ما يبرره، وخرجت أنباء وقتها تشير إلى قرب التوصل لاتفاق سلام بين الجانبين.
لكن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تتهمه روسيا بأنه "دمية" في يد الغرب، أعلن وقف المفاوضات مع روسيا، بعد اتهامات واشنطن وكييف لموسكو بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" بحق الأوكرانيين، وهي الاتهامات التي نفاها الكرملين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووصفوها بأنها "مكيدة أمريكية" لعرقلة إنهاء الحرب.
ماذا كانت بنود الاتفاق بين روسيا وأوكرانيا؟
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "العالم الذي يريده بوتين"، كتبته فيونا هيل وأنجيلا ستينت، حول الجذور التاريخية للأزمة الأوكرانية، وكيف أن بوتين يريد أن يعيد إحياء الإمبراطورية الروسية باستخدام القوة العسكرية لترهيب جيرانه من دول أوروبا الشرقية.
لكن في ثنايا ذلك التحليل، تحدثت الكاتبتان عن كيف أن روسيا وأوكرانيا كانتا قد توصلتا بالفعل إلى اتفاق سلام مبدئي لإنهاء الحرب، وكان ذلك خلال أبريل/نيسان الماضي، أي بعد بضعة أسابيع فقط من الحرب، التي بدأت 24 فبراير/شباط.
وبحسب تحليل مجلة فورين أفيرز: "يبدو أن المفاوضين الروس والأوكرانيين كانوا قد اتفقوا مبدئياً على الخطوط العريضة لتسوية مؤقتة. فتنسحب روسيا إلى موقعها، في 23 فبراير/شباط، حيث كانت تسيطر على جزء من إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم، وفي المقابل تتعهد أوكرانيا بألا تحاول الحصول على عضوية الناتو، وتتلقى بدلاً من ذلك ضمانات أمنية من عدد من البلدان".
وقبل الدخول إلى ما أقدم عليه قادة الغرب، وبخاصة بوريس جونسون وجو بايدن، لإقناع زيلينسكي بالتراجع عن الاتفاق ومواصلة الحرب، من المهم إلقاء الضوء على خلفية الأزمة الأوكرانية، التي انفجرت لتتحول إلى أكبر الحروب على القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
إذ إنه بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.
ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدموا العنف- عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.
تولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف "تمرداً مسلحاً"، واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.
وجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا، طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم، وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، ما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى، وهكذا تم التوصل إلى اتفاقيات مينسك، التي كان بوتين يتمسك بها كمخرج للأزمة التي انتهت باندلاع الحرب.
لماذا أفشل الغرب الاتفاق؟
رصد تقرير عنوانه "لماذا أوقف الغرب اتفاق سلام في أوكرانيا؟" نشره موقع Responsible Statecraft الأمريكي، تأثير جهود رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون لوقف المفاوضات بين موسكو وكييف، مثلما أشار الصحفي برانكو مارسيتيك على تويتر.
إذ تزامن قرار إفشال الاتفاق مع زيارة جونسون، في أبريل/نيسان إلى كييف، التي قيل إنه حث خلالها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على وقف المحادثات مع روسيا لسببين رئيسيين: بوتين لا يمكن التفاوض معه، والغرب ليس مستعداً لإنهاء الحرب.
يثير هذا الكشف، بطبيعة الحال، عدداً من الأسئلة المهمة: لماذا أراد القادة الغربيون منع كييف من توقيع اتفاق لا بأس به مع موسكو؟ هل يعتبرون هذه الحرب حرباً بالوكالة مع روسيا؟ والأهم، ما الذي تتطلبه العودة إلى اتفاق؟، يتساءل الموقع الأمريكي.
ومن المهم، في هذا السياق، العودة إلى أجواء ما قبل اندلاع الحرب، حيث إن زيلينسكي نفسه كان قد انفجر غضباً، خلال مؤتمر صحفي يوم الجمعة 28 يناير/كانون الثاني الماضي، مطالباً الصحفيين بالتوقف عن "إثارة الفزع"، مضيفاً أنه في حالة اندلاع الحرب فعلاً فـ"لن يتدخل جيش أي دولة أخرى للدفاع عن أوكرانيا".
