القارة الخضراء تعاني جفافاً لم تشهده منذ قرون. حقول أوروبا وسكانها يعانون من العطش. وإذا كان العالم بأسره يعاني من الجفاف وغياب الأمطار ودرجات الحرارة الخانقة، فالبعض معتاد ويتكيف، لكن بعض مناطق الكوكب تواجه واقعاً جديداً مفزعاً.
نعم، لم يعد خافياً على أحد أن التغير المناخي حقيقة وليس خيالاً علمياً، لكن أن يغيب المطر عاماً أو عامين، أو أن يتساقط بغزارة أقل من المعتاد أمرٌ، وما يحدث لأناس عاشوا حياتهم كلها معتادين على الخضرة في كل مكان والبرد هو العنوان أمرٌ آخر مختلف تماماً، ومفزع لأقصى درجة.
أن تصل درجة الحرارة في شهر يوليو/تموز إلى 40 درجة مئوية، فهذا قد يكون رحمة لمن يعيشون في الشرق الأوسط عموماً، وفي دول الخليج العربي خصوصاً، لكن درجة الحرارة نفسها في أوروبا تمثل حدثاً تاريخياً بنتائج كارثية، تهدد حياة البشر وأرزاقهم، وربما وجودهم ذاته.
هذا التوصيف ليس من قبيل المبالغة، فالواقع أشد قسوة، وللقصة بداية ربما من المستحيل أن نمسك بطرفها بدقة، لكن الخوف كل الخوف أن نكون بصدد فصل النهاية بالفعل.
درجات حرارة مرتفعة بشكل قياسي
سجلت أوروبا ارتفاعات قياسية في درجات الحرارة هذا الصيف (2022)؛ إذ سجلت إسبانيا مطلع يونيو/حزيران أعلى درجة حرارة تشهدها البلاد في أوائل فصل الصيف منذ عشرات السنين، تراوحت بين 40 و42 درجة مئوية في سرقسطة (شمال شرق) ونافارا ولاريوخا (شمال)، بحسب هيئة الأرصاد الجوية الإسبانية.
وفي فرنسا، تجاوزت درجات الحرارة 40 درجة منذ منتصف يونيو/حزيران الماضي، مسجلة موجة الحر الأعلى على الإطلاق في البلاد منذ عام 1947. ويوم 17 يونيو/حزيران، ارتفعت درجة الحرارة على شواطئ البحر المتوسط في فرنسا من 22 درجة مئوية إلى 37 درجة خلال 3 ساعات فقط، في ظاهرة مناخية نادرة تُعرف باسم "الانفجار الحراري"، بحسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
وفي البرتغال، قالت وكالة الأرصاد البرتغالية إن مايو/أيار الماضي كان الأكثر سخونة خلال 92 عاماً. والأمر نفسه شهدته إيطاليا والتشيك وبريطانيا وأغلب دول القارة العجوز.
كانت تلك هي الموجة الأولى من الحر الخانق هذا الصيف، وظن الكثيرون أنه بنهايتها، ستعود الأمور إلى طبيعتها، وتصبح متوسطات الحرارة في العشرينيات على أقصى تقدير، لكن ما كشف عنه طقس يوليو/تموز وأغسطس/آب كان مرعباً، فما شهدته أوروبا خلال مايو/أيار ويونيو/حزيران لم يكن سوى الموجة الأولى من الحرارة المرتفعة لدرجة خانقة.
سجلت بريطانيا، خلال يوليو/تموز درجات حرارة قياسية تخطت 40 درجة مئوية، والأمر نفسه شهدته إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وألمانيا وباقي دول أوروبا، التي كانت عادة الملجأ للقادرين من سكان نصف الكرة الجنوبي للسياحة والاستمتاع بالأجواء المعتدلة الرطبة في ذلك الوقت من العام.
موجات الحر القائظ التي ضربت أوروبا هذا الصيف، الذي لا يزال مستمراً، بلغت 4 موجات متتالية، بدأت منذ مايو/أيار، أي إن هذا الحر غير المعتاد بالمرة بالنسبة للأوروبيين مستمر على مدار 4 أشهر متصلة، للمرة الأولى منذ أكثر من 5 قرون، بحسب خبراء الأرصاد الجوية.
لندن، المعروفة عالمياً باسم "مدينة الضباب"، أصبح طقسها قريباً من طقس الصيف في أغلب مدن نصف الكرة الجنوبي، ويا له من انقلاب قد يعجز الكثيرون عن تخيله، فما بالنا بمن يعيشون فيه ويكتوون بناره. والأمر لا يختلف كثيراً في العواصم والمدن الأوروبية الأخرى، وصولاً إلى الدول الاسكندنافية ذاتها، حيث كان إشراق الشمس في حد ذاته حدثاً يتطلعون إليه ويخرجون لاستقباله كونه نادر الحدوث على مدار العام.
ما المشكلة إذا ارتفعت درجات الحرارة؟
من البديهي، بالنسبة لأغلب سكان الشرق الأوسط، أن يتبادر السؤال إلى أذهانهم، ففي نهاية المطاف يعيش سكان الخليج والشام وشمال إفريقيا في ظل درجات حرارة مرتفعة للغاية خلال الصيف، تصل أحياناً إلى 50 درجة مئوية، والأمر معتاد ويتكيف معه الناس.
وفي إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا، هذه طبيعة فصل الصيف، حيث درجات الحرارة المرتفعة للغاية. وأوروبا قارة متقدمة للغاية وغنية أيضاً، أي أنها تمتلك الأدوات الكفيلة بالتخفيف من حدة درجات العالية، سواء من خلال المكيفات أو تقنيات استدرار الأمطار، على سبيل المثال. هكذا قد يفكر الكثيرون.
لكن القصة أكثر عمقاً وخطراً بكثير. فالحرارة المرتفعة بشكل مستمر لها أضرار من الصعب تصورها، أخطرها على الإطلاق اسمه "الجفاف". ويقول المولى عز وجل في القرآن الكريم: (وخلقنا من الماء كل شيء) صدق الله العظيم، والجفاف يعني ببساطة اختفاء الماء، أي اختفاء الحياة ذاتها.
وبالنسبة لقارة تحيط بها المياه من 3 جهات ورياح خليجية دائمة الهبوب من الجهة الرابعة، تصبح الأجواء الرطبة الباردة والمطيرة هي الأصل. وفي هذا السياق، تعتبر أوروبا القارة الوحيدة تقريباً التي لا تعرف "الأجواء الصحراوية" من الأساس. فالقارة العجوز لا توجد بها صحارى شاسعة، بل يقتصر وجود الصحراء بها على مناطق صغيرة "جرداء" يغلب عليها اللون الأصفر وليس الأخضر.
وعلى مستوى العالم، توجد 23 صحراء، لا توجد منها واحدة على الأراضي الأوروبية. لكن توجد بعض المناطق التي تشبه الصحراء، بالأساس من حيث غلبة اللون الأصفر، منها واحدة في منطقة خيرسون، جنوب أوكرانيا. وهذا في حد ذاته أمر يثير الدهشة؛ نظراً لأن أوكرانيا تُعرف بأنها "سلة غذاء" أوروبا، وتشتهر بمزارعها الشاسعة. تلك المنطقة في خيرسون لم تكن تختلف عن باقي أوكرانيا، إلا أنه في أزمان غابرة، استهلك الرعاة عشبها الأخضر كمراعٍ لماشيتهم، فحلت الرمال الصفراء محل الأعشاب الخضراء.