زيلينسكي وقتها اتهم الصحافة بإثارة الذعر، وبدا مصمماً بشكل لافت، على التقليل من الخطر، وقال إن بعض الدول الأوروبية تعمل على خلق أجواء الذعر، بسبب احتمال نشوب حرب بين أوكرانيا وروسيا، داعياً إياها إلى التصرف بحذر أكبر، عند الحديث عن التوتر بين بلاده وروسيا.
وخلال نفس المؤتمر الصحفي، ورداً على أسئلة تتعلق بإجلاء سفارات غربية لدى كييف بعضاً من موظفيها، أبدى الرئيس الأوكراني انزعاجه بشكل علني: "الدبلوماسيون مثل قادة السفن"، وأضاف: "يجب أن يكونوا آخر من يغادر سفينة تغرق. وأوكرانيا ليست تيتانيك".
في ذلك الوقت، كانت إدارة جو بايدن هي من اتخذت قرار الإجلاء أولاً وتلتها حكومة جونسون، بينما كانت تلك هي المرة الأولى التي ينتقد فيها الرئيس الأوكراني إجلاء دبلوماسيين غربيين بشكل علني. وقبل ذلك كانت السفارة الأمريكية قد أصدرت بياناً قالت فيه: "تشاورنا مع الحكومة الأوكرانية بشأن هذه الخطوة، ونقوم بالتنسيق مع سفارات الحلفاء والشركاء في كييف مع تحديد مواقفهم"، لكن الواضح أن هذا التصرف قد أغضب كييف.
كان جونسون يواجه سيلاً من الفضائح الداخلية، أدت إلى استقالته في نهاية المطاف، بينما كان بايدن يواجه مشاكل التضخم وغيرها، ما أدى إلى تراجع شعبيته مقابل ارتفاع شعبية غريمه الجمهوري دونالد ترامب، فركز الرئيس الأمريكي جهوده على الأزمة الأوكرانية بشكل لافت، تعرض خلاله لاتهامات من خصومه في الداخل والخارج بأنه يستغل الأزمة لتحقيق مكاسب سياسية، حتى وإن كان ذلك على حساب الأوكرانيين.
هل أصبح إنهاء الحرب مهمة مستحيلة؟
بعد أكثر من 6 أشهر على اندلاع الحرب، بات من الصعب التكهن بمدى إمكانية العودة لطريق التفاوض، بالنظر إلى أن كلاً من أوكرانيا وروسيا قد شددتا (علناً على الأقل) مواقفهما التفاوضية بدرجة كبيرة في الأشهر الأخيرة.
لكن أحد السبل الممكنة للعودة إلى اتفاق سلام هو البناء على اتفاقية الحبوب الموقعة، في يوليو/تموز الماضي، بوساطة تركية، والتي اتفقت بموجبها كييف وموسكو على استئناف تصدير القمح من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود. وقد حافظت الاتفاقية على قوتها رغم استمرار الاشتباكات، وسمحت بدخول أكثر من مليون طن متري من الحبوب إلى السوق العالمية حتى الآن. وهذا الاتفاق يظهر أن الطرفين مهتمان على الأقل بتخفيف التأثير العالمي للحرب.
والخيار الآخر أشد تعقيداً، ولكنه ليس أقل أهمية، فيوم الخميس الأول من سبتمبر/أيلول، وصل فريق من المفتشين الدوليين إلى محطة زاباروجيا النووية التي تسيطر عليها روسيا، والتي أصبحت مهددة جراء قصف وقع قريباً منها مؤخراً. والزيارة، التي ستسمح للخبراء بضمان بقاء المحطة في حالة آمنة، نتاج محادثات مكثفة مدعومة بضغط من المجتمع الدولي. وفي هذه الحالة تشير كل من روسيا وأوكرانيا إلى التزامهما بتجنب وقوع كارثة نووية.
بعبارة أخرى، دللت كل من كييف وموسكو على رغبتهما في التخفيف من الآثار الثانوية للحرب، وأنهما على استعداد للتفاوض مع العدو لفعل ذلك. ولكن ما دامت هذه الحرب مستمرة ستستمر معاناة الناس على مستوى العالم، وسيظل شبح وقوع حدث كارثي يلوح في الأفق، سواء بهجوم غير مقصود على محطة نووية أو تصعيد غير منضبط للحرب النووية. وقد حان الوقت لأن تدرك روسيا وأوكرانيا والغرب أن الطريقة الوحيدة لإنهاء هذه المخاطر هي إلقاء السلاح والجلوس إلى طاولة المفاوضات.